
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
وبعد، فإنّ مناسبات الحكم والموضوع عند بعض العلماء من القرائن المهمّة التي يعوّل عليها الفقيه في كثير من المقامات، ولكنّها عند بعضهم من الأدلّة المستقلّة، ولو فتّشت في بحوث علمائنا المعاصرين لعلّك لن تجدَ ـ في الجملة ـ فقيهاً واحداً لا يعمل بهذه المناسبات في أبحاثه الفقهية والأصولية، ويعبّرون عنها غالباً بأنّها قرائن عرفية ارتكازية من قبيل القرائن اللبّية المتّصلة التي تصرف الكلام عن ظاهره.
ومن خلال هذا البيان الموجز لطبيعة مناسبات الحكم والموضوع نكون قد وضعنا أناملنا على الوجه الصناعي لحجّيتها، فهي ترجع وفق رأي بعض العلماء إلى نحوٍ من أنحاء الظهور، وإذا كان الظهور حجّة فلا يفرّق فيه بين مناشئ تحقّقه. وأمّا من يسمّي حكمة التشريع باسم مناسبة الحكم والموضوع فليس الوجه في حجّيتها عنده منحصراً في رجوعها إلى الظهور، بل ربّما رجع إلى حجّية القطع، أو حجّية الاطمئنان. وهناك رأي آخر لبعض العلماء يرى أنّ مناسبة الحكم والموضوع دليلٌ مستقلّ؛ ولذا يمكن الاعتماد عليها حتّى في الأدلّة اللبّية كالإجماع مثلاً، والقائل بذلك هو المحقّق الأصفهاني S، وسيأتي التعرّض لكلامه مفصّلاً، ومن الواضح أنّ تفسيره لهذه المناسبات لا يستند إلى حجّية الظهور، فيحتاج أن يُلتمس لها دليل آخر.
هذا، وللسيّد الصدر S جهود مشكورة في رسم أبعاد هذه المسألة ـ وإن كانت مبعثرة في فقهه وأصوله ـ حيث سعى في هذه المواضع المختلفة لتقنين هذه المسألة من خلال تحليل طبيعة هذا الارتكاز الموجود عند العرف، وأنّه عبارة عن خبرة مشتركة، وذهنية موحّدة بين أفراد المجتمع، تشكّل أساساً لمرتكزات عامّة وذوق مشترك في مجالات عديدة بما فيها المجال التشريعي والتقنيني، وعلى ضوئها يفهم الفقيه بأنّ الشيء الذي يناسب أن يكون موضوعاً لحكم من الأحكام أوسع نطاقاً من الأشياء المنصوص عليها في الصيغة اللفظية، وعبّر عن هذه الظاهرة بـ(الفهم الاجتماعي للنصّ)، وهي تختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنصّ الذي يعني تحديد الدلالات الوضعية والسياقية للكلام(١) وإن كنّا نرى أنّ هذا ليس تفسيراً لما يعتمد عليه الفقهاء باسم (مناسبة الحكم والموضوع)، بل هو بيان لقرينة عامّة يسمّيها هو مناسبة الحكم والموضوع.
وكيفما كان فقد تخلّص S من خلال هذا المنظور من مشكلة تواجه الفقيه عند استنباط الحكم الشرعي، وهي أنّ كثيراً من الأحكام بيّنت عن طريق الجواب على أسئلة الرواة، ولم تبيّن بصورة ابتدائية وبلغة تقنينية، فكيف نتعدّى عن هذه الحالات الخاصّة إلى جعل تقنين عامٍّ؟
وأجاب عنه بأنّ مناسبة الحكم والموضوع تقضي بأنّ بيان الأحكام على تلك الحالات الخاصّة لم يكن في جميع الموارد نتيجة لاختصاصها بها، وإنّما نشأ عن اختصاص السؤال بتلك الحالات(٢).
كما أنّه في بحوثه الفقهية والأصولية سلّط الضوء كثيراً على طبيعة مناسبات الحكم والموضوع، وحاول استكناه حقيقة هذه القرينة، والحدود التي يمكن أن نعتمد فيها عليها، فهو يؤكّد في بحوثه في شرح العروة الوثقى على أنّ مناسبة الحكم والموضوع الارتكازية لمّا كانت ليست بنفسها موضوعاً للحجّية، وإنّما هي منشأ لإيجاد الظهور في الدليل اللفظي بوصفها من القرائن اللبّية المتّصلة به، وهذا الظهور هو موضوع الحجّية، فلا يتصوّر جريانها في الأدلّة اللبّية.
وقد أبدى S إعجابه بالتفصيل الذي جاء به (العلّامة مغنية) في كتاب (فقه الإمام الصادق g)، وحاصل هذا التفصيل: أنّه لا يمكن الاعتماد على مناسبات الحكم والموضوع في استنباط الحكم من النصّ إذا كان النصّ مرتبطاً بالعبادات؛ وذلك لأنّ نظام العبادات نظام غيبي لا تحكم عليه الارتكازات الاجتماعية، ولا صلة لها به، وأمّا إذا كان النصّ مرتبطاً بمجال حياتي اجتماعي من قبيل المعاملات فيجيء دور الفهم الاجتماعي للنصّ(٣).
هذا، والملاحظ أنّ الفقهاء يتمسّكون بمناسبة الحكم والموضوع كثيراً حتّى في أبواب العبادات المحضة، كالصلاة والصوم وغيرهما، وهذا يدعونا لإعادة النظر في حقيقة هذه المناسبة وحدودها، خصوصاً أنّها في بعض المساحات الضيّقة قد تشتبه بالقياس المردوع عن اشتمام رائحته في الشرع، وحيث إنّهم لم يفردوا لها عنواناً بالبحث، ولم يحرّروا حقيقتها بشكل تركن إليه النفس، مسّت الحاجة إلى إعادة النظر في موارد اعتمادهم عليها؛ لنستخرج بذلك ضابطةً نستطيع الاعتماد عليها في ممارساتنا الفقهية الاستدلالية.
وهذه الرسالة تسعى لمعالجة هذه القضية بمقدار ما يقتضيه المقام، أسأل الله تعالى بنيّة صادقة أن لا يحرمني أجرها، ويعمّ على جميع المحصّلين نفعها وخيرها.
القرائن المعنوية العامّة وأثرها في الدلالة
(مناسبة الحكم والموضوع أنموذجاً)
مقدّمة:
أثر القرائن المعنوية في الدلالة
قد يقوم الدليل اللفظي على حكمٍ ما بأن نجد آية أو رواية تثبت الحكم، فإنْ كانت النسبة بين دلالة مفردات الآية أو الرواية، وبين الحكم الذي يفتي به الفقيه، هي التساوي، وكان الدليل بحسب ما تفيده ألفاظه مطابقاً للفتوى، فلا بحث.
ولكنّ الدليل بحسب دلالة مفرداته لا يتطابق دائماً مع فتوى الفقهاء، بل قد يكون اللفظ الوارد في الدليل أعمّ من الحكم الذي يثبته الفقيه، وقد يكون لفظ الدليل أخصّ ولكنّ الفقيه يفهم من الدليل الذي لفظه عامّ معنىً خاصّاً، أو يفهم من الدليل الذي لفظه أو مورده خاصّ معنىً عامّاً من دون أن يكون في الدليل قرينة لفظية يستند إليها الفقيه في حمله اللفظ العامّ على المعنى الخاصّ، أو في حمله اللفظ الخاصّ على المعنى العامّ.
وقد وقع كثير من الناس في أخطاء فاحشة لغفلتهم عن أثر القرائن غير اللفظية، فظنّوا ما ليس بعامّ عامّاً، ومن أعظم ما ترتّب على هذه الغفلة اتّهام أهل القبلة بالشرك؛ لتوهّم أنّ كلّ آية منعت من دعاء غير الله تعالى يراد بها المنع عن مطلق الدعاء، وأنّ كلّ آية عدّت الاستعانة بغير الله تعالى شركاً، فالمقصود بها مطلق الاستعانة، ومن الوهم الآتي من هذا الباب أيضاً ما بني عليه من ردّ الرواية التي فيها: (حُبّ عليّ بن أبي طالب حسنة لا يضرّ معه سيّئة)(٤).
وربّما يظنّ أنّ الفقهاء يحملون النصّ الشرعي على غير ما أريد به اتّباعاً للهوى، أو استحساناً، أو تبرّعاً من دون موجب للحمل، أو تحكّماً من دون دليل.
ولكن هذا الظنّ ليس في محلّه؛ فإنّ العلماء قد تنبّهوا لأثر القرائن المعنوية (غير اللفظية) في دلالة الكلام منذ عهد بعيد، فقالوا: (لفظه عامّ ومعناه خاصّ)، وقالوا: (عامّ أريد به الخاصّ)، وهذا يعني أنّهم أدركوا أنّ اللفظ العامّ محفوف بقرينة معنوية دلّت على أنّ المراد به الخاصّ.
وقد اختلفت عبارات العلماء في تسمية هذه القرينة المعنوية، وتخريج مثل هذا الفهم، ليس في الفقه فقط، بل في التفسير، وفي شرح الحديث، وغيرها.
والمهمّ عندنا هي وجوه التخريج التي جاءت على لسان الفقهاء، وهي عديدة، كمفهوم الموافقة، والأولوية، وقياس المساواة، والجزم بالخصوصية أو بعدمها، والحمل على المثالية، وتنقيح المناط، والانصراف، وحكمة التشريع، والقرينة الحالية (شهادة الحال)، والقرينة المعنوية، والقرينة العقلية، وفهم العرف، والارتكاز العرفي، والارتكاز العقلائي، والذوق السليم، وشمّ الفقاهة، ومعرفة لحن القول ومعاريضه، والمخصّص العقلي، والمخصّص المعنوي، وعدم تعقّل الفرق، والأنسب بالحكم، والأقرب إلى الاعتبار، والورود في مورد الامتنان، وأقرب المجازات، والمخصص اللبّي، والجميع يشترك في أنّها قرائن معنوية (غير ملفوظة). ولعلّك تجد بينها عبارات متعدّدة لمعنىً واحد، وربّما كان بعضها تطويراً لبعض وتحسيناً له.
أهمّية القرائن المعنوية
ولعمري إنّ تأثير القرائن غير الملفوظة على دلالة الكلام أكبر وأكثر من تأثير القرائن الملفوظة، بل لا نكاد نجد جملةً تخلو من قرينة أو أكثر من القرائن المعنوية (غير الملفوظة)، سواء أكان ذلك في اللغة العربية، أم في غيرها من اللغات.
قال المحقّق البحراني S عن أثر بعضها: (ولو خُصّت الأحكام بموارد الأخبار وإن لم تعلم الخصوصية لضاقت الشريعة، ولزم القول بجملة من الأحكام من غير دليل، وهو ظاهر البطلان)(٥)، وقال عن بعض القرائن المعنوية: (فإنّه لا يخفى أنّ جُلّ الأحكام الشرعية التي صارت عند الأصحاب قواعد كلّية إنّما استفيد حكمها من جزئيات السؤالات المخصوصة، وخصوص وقائع جزئية)(٦)، وهو كما قال.
وإذا كان هذا مبلغ أثر قرينة واحدة من القرائن المعنوية فكيف بتأثيرها بأجمعها؟!
ولعلماء أصول الفقه وعلوم القرآن كلمات جيّدة في إيضاح بعض القرائن، لكنّي لم أجد تحريراً مستوعباً لهذه القرائن وأنواعها، ومقدار أثرها على الدلالة، وشروط تأثيرها.
وكان حريّاً بعلم الأصول أن يعقد لهذه القرائن مسائل عديدة لدراستها؛ فإنّها جديرة بالبحث.
ولسنا نقول: إنّ العلماء قد غفلوا عن هذه القرائن، أو غفلوا عن أثرها على الدلالة؛ فإنّ كلّ عارف بالكلام يعرف أثر القرائن المعنوية، حتّى لو كان طفلاً صغيراً ولو كان في الخامسة من عمره. لكن علم الأصول لم يوضع للتنبيه على القواعد التي يغفل عنها الناس، بل الغرض منه عصمة استنباط الأحكام عن الخلل، حاله حال علم المنطق الذي دوّنت فيه قواعد يجري عليها كلّ عاقل، حتّى الأطفال. وحال علم النحو الذي كتبت فيه قواعد يجري عليها المتكلّم الفصيح بالعربية وإن كان صغيراً.
لكن العلماء وضعوا المنطق لصيانة التفكير عن الخطأ، والنحو لصيانة اللسان عن اللحن. فكذلك علم الأصول، وضع لصيانة صناعة الاستنباط عن الخطأ، ببيان القواعد التي تراعى فيه، وبيان شروطها، وحدود ما تثبته.
فينبغي أن يدخلوا بحث: (القرائن المعنويّة) في علم أصول الفقه، لصيانة استنباط الأحكام عن الخلل الناشئ من الغفلة عن القرائن غير الملفوظة، أو الغفلة عن شروطها، أو عن مقدار أثرها، وحدوده.
ولا يخفى أنّ القرائن المعنوية كثيرة، وربّما غفل أهل المحاورة عن بعضها، ولكنّهم لا يغفلون عن أثرها. لكن القرائن العامّة منها قليلة، ويمكن أن تدخل في علم الأصول لمعرفة: ضوابطها، وشروطها، ومقدار تأثيرها.
وحيث إنّنا أشرنا إلى حجّة من رمى أهل القبلة بالشرك، بسبب غفلته عن أثر القرائن في تقييد المطلقات، فيحسن بنا أن ننبّه على كلام بعض أسلافه في ذلك، وأهل مذهبه، فإنّه بالقبول منهم أحقّ، وبالأخذ عنهم أرجى.
قال الشافعي (ت ٢٠٤هـ) في باب (بيان ما نزل من الكتاب عامّ الظاهر يراد به كلّه الخاصّ) من الرسالة: (وقال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(٧) .. ولم يكونوا هم الناس كلّهم .. وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}(٨). قال: فمخرج اللفظ عامّ على الناس كلّهم، وبيّنٌ عند أهل العلم منهم أنّه إنّما يراد بهذا اللفظ العامّ المخرج بعض الناس دون بعض)(٩).
وقال ابن عبد البرّ (ت ٤٦٣هـ) في كتاب التمهيد لما في الموطّأ: (ومعروف من كلام العرب الإتيان بلفظ العموم والمراد به الخصوص، ألا ترى إلى قول الله a: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}، وهذه الإشارة في الناس إنّما هي إلى رجل واحد أخبر أصحاب محمّد e أنّ قريشاً جمعت لهم، وجاء اللفظ كما ترى على العموم. ومثله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}، {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} ومثل هذا كثير لا يجهله إلّا من لا عناية له بالعلم)(١٠).
وقال أبو حيان الأندلسي (ت ٧٤٥هـ) في تفسير قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ}: (إطلاق العامّ ويراد به الخاصّ لا يحتاج إلى دليل لكثرته)(١١).
وقال الطاهر بن عاشور (ت ١٣٩٣هـ) في التحرير والتنوير: (لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص، ولا إطلاق ما قصد منه التقييد؛ لأنّ ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد، أو إلى إبطاله من أصله وقد اغتر بعض الفرق بذلك. قال ابن سيرين في الخوارج: إنّهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين، فوضعوها على المسلمين، فجاؤوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب)(١٢).
أهمّ موارد القرائن المعنويّة العامّة
ثمّ إنّ القرائن العامّة وإن كانت لها آثار مختلفة على دلالة الكلام، فقد تفيد تخصيص العامّ، وقد تفيد تعميم الخاصّ، وأنّ الخاصّ مذكور من باب المثال، وقد تفيد أنّ العنوان المذكور في الكلام ليس له موضوعية، لا عموماً ولا خصوصاً، بل هو عنوان مشير، وقد تفيد غير ذلك، ولا غنى لطالب الفقه عن دراسة القرائن المعنوية العامّة، وآثارها المختلفة على دلالة الكلام، إلّا أنّ أكثر موارد القرائن المعنوية العامّة هي المطلقات.
ولعلّك لو فتحت أيّ كتاب حتّى القرآن الكريم لن تجد ثلاثة أسطر تخلو عن قرينة معنوية تقيّد مطلقاً، ولو سألت أيّ عارف باللغة عن المراد بها لأجابك: إنّ إطلاقها غير مقصود.
والقرائن المعنوية العامّة كثيرة، وأثرها في الدلالة عظيم، واختلاف الفقهاء في فهم الروايات والآيات في كثير من مواضع الاختلاف ينشأ عن القرائن العامّة، فمنهم من يثبتها في موردٍ ما، ومنهم من ينفيها، وكما يختلفون في إثباتها ونفيها، فإنّ المثبتين لها يختلفون في تشخيصها، وتحديد مقتضاها. وليس أثر القرينة المعنوية بالذي يحتاج إلى مزيد توضيح، فإنّ أثرها من المسلّمات، وهو في وضوحه لا يقلّ عن أثر القرينة اللفظية، وإنّما أردنا أن نجعل الحديث عن أثر القرائن المعنوية تمهيداً ومدخلاً لما نحن بصدده من الحديث عن (القرائن المعنوية العامّة).
ولأنّ هذا البحث لم يحرّر في علم الأصول تجد العلماء يحاولون توجيه ردّهم لما فهمه عالم آخر بعبارات لا تخلو من نظر.
بحث القرائن المعنوية لا يخصّ اللغة العربية
ومن الطريف أنّ بحث القرائن العامّة وإن كان من لواحق بحث الدلالة وما يؤثّر فيها، إلّا أنّه لا يخصّ اللغة العربية، فإنّ أكثر القرائن المعنوية العامّة والتي تؤثّر على دلالة الكلام موجودة في عامّة اللغات. ومن هنا قد نجد فقيهاً غير عربي أجود فهماً للنصّ العربي من فقيه عربي، وما ذاك إلّا لأنّه تفطّن للقرينة غير اللفظية، وأثرها على دلالة النصّ، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنّ أثر التفطّن للقرائن المعنوية على الدلالة في فهم الكلام أعظم من أثر الدقّة في تحديد مدلول المفردات. على أنّ تشخيص معاني المفردات يتيسّر بالرجوع إلى المعاجم اللغوية، وكتب الغريب، والاستعمالات الفصيحة في القرآن الكريم، والنصوص الفصيحة، وهو أمر ميسور لغير العربي، فيسعه أن يعوّض ما ينقصه من الوجدان اللغوي الذي يمتاز به العربي. وأمّا التنبّه للقرينة غير الملفوظة، وتشخيص مقدار أثرها فليس ثمّة ما يعوّضه، ويجبر النقص الذي يحدث بفقده.
نعم، لمعرفة الكنايات والمجازات العربية أثر بالغ في فهم الكلام العربي زيادة على أثر معرفة معاني المفردات مادّةً وهيئة، ومعرفة هيئات الجمل، وما يسمّى بـ(التراكيب الكلامية)، ولكن الطريق إلى معرفة كل ذلك معبّد، وقد وضعت علوم متعدّدة لخدمة ذلك الغرض، كالنحو والصرف والبلاغة والمعاجم، فإذا لم نعرف المراد بمادّة من الموادّ رجعنا إلى المعاجم، وإذا أشكل علينا معنى هيئة رجعنا إلى كتب الصرف، وهكذا.
وأمّا القرائن العامّة فلم يوضع لدراستها علم، ولم تحرّر مسائلها في شيء من العلوم التي تعنى بدراسة الدلالات اللغوية فيما نعلم.
ومن هنا عددنا أثر القرائن العامّة في فهم الكلام أعظم من أثر غيرها؛ لأنّها عامل لم يخدم، وما سواه من عوامل الدلالة قد خدم، إلّا بعض هيئات الجمل، ومن هنا قد يمتاز غير العربي في فهم الكلام العربي على العربي، وكم رأينا في الفقهاء ممّن لسانه فارسي أو تركي وفهمه أقرب إلى العرف.
ولست أريد المفاضلة بين الفقيه العربي وغيره، فإنّ التفطّن للقرائن غير اللفظية يحصل للعربي وغيره، وربّما كان العربي أفطن، وربّما كان غيره أفطن، والغالب أنّ من كان للقرائن المعنوية العامّة أفطن كان للفهم الصحيح أقرب.
والمقصود: أنّ للقرائن غير الملفوظة سهماً كبيراً في دلالة الكلام، خصوصاً في تقييد الإطلاقات، وأنّ جهة البحث فيها ليست خاصّة بلغة بعينها.
فمن القرائن كون الأمر مسبوقاً بالنهي، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}(١٣)، وهذه القرينة تغيّر دلالة الأمر على الطلب، وتجعله دالَّاً على رفع الحظر، والعربي وغيره سواء في التنبّه لأثر هذه القرينة.
ومن القرائن رواج نقد معيّن في البلد، فإذا قال البائع: بعتك الدار بعشرة آلاف، فلا يحتاج إلى ذكر تمييز هذه العشرة آلاف، ولو جاءه المشتري بعشرة آلاف حصاة محتجّاً بأنّ البائع قد أطلق كلامه كان فعله مضحكاً، ولو طلب البائع عشرة آلاف سبيكة ذهب لم يكن قوله مقبولاً؛ لأنّ قوله ظاهر في إرادة نقد البلد، والقرينة على ذلك معنوية غير ملفوظة، والعربي وغيره سواء في التنبّه لأثر هذه القرينة.
ولو أسقطنا أثر القرائن المعنوية العامّة في تقييد المطلقات لأفادت معاني لا تخطر ببال سامع أو قارئ، وإليك بعضها:
١ ـ قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}(١٤).
فإنّ (المغضوب عليهم) ليس في الكلام ما يقيّده، ولو كان إطلاقه مقصوداً لم يوجد له مصداق، فإنّك لا ترى أحداً إلّا وله من هو غاضب عليه، حتّى الأنبياء، فإنّ لهم خصوماً وأعداءً غاضبين عليهم. ولكنّنا نجزم أنّ هذا الإطلاق غير مقصود، بل المقصود مقيّد، والقرينة عليه ظاهرة، ولم يخفَ ذلك حتّى على أعداء الدين.
٢ ـ قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(١٥).
فإنّ كلمة (الغيب) في الآية ليس لها لفظ يقيّدها، ولو كان إطلاقها مقصوداً لاقتضت الإيمان بغيب كثير، فما أدّخره في بيتي غائب عن غيري، وما في بيوتهم غائب عنّي، وما في البحار غائب عنّي، والأمم الماضية وما جرى لها غائب عنّا، والأمم الآتية وما سيجري عليها غائب عنّا، فهل توهّم أحد حسن الإيمان بذلك الغيب؟!
٣ ـ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}(١٦).
فإنّ كلمة (المجالس) ليس في الآية لفظ يقيّدها، ولو أريد إطلاقها لاقتضى الوعد بالثواب (يفسح الله لكم) حتّى لمن فسح في مجالس اللهو والقمار.
٤ ـ قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}(١٧).
فإنّ كلمة (من في الأرض) ليس في الآية لفظ يقيّدها، ولو كان إطلاقها مقصوداً لدلّت على أنّ الملائكة يستغفرون حتّى لفرعون وهامان وسائر الكفّار والمعاندين.
٥ ـ قال تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا}(١٨).
ألا يخاف المؤمن بربّه من ظلم المتجبّرين، ورهق المرض؟
٦ ـ قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(١٩).
فهل فهم أحد من هذه الآية أنّ الذين ينفقون أموالهم في القمار والميسر وغيرهما من المحرّمات أيضاً لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم؟! وهل فهم أحد منها أنّ الذين ينفقون أموالهم في الخيرات لا خوف عليهم مطلقاً، حتّى من عدوان المتجبّرين من بني جنسهم؟! وأنّهم لا يحزنون مطلقاً، حتّى لو فقدوا عزيزاً؟!
٧ ـ قال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}(٢٠).
فهل رأيت أحداً فهم منه الاستعاذة من شرّ الأنبياء والملائكة؟!
فهذه أمثلة قليلة لظاهرة كبيرة في اللغة، لا نقصد اللغة العربية خاصّة، بل جميع اللغات، وهي على الإجمال ظاهرة يدركها حتّى الأطفال، وقد تنبّه العلماء لهذه الظاهرة، فعبّروا عن المطلقات التي لا يراد إطلاقها: (عامّ أريد به الخاصّ). ومن هؤلاء العلماء الشيخ المفيد S، قال في المسألة الثامنة من المسائل السروية: (فصل في أصناف أحاديث الأئمّة i. وفي الجملة، إنّ أقوال الأئمّة i كانت تخرج على ظاهر يوافق باطنه الأمن من العواقب في ذلك. ويخرج منها ما ظاهره خلاف باطنه للتقيّة والاضطرار. ومنها ما ظاهره الإيجاب والإلزام، وهو في نفسه ندب ونفل واستحباب. ومنها ما ظاهره نفل وندب، وهو على الوجوب. ومنها عامّ يراد به الخصوص، وخاصّ يراد به العموم، وظاهر مستعار في غير ما وضع له حقيقة الكلام، وتعريض في القول للاستصلاح والمداراة وحقن الدماء.
وليس ذلك بعجيب منهم ولا ببدع، والقرآن الذي هو كلام الله a وفيه الشفاء والبيان قد اختلفت ظواهره، وتباين الناس في اعتقاد معانيه، وكذلك السنّة الثابتة عن النبيّ S، فالعلماء على اختلافٍ في معنى كلامه g فيها، ومع ذلك كلّه فالناس ممتحنون في الأخبار وسماعها: فساه في النقل، ومتعمّد فيه الزيادة والنقصان، ومبدع في الشريعة، متصنّع لحسن الظاهر يقصد به إضلال العباد. والله موفّق للصواب)(٢١).
وقال السيّد المرتضى S في رسائله: (المخصوص من جهة الخطاب الذي أريد به بعض ما يقتضيه ظاهره)(٢٢).
وقال قطب الدين الراوندي S في الخرائج: (وقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فيه أجوبة:
أحدها: أنّ فيه إضماراً، أي إن رأيت لكم مصلحة في الدين، وقد صرّح به في قوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ}.
والثاني: أنّ الدعاء هو العبادة، أي اعبدوني بالتوحيد أجزكم عليه، يدلّ على ذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}.
والثالث: أن يكون اللفظ عموماً والمراد به الخصوص، وهذا في العرف كثير)(٢٣).
وقال العلّامة الحلّي S في القواعد: (قاعدة: مبنى اليمين على نيّة الحالف، فإذا نوى ما يحتمله اللفظ انصرف الحلف إليه، سواء نوى ما يوافق الظاهر أو يخالفه، كالعامّ يريد به الخاصّ، كأن يحلف: لا آكل كلّ لحم، وينوي نوعاً معيّناً، وكالعكس مثل أن يحلف: لا شربت لك ماء من عطش، ويريد به قطع كلّ ما له فيه منّة. وكالمطلق يريد به المقيّد، وكالحقيقة يريد بها المجاز، وكالحقيقة العرفية يريد بها اللغوية، وبالعكس)(٢٤).
وقال فخر المحقّقين S في إيضاح الفوائد: (لا يجوز أن يخاطب بالعامّ ويريد به الخاصّ من غير قرينة)(٢٥).
وقال الشهيد الثاني S في الروضة: ((و) الوصية (للفقراء تنصرف إلى فقراء ملّة الموصي)، لا مطلق الفقراء وإن كان جمعاً معرّفاً مفيداً للعموم، والمخصّص شاهد الحال الدالّ على عدم إرادة فقراء غير ملّته، ونحلته)(٢٦).
وقال في الفوائد الملية: (وعن الصادق g: الصلاة خلف العالم بألف ركعة، وخلف القرشي بمائة، وخلف العربي خمسون، وخلف المولى خمس وعشرون. والمراد بالعالم هنا العالم بالعلوم الدينية والأحكام الشرعية كالعلم بالله تعالى وبكتابه وسنّة نبيّه، وما يتوقّف عليه من المقدّمات، والعلم بكيفية طهارة القلب، وتزكية النفس مع استعمالها على وجهها، لا مطلق العالم، كما نبّه عليه e في قوله: علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل، فإنّ العلماء لا يشبهون الأنبياء إلّا على الوجه الذي ذكرناه، وقوله e: العلماء ورثة الأنبياء، فإنّ الأنبياء لم يورّثوا مجرّد الرسم، وغير من ذكر من العلماء لا تعلّق لهم بوراثة الأنبياء، بل هم إلى خلافة أضدادهم أشبه، وإليهم أميل. وأوضح دلالة في ذلك قوله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} حصر الخشية فيهم على وجه العموم، وهو يدلّ على أنّ العلم الذي لا يوجب القرب إلى الله تعالى والخشية منه لا يكون علماً على الحقيقة، وظاهر أنّ مطلق العلم لا يوجب ذلك، إنّما يوجبه ما ذكرناه، بل القسم الأخير منه، وأمّا ما قبله فهو من شرائطه ومقدّماته)(٢٧).
وقال في حاشيته على الشرائع: (قوله: ولو وقف على المسلمين انصرف إلى مَن صلَّى إلى القبلة ـ أي من اعتقد وجوب الصلاة إليها حيث تكون الصلاة واجبة ـ والمراد انصرافه إلى مَن دان بالشهادتين، واعترف بما علم من الدين ضرورة، ومنه الصلاة إليها وإنْ لم يصلّ، حيث لا يكفر بذلك. ويلحق به أطفاله ومجانينه تبعاً.
قوله: ولو وقف على المؤمنين انصرف إلى الاثني عشرية، وقيل: إلى مجتنبي الكبائر، والأوّل أشبه.
الإيمان يطلق على معنيين: عامّ وخاصّ، فالعامّ هو التصديق القلبي بما جاء به النبيّ، والإقرار باللسان كاشف عنه، وهو أخصّ من الإسلام، وهذا المعنى هو المراد حيث يُطلق المؤمنون في القرآن. والخاصّ قسمان:
أحدهما: أنّه كذلك مع العمل الصالح، بمعنى كون العمل جزءاً منه، وصاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وهذا مذهب الوعيدية.
والآخر: هو اعتقاد إمامة الأئمّة الاثني عشر، وهذا هو المعنى المتعارف بين الإمامية.
فإذا وقف واقفٌ على المؤمنين وأطلق فإنْ كان من الإمامية انصرف الوقف إلى الاثني عشرية؛ لأنّه المعروف عنده من هذا الإطلاق، وإنْ كان من غيرهم فظاهر المصنّف والأكثر كونه كذلك. وهو مشكل؛ لأنّ ذلك غير معروف عنده، ولا قصده متوجّه إليه، فكيف يحمل عليه؟! وليس الحكم فيه كـالمسلمين في أنّ لفظه عامّ فينصرف إلى ما دلّ عليه اللفظ وإنْ خالف معتقد الواقف، كما قرّرناه من إطلاقه على معانٍ تختلف بحسب المصطلحين، والمعنى الذي اعتبره أكثر المسلمين هو المعنى الأوّل، فلو قيل: نحمله عليه إذا كان الواقف غير إمامي كان حسناً، أو يقال: نحمله على المعنى الذي يعتقده الواقف بشهادة الحال. والأصحّ أنّه لا يشترط اجتناب الكبائر، خلافاً للشيخ رحمه الله)(٢٨).
بل قال الحرّ العامليّ S في الفصول المهمّة: (بل تواترت الأخبار عن الأئمّة i بأنّ في القرآن عامّاً وخاصّاً، وأنّ فيه ما لفظه عامّ ومعناه خاصّ، وما لفظه خاصّ ومعناه عامّ)(٢٩).
هذه بعض عبارات العلماء، وقد تبيّن لك منها تفطّنهم للقرائن المعنوية، والتفاتهم إلى ظاهرة الاعتماد على القرائن غير الملفوظة.
ولكنّهم سكتوا عن بيان طرق معرفة المعنى الخاصّ، وتشخيص المقدار المقصود من اللفظ العامّ، إلّا نادراً.
وطريق معرفة ذلك هو: القرائن المعنوية، ومن تلك القرائن قرينة مناسبة الحكم والموضوع.
مناسبة الحكم والموضوع
لا يخفى عليك أنّ ما بات يعرف بـ(مناسبة الحكم والموضوع) أخذ مساحةً واسعة في العصور المتأخّرة في فضاء البحث الفقهي، فلا تكاد ترى كتاباً في الفقه المستدلّ إلّا وترى فيه هذه العبارة.
وعلى الرغم من كثرة اعتمادهم عليها إلّا أنّها كسائر القرائن المعنوية لم تعطَ حقّها في علم الأصول، بل صارت كالذي يسمّى في العربية: (سرّ المهنة)، وفي الفارسية: (فوت كوزه كري).
فما هو المراد بها؟ وما وجه حجّيتها؟ وما هي شروط الاحتجاج بها؟ وما هو مقدار أثرها؟ كلّ ذلك يحتاج عقد بحث تأصيلي، وتحرير مسألة له في علم أصول الفقه، ليجاب فيها عن هذه الأسئلة وغيرها.
مسألتنا في علم الأصول
إنّ البحث عن (مناسبة الحكم والموضوع) بحث مهمّ، ويندرج تحت بحث: (القرائن المعنوية العامّة)، ومحلّه علم أصول الفقه.
ويمكننا القول إنّ علم أصول الفقه إن كان قد اكتشف نصفه بعد انفتاح البحث عن الأصول العملية فإنّ بحث القرائن إن لم يكن أكثر من مباحث الألفاظ المدوّنة، فليس بأقلّ منها أهمّية ولا سعة.
وهذا الواقع يدعو إلى دراسة مناسبة الحكم والموضوع في بحثٍ تأصيلي، وإدراجه في القواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي، والتي يبحث عنها في علم أصول الفقه، فدراستها تدعو إلى تحرير مسألة جديدة في مسائل أصول الفقه.
لكن البحث عنها باعتبار أنّها قرينة معنوية عامّة تؤثّر على دلالة الكلام يجرّنا إلى تحرير مسائل متعدّدة تشابهها، وهذا يدعونا إلى فتح فصلٍ جديد في علم أصول الفقه، وهو فصل القرائن المعنوية العامّة. وإذا نظرنا إلى (مناسبة الحكم والموضوع) باعتبارها من القرائن، وفتحنا فصلاً باسم القرائن، أي ما يؤثّر على دلالة الدليل، فيلزمنا أيضاً أن نفتح قسماً جديداً للأدلّة، وهي أربعة، فناسب إفراد كلّ واحدٍ منها بباب يخصّه.
تقسيم مقترح لمباحث السُنّة في علم الأصول
وعلى هذا فاللازم أن نرسم هيكلاً جديداً لمباحث الأدلّة، فنجعل لها أبواباً أربعة:
الأوّل: الكلام.
الثاني: السكوت.
الثالث: الأفعال.
الرابع: التروك.
وفي الباب الأول وهو البحث عن دلالة الكلام يجعل البحث في فصول، ومن هذه الفصول بحث (القرائن)، ثم تقسّم القرائن إلى: عامّة وخاصّة، والقرائن الخاصّة أكثر من أن تحصى، وليست لها ضابطة عامّة، فتترك، ونبحث عن القرائن العامّة فقط.
ثمّ تقسّم القرائن العامّة إلى: لفظية وغير لفظية.
وكما أنّ دلالة الألفاظ تتأثّر بما يوجب تضييقها، أو تغييرها، أو توكيدها، بالقرينة اللفظية، فإنّها أيضاً تتأثّر بما يوجب ذلك من القرائن غير اللفظية.
وقد جعل علماء الأصول الأدلّة الأربعة موضوعاً لعلم الأصول، وأكثرها اعتماداً هو السنّة. وعرّفوا السنّة بأنّها قول المعصوم، أو فعله، أو تقريره. لكنّهم اقتصروا على دراسة مسائل متّصلة بدلالة القول فقط، وكان ينبغي أن يحرّروا مسائل تدرس دلالة فعل المعصوم، وأخر تدرس دلالة تقريره.
ولعلّ عذرهم أنّ دلالة التقرير واحدة، بخلاف دلالة الكلام، فإنّها تتعدّد بعدد أنواع التركيب، وأساليب البيان، فوجب عقد مسائل لدراسة دلالات الألفاظ دون دلالة التقرير.
ولكن لو قبلنا هذا العذر عن دراسة التقرير، فما هو عذرهم في ترك تحرير مسائل لدراسة دلالات الفعل، خصوصاً أنّ الأفعال مختلفة، ودلالتها مختلفة. لا أقول إنّها في كثرتها وتنوّعها كالأقوال، لكنّها ليست نوعاً واحداً كالتقرير.
ومن هنا يظهر أنّ علم الأصول لم يستوفِ الحديث عن الأدلّة؛ لأنّه درس دلالة الألفاظ، وكان اللازم أن يدرس أيضاً دلالة السكوت، ودلالة الأفعال والتروك. ففي الحقيقة نحن ندرس شيئاً قليلاً ممّا يلزم أن يدرس.
وقد تنبّه العلماء لتأثّر الدلالة بالقرائن المعنوية من قديم الزمن، سواء أكانوا من علماء أصول الفقه، أم من علماء التفسير، أم من علماء البلاغة، فإنّ من يرجع إلى كتبهم يجدهم قد تنبّهوا إلى أنّ بعض القرائن غير الملفوظة تؤثّر على دلالة اللفظ، بل يجدهم صنّفوا القرائن إلى أصناف، فتراهم يصطلحون على بعض القرائن بالقرائن المعنوية، وعلى بعضها بالقرائن العقلية، وعلى ثالثة بالقرائن الحالية.
بل نجد العلماء ـ والفقهاء منهم خاصّة ـ قد استندوا إلى عدّة قرائن معنوية عامّة، كامتناع الإطلاق، والورود في مورد الامتنان، وغيرها ممّا تقدّم.
وإذا كانت كلّ هذه القرائن تؤثّر في دلالة الألفاظ، فأين موضعها من البحث التأصيلي؟ وأين انعكاسها في علم الأصول؟ ولماذا لم يبحث عنها في علم الأصول مع كونها من القواعد الممهّدة لاستنباط الحكم؟
إذن فنحن بحاجةٍ إلى استيعاب القرائن اللفظية وغير اللفظية المؤثّرة في الكلام، ثمّ التعرّض لأقسام هذه القرائن، ومقدار دلالتها. وللأسف لم يبحث شيء من ذلك في مباحث الأصول، فلم يترجم التفاتهم إلى هذا الطيف الواسع من القرائن إلى تحرير بحث تأصيلي في علم الأصول لدراسة القرائن وأنواعها ودلالتها.
والاعتذار عن ذلك بصعوبة الضبط كما صنع عبد الملك الجويني، الملقّب بإمام الحرمين (ت ٤٧٨هـ) في البرهان في أصول الفقه، حيث قال: (ولو رام واجد العلوم ضبط القرائن ووصفها بما تتميّز به عن غيرها لم يجد إلى ذلك سبيلاً، فكأنّها تدِقُّ عن العبارات، وتأبى على من يحاول ضبطها بها)(٣٠).
كما أنّ الاحتجاج بأنّ نطاق النطق يضيق عن التعبير عنها، كما احتجّ القاءاني الحنفي (ت ٧٧٥هـ)(٣١)، غير مقبول؛ فإنّ العلم إنّما وضع لأجل أن توصف به المسائل والقواعد، وكما يقول عمرو بن معدي كرب:
|
إذا لم تستطع أمراً فدعه |
|
وجاوزه إلى ما تستطيع |
وربّما اعتذر بأنّ القرائن في غاية الكثرة، ولا يمكن حصرها، والعلوم إنّما تكتب فيها القواعد التي يمكن حصرها وضبطها.
ويجاب عنه: بأنّ القرائن وإن كانت كذلك، إلّا أنّ لكلّ فنّ قرائن عامّة كثيرة الدوران فيه، بل يوجد في القرآن الكريم قرائن كثيرة الدوران فيه، وكذلك في الروايات الشريفة. ومع ذلك لم تمنع كثرة القرائن اللفظية العامّة وصعوبة ضبطها عن أن يُحرّر في علم الأصول جملة منها، فلا مجال للقول: إنّ كثرة القرائن العامّة غير اللفظية هي التي حالت دون تحريرها في علم الأصول، وليكن حال ما لم يذكر منها في علم الأصول ممّا يظهر بمعرفة ما يذكر منها، فهذا ليس بعذر.
موضع مسألتنا في أصول الفقه
علم ممّا تقدّم أنّ مسألة (مناسبة الحكم والموضوع) تندرج في بحث القرائن العامّة غير اللفظية على فرض أنّها قرينة عامّة، كما هو أحد التفسيرات فيها، ولعلّه الأشهر. وأمّا على تقدير أن تكون دليلاً مستقلَّاً فموضعها في مسائل الأصول أظهر.
نعم، على تقدير أن تكون من موجبات الاطمئنان بحكمة التشريع أو اليقين بها، فيصعب تصنيفها في مسائل أصول الفقه.
لكن دخولها في مسائله على أحد الأقوال فيها، بل على أحد المحتملات كافٍ، فلا حاجة إلى إتعاب النفس في توجيه دخولها على جميع التقديرات.
وقد ذكر العلماء تعريفات متعدّدة للمسألة الأصولية، وهي متقاربة، كما أنّها قريبة للصواب، منها: أنّ المسألة الأصولية هي ما يستنبط منه الحكم، أو الوظيفة الشرعية أو العقلية تجاهه. وهذه الضابطة تنطبق على مناسبة الحكم والموضوع، ولو على بعض الأقوال فيها؛ فإنّها إذا كانت قرينة على المراد بالكلام، فهي تقع في طريق استنباط الحكم.
إذا عرفت هذا فالكلام في مناسبة الحكم والموضوع يقع في جهات:
الجهة الأولى: في إشارة إجمالية لتاريخ المسألة.
الجهة الثانية: في مفادها ومضمونها.
الجهة الثالثة: في الدليل على اعتبارها، ومقدار حجّيتها، وموارد جريانها.
الجهة الرابعة: في الفرق بينها وبين القياس.
الجهة الخامسة: في ذكر جملة من موارد تطبيقها.
وسيدور البحث في هذه الحلقة عن الجهتين الأوّليين، ونرجئ البحث عن الباقي إلى الحلقة اللاحقة إن شاء الله تعالى.
الجهة الأولى
تاريخ هذه المسألة
إنّ المتتبّع لكتب علوم اللغة يجد بوضوح أنّ للحديث عن ظاهرة المناسبة والتناسب في كلماتهم مواضع متعدّدة، ومسائل متفرّقة، فالنحاة يشترطون: (مراعاة التناسب بين المعطوف والمعطوف عليه)، و(التناسب بين السؤال والجواب)(٣٢)، و(التناسب بين المضاف والمضاف إليه)(٣٣). ومنها قولهم: إنّ الكسرة مناسبة للياء، والفتحة للألف، والضمّة للواو، وأمثال ذلك. ومن ذلك قول ابن هشام في مغني اللبيب في معاني حرف (لو) من أنّها: (تدلّ على ثلاثة أمور: عقد السببية والمسببية، وكونهما في الماضي، وامتناع السبب، ثمّ تارةً يعقل بين الجزئين ارتباط مناسب، وتارةً لا يعقل)(٣٤).
ومنه أيضاً قولهم في وجه اختصاص المثنّى بالألف وجمع المذكّر السالم بالواو، أنّ ذلك: (لمناسبة الألف بخفّته لقلّة عدد المثنّى، والواو بثقله لكثرة عدد الجمع)(٣٥). وقول الرضي الاسترآبادي x (ت ٦٨٦هـ) في العلل المانعة من الصرف: (أنّ قول النحاة: إنّ الشيء الفلاني علّة لكذا لا يريدون به أنّه موجب له، بل المعنى أنّه شيء إذا حصل ذلك الشيء ينبغي أن يختار المتكلّم ذلك الحكم؛ لمناسبة بين ذلك الشيء وذلك الحكم. والحكم في اصطلاح الأصوليين: ما توجبه العلّة، وإيّاه عنى المصنّف بقوله: وحكمه أن لا كسر ولا تنوين)(٣٦).
وقال القاضي الأحمد نگري (ت ق ١٢هـ) في دستور العلماء إنّ العِلَّة عند النحاة: (ما ينبغي أَن يختار المتكلّم عند حُصُوله أمراً يناسبه وذلك الأمر المناسب حكمه وأثره، لا بِمَعْنى المُوجِب)(٣٧).
ومنها: ما ذكره البلاغيون من محسّنات الوصل بعد وجود المصحّح من تناسب الجملتين في الاسمية والفعلية، وتناسب الجملتين الفعليتين في المضيّ والمضارعة(٣٨). وقولهم في وجه تسمية السجع بذلك: (إنّما سمّي السجع سجعاً لاشتباه أواخره، وتناسب فواصله)(٣٩). وقولهم في موارد متعدّدة، كالمدح والذمّ: (الأنسب للمقام كذا).
ومنها: في كتب اللغة، ما جاء في مجمع البحرين في مواضع متعدّدة:
الأوّل: في مادة (كير)، قال: (في حديثٍ: الحجّ والعمرة ينفيان الفقر كما ينفي الكير خبث الحديد(٤٠). الكير: كير الحدّاد، وهو زقّ أو جلد غليظ ذو حافات ينفخ فيه، وأمّا المبنيّ من الطين فكور لا كير، وجمع الكير كيَرَة كعِنَبة، وأكيار وكيرات. قال بعض الشارحين: يروى مضمومة الخاء ساكنة الباء، وعلى الأوّل يعني ما تبرزه النار من الجواهر المعدنية التي تصلح للطبع، فيخلّصها على تميّزه عنها من ذلك، وعلى الثانية يعني به الشيء الخبيث، والمعتدّ به هو الأوّل؛ لأنّه أكثر وأشبه بالصواب؛ لمناسبة الكير ولمصادفته المعنى المراد فيه)(٤١).
الثاني: في مادّة (غمر)، قال S: (قوله تعالى: {فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا} أي في منهمك من الباطل، وقيل في غطاء وغفلة، والجمع غَمَرَات، مثل: سجدة وسجدات. والغَمْرَةُ: الشدّة، والجمع غُمَر، مثل: نوبة ونوب. قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ}، أي: في حيرتهم وجهلهم. وفي الدعاء: الحمد لله الذي من خشيته تموج البحار ومن يسبح في غمراتها. قيل عليه غَمَرَاتُ الموت شدائده. والغَمْرُ: الماء الكثير، ولا مناسبة لحمله على المعنى الأوّل، والمناسبة حمله على المعنى الثاني، لكنّه لم يجمع على غمرات فربّما وقع تصحيف فيه)(٤٢).
الثالث: في مادّة (سوك)، قال: (في الحديث: الاسْتياكُ بماء الورْد. وكأنّ الباء للمصاحبة. وظاهره جواز صحّة استعماله في المضمضة المستحبّة. ودونها خرط القتاد. ولعلّ الإضافة لأدنى ملابسة. وفي بعض النسخ: (الاستيال) باللام بدل الكاف. وعليها الاستيال بمعنى التسوّل، وهو التزيّن مطاوع للتسويل، وهو تحسين الشيء وتزيينه. يعني به هنا الأغسال التي هي للنظافة والتزيين كغسل الجمعة والإحرام. قال: وأمّا بالكاف بمعنى التمصمص بالمهملتين، ومعناه الاغتسال من الدنس للتنظيف والتطهير. وأصله من مصمص إناه: إذا غسله وجعل فيه الماء وحرّكه. وأمّا جعله بمعنى التمضمض بالمعجمتين من مضمضة الوضوء لمناسبة السواك كما تكلّفه فرق من المتكلّفين، فمن ضعف التحصيل وقلّة البضاعة ـ انتهى، وهو كما ترى)(٤٣).
ومنها: في تفسير القرآن، ما جاء في تفسير قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}(٤٤)، بأنّه على وجه الهزء والسخرية؛ فإنّ المفسّرين لم يأخذوا بالمدلول الحرفي لكلمتي العزيز والكريم، لجزمهم بأنّ المراد بهما في الآية الشريفة ليس المدح ولا التبجيل؛ لأنّه خطاب لمن يُلقى في جهنّم، وأيّ إذلال أعظم من ذلك، فمناسبة المقام قرينة على إرادة التهكّم.
وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ}(٤٥): (اختلف المفسّرون في أنّ قوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} خطاب لمن؟ فقال الأكثرون إنّه خطاب للأولياء. وقال بعضهم: إنّه خطاب للأزواج، وهذا هو المختار، الذي يدل عليه أنّ قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} جملة واحدة مركّبة من شرط وجزاء، فالشرط قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، والجزاء قوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}. ولا شكّ أنّ الشرط وهو قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}خطاب مع الأزواج، فوجب أن يكون الجزاء وهو قوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} خطاباً معهم أيضاً، إذ لو لم يكن كذلك لصار تقدير الآية: إذا طلّقتم النساء أيّها الأزواج فلا تعضلوهن أيّها الأولياء، وحينئذٍ لا تكون بين الشرط وبين الجزاء مناسبة أصلاً، وذلك يوجب تفكّك نظم الكلام، وتنزيه كلام الله عن مثله واجب، فهذا كلام قويّ متين في تقرير هذا القول)(٤٦).
وقال في موضع آخر: (وإنّما حسن تفسير لفظ معيّن لشيء معيّن إذا حصل بين ذلك اللفظ وبين ذلك المعنى مناسبة. أمّا إذا لم تحصل هذه الحالة كان ذلك التفسير فاسداً، فإذا فسّرنا العدل بشيء والإحسان بشيء آخر، وجب أن نبيّن أنّ لفظ العدل يناسب ذلك المعنى، ولفظ الإحسان يناسب هذا المعنى، فلمّا لم نبيّن هذا المعنى كان ذلك مجرّد التحكّم، ولم يكن جعل بعض تلك المعنى تفسيراً لبعض تلك الألفاظ أولى من العكس)(٤٧).
وفي تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَـاتِ وَالْهُدَى}(٤٨)، وهل هو في كلّ من كتم، أو في اليهود خاصّة؟ قرّب العموم، واحتجّ له بوجوه:
(ثانيها: أنّهثبت أيضاًَفي أصولالفقه أنّترتيب الحكمعلى الوصفمشعر بكون الوصف علّة لذلك الحكم لا سيّما إذا كان الوصف مناسباً للحكم، ولا شكّ أنّ كتمان الدين يناسبه استحقاق اللعن من الله تعالى، وإذا كان هذا الوصف علّة لهذا الحكم وجب عموم هذا الحكم عند عموم الوصف)(٤٩).
ومنها: في علوم القرآن، ما قاله الزركشي (ت ٧٩٤هـ) في النوع الثاني من علوم القرآن تحت عنوان: (معرفة المناسبات بين الآيات)، قال: (واعلم أنّ المناسبة علم شريف، تحرز به العقول، ويعرف به قدر القائل فيما يقول.
والمناسبة في اللغة: المقاربة، وفلان يناسب فلاناً، أي يقرب منه ويشاكله، ومنه النسيب الذي هو القريب المتّصل، كالأخوين وابن العمّ ونحوه وإن كانا متناسبين بمعنى رابط بينهما، وهو القرابة. ومنه المناسبة في العلّة في باب القياس: الوصف المقارب للحكم؛ لأنّه إذا حصلت مقاربته له ظنّ عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم؛ ولهذا قيل: المناسبة أمرٌ معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. وكذلك المناسبة في فواتح الآي وخواتمها، ومرجعها ـ والله أعلم ـ إلى معنىً ما رابط بينهما عامّ أو خاصّ، عقلي أو حسّي أو خيالي وغير ذلك من أنواع العلاقات. أو التلازم الذهني، كالسبب والمسبّب، والعلّة والمعلول، والنظيرين، والضدّين، ونحوه. أو التلازم الخارجي، كالمرتّب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر.
وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء. وقد قلّ اعتناء المفسّرين بهذا النوع لدقّته؛ وممّن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي، وقال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط. وقال بعض الأئمّة: من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض، لئلا يكون منقطعاً. وهذا النوع يهمله بعض المفسّرين، أو كثير منهم، وفوائده غزيرة.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين: ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتّى تكون كالكلمة الواحدة متّسقة المعاني منتظمة المباني، علم عظيم لم يتعرّض له إلّا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثمّ فتح الله a لنا فيه، فلمّا لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، ورددناه إليه. وقال الشيخ أبو الحسن الشهراباني: أوّل من أظهر ببغداد علم المناسبة ولم نكن سمعناه من غيره هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول على الكرسيّ إذا قرئ عليه الآية: لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة)(٥٠).
وقد أفرد ما سمّاه الزركشي بعلم (مناسبة الآيات والسور) العلّامة أبو جعفر بن الزبير شيخ أبي حيّان بالتأليف في كتاب سمّاه: (البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن)، وكذلك صنع الشيخ برهان الدين البقاعي في كتاب سمّاه: (نظم الدرر في تناسب الآي والسور)، وكتاب السيوطي الذي صنعه في أسرار التنزيل كافل بذلك، جامع لمناسبات السور والآيات، مع ما تضمّنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة، وقد لخّص منه مناسبات السور خاصّة في جزء لطيف سمّاه: (تناسق الدرر في تناسب السور)(٥١).
وقال بعض المختصّين في علوم القرآن من المعاصرين: (من الضروري لزوم رعاية المناسبة القريبة بين عنوان المسند إليه وفحوى مدلول المسند، وذلك فيما إذا تعنون المسند إليه بوصفٍ خاصّ، فإنّه يجب حينذاك من مراعاة ما بين هذه الصفة والحكم المترتّب على ذي الصفة من علاقة سببية أو شبهها، وهي التي لاحظها علماء الفنّ فيما أثر منهم: (مناسبة الحكم والموضوع). وهذا كقولنا: (العلماء باقون ما بقي الدهر)، حيث كانت خاصّية صفة العلم وآثاره البنّاءة هي التي تستدعي الخلود للعلماء، ومن ثَمّ قد يستشم نوعية المخبر به من نفس عنوان المخبر عنه، قبل أن ينطق بالمخبر به، كما في قول الشاعر:
|
إنّ الذي سمك السماء بنى لنا |
|
بيتاً دعائمه أعزّ وأرفع |
فقد لمسنا عظمة المخبر به ورفعة شأنه من عنوان (سامك السماء) الذي جاء في الموضوع)(٥٢).
وأمّا عند الفقهاء فتعدّ مسألة (مناسبة الحكم والموضوع) من أبرز القرائن العامّة المعنوية، وهي مسألة جديدة الظهور نسبياً، ولعلّ أوّل من تنبّه لها هو الفقيه الهمداني S (ت ١٣٢٢هـ).
نعم، في عدّة الأصول للشيخ الطوسي S قال: (هذا، وذهب بعض أصحاب الشافعي كالجويني والغزّالي في المنخول دون المستصفى إلى التفرقة بين الصفة المناسبة مع الحكم، كقوله S: في سائمة الغنم زكاة، فقالوا فيه بالمفهوم، وبين الصفة التي لا توجد فيها مناسبة الحكم كقول القائل: الأبيض يشبع إذا أكل، فقالوا فيه بعدم المفهوم)(٥٣).
وقد فصّل الشهيد الثاني S في المسالك في حكم الأمة المتزوّجة لو طلّقت، ثمّ أعتقت في العدّة بين المطلّقة رجعياً فتكمل عدّة الحرّة؛ لأنّ الرجعية زوجة، وبين المطلّقة البائنة فتكمل عدّة الأمة، ثمّ نقل روايتين مطلقتين: في إحداهما تعتدّ عدّة الحرّة، وفي الأخرى تعتدّ عدّة المملوكة، ثمّ قال: (والجمع بينهما بحمل الأوّل على الرجعي والثاني على البائن؛ لمناسبة الحكم)(٥٤).
وسواء أكان الفقيه الهمداني S هو مكتشف هذه القرينة، أم سبقه غيره باكتشافها، فإنّه لا شكّ أنّه أكثر من استحضرها، فلا تجد لهذا التركيب الثلاثي قبله عيناً ولا أثراً(٥٥).
وسرعان ما شاع هذا التعبير على لسان العلماء وانتشر في أروقة الحوزة، حتّى عند معاصري الفقيه الهمداني S، وهذا شيءٌ ملفت للنظر، فنجد مثلاً السيّد محمّد آل بحر العلوم S (ت ١٣٢٦هـ) ـ وهو معاصر للفقيه الهمداني S ـ في كتاب بلغة الفقيه يوظّف هذا التعبير في بعض الموارد(٥٦)، وقد كثر الاعتماد على هذه المناسبة عند المحقّقين من علمائنا بعد ذلك كالمحقّقينَ: النائيني والأصفهاني والعراقي S، فإنّك تجدهم يعملونها باطّراد، ولعلّهم يستعملون هذا التعبير في غير مناسبة الحكم والموضوع من القرائن غير اللفظية، وهذا لا يعني أنّهم يسمّون كلّ قرينة غير لفظية بمناسبة الحكم والموضوع، ولكنّك تكاد تفهم منهم في بعض المقامات أنّهم يقصدون بذلك الاستعمال القرينةَ المعنوية، لا خصوص مناسبة الحكم والموضوع.
وقد يُظنّ أنّ لمناسبة الحكم والموضوع ـ كمفردة قانونية ـ بعداً زمنياً أعمق من زمن الفقيه الهمداني S؛ اعتماداً على ما نقله المحقّق الشيخ حسين الحلّي S في أصول الفقه عن أستاذه المحقّق النائيني S، حيث قال: (وإنّما قيّدنا المناسبة بكونها عرفية احترازاً عمّا ذكره الشهيد S في الأخبار الدالّة على إرث الزوجة مطلقاً، والأخبار الدالّة على عدم الإرث، بحمل الأُولى على ذات الولد، والثانية على غير ذات الولد، من جهة مناسبة الحكم للموضوع المستفادة من التعليل الوارد في بعض أخبار المنع، بأنّها تدخل عليهم من لا يحبّون، فإنّه يستفاد منه كون غير ذات الولد قدراً متيقّناً، وإنّما احترزنا عنه لأنّ هذه المناسبة ليست مناسبة عرفية يطّلع عليها كلّ أحد، فلا تكون موجبةً لكون موردها قدراً متيقّناً في مقام التخاطب، كي يكون نصّاً فيها)(٥٧).
ولعلّه استفاد ذلك من عبارة الشهيد الثاني S (ت ٩٦٦هـ) في رسالته المفردة في إرث الزوجة، حيث قال: (ووجه الجمع حمل تلك الأخبار على غير ذات الولد، وهذه على ذات الولد؛ لمناسبة كلّ واحدة لحكمها دون العكس)(٥٨). وقال في المسالك في مسألة التفرقة بين الأطفال وأمهاتهم: (وجمع جماعة بين الروايات بحمل السبع على الأنثى، والحولين على الذكر، لمناسبة الحكمة في احتياج الأنثى إلى تربية الأمّ زيادةً على الذكر)(٥٩). وفيه أيضاً في مسألة الأمة لو أعتقت ثُمّ طلّقت: (والجمع بينهما بحمل الأوّل على الرجعي والثاني على البائن؛ لمناسبة الحكم)(٦٠).
وقال الفاضل الهندي S (ت ١١٣٧هـ) في مسألة مزاحمة صلاة الليل للفريضة: (فلا اضطرار إلى ما في التهذيب والاستبصار من أنّ من أدرك أربعاً من صلاة الليل جاز له أن يتمّها قبل فريضة الصبح، والأفضل التأخير. ولا إلى ما في المنتهى من ترجيح الخبر الأوّل بعدم الإضمار، وباعتضاده بعمل الأصحاب، وبمناسبة الحكم من حيث المحافظة على السنن)(٦١).
ولكنّ التأمّل يعطي خلاف ذلك؛ فإنّ ما جاء في هذه الكلمات من باب المناسبة بين العلّة والحكم المرتّب عليها، ومنه: (مناسبة الحكمة للحكم)، وهي قاعدة فقهية مقرّرة عندهم(٦٢)، وقد مثّل لها المقداد السيوري S (ت ٨٢٦هـ) بالنجاسة في وجوب الغسل؛ فإنّها مستقذرة طبعاً، فناسب ذلك وجوب الإزالة بالغسل وشبهه، والزنا في وجوب الحدّ؛ لأنّه مؤدّ إلى اختلاط الأنساب، فيقع التقاطع والتدابر، فناسب وجوب الحدّ الرادع عنه، والقتل عمداً للمكافي في وجوب القصاص؛ فإنّه سبب في زهاق الأنفس المطلوب بقاؤها للقيام بعبادة الله، فجعل الرادع عنه القتل ليكون سبباً في بقاء الحياة، كما أشار إليه سبحانه بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}(٦٣).
وأمّا السبب في اصطلاحهم (مناسبة الحكمة للحكم) فلا يظهر فيه مناسبة وإن كان مناسباً في نفس الأمر كما بيّن في الأصول، مثاله الدلوك وباقي الأوقات للصلوات، والحدث الموجب للوضوء والغسل، والاعتداد مع عدم الدخول، واستئناف العدّة في المسترابة بعد التربّص، والهرولة في السعي، ورمي الجمار، فإنّ العقل لا يهتدي إلى وجه الحكمة المقتضية لنصب هذه الأشياء أسباباً دون غيرها، أو شروطاً، أو موانع. فالحكمة الظاهرة فيها مجرّد الإذعان والانقياد.
سبب انتشار مناسبة الحكم والموضوع
والسبب في انتشار هذه القرينة قد يُعزى إلى اعتماد صاحب الكفاية S عليها في بعض المواضع، كمبحث حجّية قطع القَطّاع(٦٤)، وفي البحث الذي عقده تحت عنوان (تتمّة) لبيان اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب، وأنّ المناط في الاتّحاد هو النظر العرفي(٦٥)، وحيث إنّ كتابه من الكتب الأصولية المهمّة التي تدرّس في المنهج الدراسي في الحوزة العلمية، وما من طالب علمٍ إلّا ويقف على هذا الكتاب، فلعلّ هذا ساعد على انتشار الاعتماد على هذه القرينة أكثر ربّما من الدور الذي قام به الفقيه الهمداني، الذي لعلّه يُعدّ مكتشف هذه القرينة.
بل ربّما كان صاحب الكفاية S هو المؤسّس لها، وأخذها الفقيه الهمداني منه وإن كان أكثر استناداً لها، وهذه مسألة تاريخية، والأمر فيها سهل، وإنّما تذكر تشويقاً.
مراد العلماء بمناسبة الحكم والموضوع
إنّ تحقيق مراد العلماء المتأخّرين في الفقه والأصول الذين يستندون إلى هذه القرينة، بعد أن تركوا بيان ذلك بنحوٍ ينضبط به المقصود منها، وأغفلوا بيان وجه صلاحيتها للاحتجاج، يقطع علينا السبيل للجزم بمعرفة مرادهم، إلاّ بملاحظة موارد استفادتهم منها. ويكون تطبيق هذا المنهج في تحديد المقصود من هذه القرينة مجمعاً بين التأصيل والتطبيق. كما أنّ لذكر تطبيقاتهم وموارد توظيفهم لهذه القرينة مآرب أخر غير ملاحظة الخصوصيات في الاستفادة، منها: استذكار جملة متفرّقة من الفروع الفقهية في الأبواب المختلفة.
وسيأتي عليك أنّ الذي يظهر من أكثر كلمات الأعلام: أنّ مناسبة الحكم والموضوع، قرينة تبيّن المراد بالكلام الذي تحتفّ به.
الجهة الثانية
في مفادها ومضمونها
مرّ عليك في تاريخ المسألة أنّ الفقيه الهمداني S له السبق في توظيف (مناسبة الحكم والموضوع) بهذا التركيب الثلاثي في المباحث الفقهية والأصولية، وأنّ أصل المسألة كان لها حضور في أذهان أرباب العلوم قبله، فإنّ الحديث عن المناسبة والتناسب شائع في العلوم، وقد تكرّر في عبارات النحويين، والمفسّرين، وعلماء البلاغة، وغيرهم من أرباب العلوم في مواضع متعدّدة؛ فإنّهم إذا نظروا إلى عبارة مجملة تحتمل وجوهاً من المعاني، ورجّحوا منها معنى على آخر، قالوا: إنّ ذلك المعنى أنسب بالحكم من غيره. وغير خفيّ عليك أنّ هذا من باب الترجيح بالتناسب بين الحكم والموضوع، وإن لم يصرّحوا بذلك.
وللوقوف على حقيقة مناسبة الحكم والموضوع ينبغي علينا أوّلاً أن نوضّح المقصود الدلالي من الكلمات المأخوذة في عنوان المسألة في اللغة، ومن ثمّ نحاول الوصول إلى مقصود العلماء من هذه العناوين في الاصطلاح.
المعنى اللغوي
أمّا المعنى اللغوي لكلمة (المناسبة) فهي بمعنى القرابة والمشاكلة(٦٦)، يقال: فلانٌ يناسب فلاناً فهو نَسِيبُه، أي: قريبه. ويقال: فلان نَسيبي، وهم أنسبائي، وقد ناسبوني. وتقول: ليس بينهما مناسبة، أي: مشاكلة(٦٧). ومن المجاز: بين الشيئين مُناسبةٌ وتَناسُبٌ. وكذا قولهم: لا نِسْبَةَ بينَهمَا، وبينهما نِسْبَةٌ قَريبة(٦٨). ونَسَبَ الشاعر بالمرأة، إذا شَبَّبَ بها، سمّي نسيباً؛ لأنّه قريب من المرأة.
وهذه الاستعمالات فيها ضرب من ضروب التنزيل والتوسعة، والذي يعنينا أنّها بأجمعها تدخل في الاستعمالات اللغوية، ولا يعنينا التصنيف المصطلح عند علماء البلاغة، وهل هي حقيقة أو مجاز؟
وقد ذهب ابن فارس إلى أنّ جميع هذه الكلمات ترجع إلى معنى واحد، وهو الاتّصال والقرابة، قال في معجم مقاييس اللغة في مادّة (نسب): (النون والسين والباء كلمةٌ واحدة قياسُها اتّصال شيءٍ بشيء، منه النسَب، سمِّي لاتّصاله وللاتّصال به، تقول: نَسَبْتُ أنْسِبُ،. وهو نَسِيبُ فلانٍ، ومنه النسيبُ في الشعر إلى المرأة، كأنّه ذِكْرٌ يتَّصِل بها، ولا يكون إلَّا في النساءِ، والنسيبُ: الطريق؛ لاتّصال بعضِه من بعض)(٦٩).
هذا كلّه في معنى كلمة (المناسبة).
ولا يخفى أنّ معنى المناسبة بحسب العرف، واستعمالات أبناء العربية في زماننا يساعد على ما ذكره ابن فارس؛ لأنّهم يقصدون بالمناسبة: الملاءمة، والمواءمة، والانسجام، وإن لم يتضمّن مشابهة، بل يرون مناسبة بين الضدّين، كما في الألوان، فإنّ المختّصين بتناسق الألوان في الجدران أو الثياب أو الأثاث، يجمعون بعض الألوان مع بعض، ولا يرضون بوضع بعض آخر، ويقولون: هذا مناسب لهذا، وذاك غير مناسب له.
ومرادهم: أنّ الذوق يستحسن الجمع بينهما.
قال الشاعر في يتيمته:
|
فالوجهُ مثل الصبح مُبيَضُّ |
|
والشعرُ مثل الليلِ مُسوَدُّ |
|
ضدّانِ لمّا استَجْمَعا حَسُنا |
|
والضدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضدُّ |
وعلماء البلاغة والمختّصون بعلوم القرآن يعدّون الأذُن مناسبة للموعظة مع أنّه لا مشابهة بينهما؛ فإنّ الموعظة كلام مسموع، وهو عَرَض، والأذُن آلة، وهي جوهر، لكنّهم يقولون: الموعظة مناسبة للأذُن.
وإذا جعلنا كلام أهل البلاغة وعلوم القرآن شاهداً على المعنى العرفي فالمناسبة عند العرف هي الصلة والارتباط، وهو ما قاله ابن فارس.
وأمّا كلمة (الحكم) و(الموضوع)، فهي تعني ما يسمّيه علماء النحو بالمسند والمسند إليه.
المعنى الاصطلاحي
وأمّا المعنى المصطلح عند علمائنا عندما يعبّرون بمناسبة الحكم والموضوع ـ وهو الذي يهمّنا في المقام ـ ففيه احتمالات:
الاحتمال الأوّل: أن يكون مرادهم المشابهة والمشاكلة.
وهذا الاحتمال مدفوع؛ لأنّ الأحكام في الغالب من الاعتباريات، وموضوعاتها موجودات عينية خارجية، ولا يمكن القول: إنّ هذا الموجود العيني مشابه لذلك الأمر الاعتباري، ومثال ذلك: (الدم نجس)؛ فإنّ النجاسة حكم اعتباري تشريعي والدم موجود عيني، فأين التشابه بينهما؟ ولذا لا يمكننا تفسير مقصودهم من التناسب بين الحكم والموضوع بالتشابه بينهما.
الاحتمال الثاني: أن يكون مرادهم بها الأليقية.
ويدفعه أنّ لازمه أن يتحكّم العرف في حدود موضوع الحكم الشرعي، وأنّه الذي يفرض على الشارع أنّ هذا الموضوع أقرب من ذاك إلى حكمك، وأليق به، وأحقّ من ذلك الموضوع العامّ. فلو قال المولى: (يجب إكرام المؤمن)، فيتصرّف العرف فيه، ويقول: إنّك تعني بالمؤمن هنا خصوص المؤمن التقي، لكونه أليق بالإكرام من غيره من المؤمنين؟ إلّا أن يقال: إنّ المراد باشتراط التناسب هو الجزم بعدم ثبوت الحكم للأفراد الذين لا يناسبهم الحكم، فالتناسب هو اللياقة، ولكن ليس التناسب شرطاً، بل عدم التناسب مانع، والمراد بعدم التناسب هو التنافر، فقول المولى: (أكرم المؤمن) يحمل على (غير المتهتّك) مثلاً؛ لأنّ المتهتّك غير لائق بوجوب الإكرام. وبعبارةٍ أخرى: لا بدّ أن يكون الإطلاق غير مقبول عند العرف.
لكنّه يقلب القرينة من (مناسبة الحكم والموضوع) إلى (منافرة الحكم للموضوع)، وهذا تفسير لكلامهم بمعنى بعيد.
الاحتمال الثالث: أن يكون مرادهم ضرباً من القرب المعنوي.
لأنّنا لا نحتمل أنّهم يريدون القرب المكاني أو الزماني؛ لأنّ الحكم قد لا يكون أمراً مكانياً ولا زمانياً، مثل الأحكام الاعتبارية فإنّ الوجوب والتحريم والطهارة والنجاسة أمور تشريعية اعتبارية، وليست موجودات زمانية ولا مكانية. وإنّما المحتمل أن يراد ضرب من القرب المعنوي.
ووجه هذا القرب المعنوي بين الحكم والموضوع هو قوّة احتمال إرادة الحكم الخاصّ عند إثباته لموضوع معيّن، فهذا هو الراجح في معنى التناسب بين الحكم والموضوع.
وكأنّنا نقول: إنّ المقصود بالحكم المثبت لهذا الموضوع هو هذا الحكم على الأرجح، والمقصود بالموضوع الذي أثبت له الحكم هو هذا الموضوع على الأرجح، إمّا توسعةً أو تضييقاً أو غير ذلك من التغييرات التي يحدثها هذا الترجيح، وسيأتي التعرّض لها مفصّلاً في الأبحاث اللاحقة، وعلى هذا فمآل مناسبة الحكم والموضوع هو الظنّ، وأنّ المظنون إرادة هذا المعنى.
ولكن هذا المعنى لا يتناسب مع ما نعرفه من علمائنا الأبرار من رسوخهم وتمكّنهم في العلم، وثبات قدمهم فيه، مع وضوح أنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، فلا بدّ أن لا يكون هذا محلّ كلامهم، ولا هو المقصود من مناسبة الحكم والموضوع عندهم.
وعليه فمقصودهم من هذه المناسبات هو حصول اليقين أو الاطمئنان عندهم بإرادة حصّة خاصّة في موارد تقييد موضوع الحكم مثلاً، أو إرادة عدم خصوصية العنوان المذكور في مواضع التعميم، وأمثال ذلك بنحوٍ يعود ما يريدونه من مناسبة الحكم والموضوع إلى ما هو حجّة عندهم، لا إلى الظنّ الذي ليس بحجّة، ولا تقوم به حجّة.
وهذا التفسير لمرادهم من المناسبة بين الحكم والموضوع يرجع إلى أمرٍ شخصيّ، ويخرجه عن القرائن العامّة. إلّا أنّهم مع ذلك يعبّرون عن هذه المناسبات بـ (العرفية) و(الارتكازية)، وهذه العبارات تعطي أنّ مناسبة الحكم والموضوع معنى يقوم بالآخرين، لا بأنفسهم خاصّة.
ويمكن أن يكون مقصودهم بالتعبير بـ(العرفية) و(الارتكازية) بيان أنّ الجزم الذي استندوا إليه في تحديد موضوع الحكم ليس أمراً ذاتياً، بل هو أمر موضوعيّ.
فإن قلت: قد وقع الخلاف بين العلماء في الاطمئنان الذي هو حجّة، أهو الاطمئنان النوعي أم الاطمئنان الشخصي؟ فكيف ترجعون (مناسبة الحكم والموضوع) إلى الاطمئنان بحدود الموضوع المقصود بالعنوان المذكور في لسان الدليل إلى الاطمئنان النوعي، والحال أنّ بعض العلماء ـ كالسيّد الخوئي ممّن يتمسّك بهذه المناسبة(٧٠) ـ لا يرى الاطمئنان النوعي حجّة، فإنّه قد تمسّك بمناسبة الحكم والموضوع كثيراً، مع أنّه لا يرى الاطمئنان النوعي حجّة، بل لا يرى القطع النوعي حجّة؟!
قلنا: قد يكون ذلك لاعتقاد أنّ مناسبة الحكم والموضوع شيء آخر غير الاطمئنان بالمراد، أو يكون المقصود سدّ باب الطعن عليهم، كمن يرى الحجّة هو الظهور الواصل إلى درجة الاطمئنان بإرادته، فإنّك تجده أحياناً في البحث الفقهي يقول: العرف يفهم من هذا التعبير هذا المعنى، فيسند هذا الفهم إلى العرف، لا لأجل بيان جهة الحجّية والاعتبار عنده، فإنّ جهة الحجّية هي اطمئنانه الشخصي، بل قصده من دعوى الظهور العرفي سدّ باب الطعن عليه؛ ليقول: إنّ هذا الاطمئنان ناشئ من أسس موضوعية، وليس اطمئناناً ذاتياً. وقد يكون ذلك من جهة أنّ الحجّة عنده هو الاطمئنان الشخصي الموضوعي، فلهذا العمل مخارج متعدّدة.
الاحتمال الرابع ـ وهو الأقرب لتطبيقاتهم ـ: أن يراد بها علم المخاطب بشمول الحكم أو عدم شموله لبعض أفراد الطبيعي.
إذا نظرنا إلى عبارة (مناسبة الحكم والموضوع) وحدها ـ ومع قطع النظر عن موارد تطبيقها، وما يستظهرونه في كلّ مورد بالاعتماد عليها ـ فإنّ تحليلها يقودنا إلى أنّ مرادهم بها هو علم السامع بعدم ثبوت الحكم للطبيعي على سعته وإن لم يُذكر قيد لفظي في الكلام.
وأمّا منشأ علم السامع بذلك فيختلف من مورد لآخر، فقد يكون علمه بذلك ناشئاً من استحالة ثبوت الحكم للطبيعي استحالة ذاتية، وقد يكون ناشئاً من استحالة ثبوته للطبيعي من جهة امتناع ذلك على الحاكم، ويظهر الفرق بين العلم الناشئ من هذا السبب عن سابقه فيما لو جاء مثل هذا الحكم عن غير هذا الحاكم في صفته الموجبة لامتناع الإطلاق في حقّه. وقد يكون ناشئاً من بيان المتكلّم حكم حصّة من ذلك الطبيعي، وأنّها بخلاف الحكم المطلق. وهذا يدخل في التخصيص بالمنفصل، سواء أكان المخصّص متأخّراً أم متقدّماً. وقد يكون ناشئاً من معرفته بغرض المتكلّم من جعل الحكم، وعلمه بخلوّ بعض حصص الطبيعة من ذلك الغرض، والعلم بالغرض إن حصل من طريق العقل فهو راجع إلى السبب الأوّل أو الثاني، وإن حصل من طريق الارتكاز العرفي أو المتشرعي كان في قبالهما.
ومناسبة الحكم والموضوع بهذا التفسير ترجع في بعض مواردها إلى (القرينة العقلية) كما في السبب الأوّل والثاني، بل والثالث من وجه، وترجع في بعضها إلى (قرينة المقام) كما في العلم بالغرض.
لكنّ الذي لاحظناه في أكثر موارد اعتماد الفقهاء على مناسبة الحكم والموضوع أنّهم يريدون بهذا المركّب المؤلّف من الكلمات الثلاث: تنقيح المناط، واستكشاف حكمة التشريع، أو استنباط علّة الحكم بدرجة يطمئنون بكونها علّةً للحكم.
فمرادهم من كلمة (المناسبة) معنى ينسجم مع المعنى الذي يقصدونه بهذا المركّب، وهو تنقيح المناط، فما هو معنى (مناسبة) الذي يتوافق مع إرادة (تنقيح المناط)، و(غرض التشريع) من قولهم (مناسبة الحكم والموضوع)؟
لعلّ ذلك المعنى هو علاقة بين الحكم والموضوع، وارتباط بينهما، وأنّ العرف يدرك هذا الارتباط بينهما، لأنّه يرى الغرض من هذا الحكم قائماً بهذه الحصّة خاصّة والغرض من ذلك الحكم قائماً بتلك الحصّة خاصّة، وهكذا.
والأقرب في توجيه تسمية هذه القرينة بالمناسبة: أنّ المناسبة بمعنى الصلة والارتباط، وحيث إنّ الحكم تشريع اعتباري، والموضوع ربّما كان أمراً واقعياً، وليست بينهما صلة، فكيف عدّوا الصلة بينهما قرينة؟
والجواب: أنّ التشريع الاعتباري له ملاك يصحّحه، والملاك قائم بالموضوع، وهذا الملاك هو الصلة بين الحكم وموضوعه، والحكم يتبع الملاك في أصل وجوده، وفي حدوده وقيوده، فإذا كان الملاك في الطبيعة على سعتها، فيشرع الحكم للطبيعة كذلك، وإذا كان الملاك في حصّة خاصّة من الطبيعة، فيجب تخصيص الحكم بتلك الحصّة، ولا مصحّح لتشريع حكم يتعلّق بما وراء الحصّة التي فيها الملاك.
ولعلّك تقول: هذا التوجيه إنّما يتمّ في الأحكام التكليفيّة، فإنّها تابعة لملاك قائم بمتعلّقاتها، وأمّا الأحكام الوضعية فليس له مجال فيها؛ لأنّ ملاكاتها فيها نفسها، لا في متعلّقاتها، فهو توجيه ناقص، بل إنّ أكثر موارد استناد الفقهاء إلى مناسبة الحكم والموضوع هو الأحكام الوضعية، بل قسم خاصّ من الأحكام الوضعية، وهي المعاملات.
والجواب: أنّ أحكام المعاملات لا تخلو من ملاكات في موضوعاتها، فالحكم بلزوم البيع مثلاً ناشئ من ملاك في البيع، لا في اللزوم، ولو كان البيع مثل الربا لاستوى لزوم البيع ولزوم الربا، فيصير الترجيح بلا مرجّح.
والحاصل: أنّ المناسبة هي الصلة، ومناسبة الحكم للموضوع هي كون الحكم معلولاً للموضوع، وكون الموضوع علّة للحكم، والمراد بكونه علّة كونه مصحّحاً لتشريعه، وذلك باشتمال الموضوع على الملاك.
فإذا قال: إذا لمست كلباً فطهّر يدك، وقلنا: إنّ مناسبة الحكم والموضوع تقيّد ذلك بكونه برطوبة مسرية، فالمقصود: أنّ الناس يمكنهم معرفة الملاك الموجب لتطهير اليد، وهو سراية القذارة من الكلب الممسوس إلى اليد الماسة، وهذه السراية خاصّة بما إذا كان المسّ برطوبة، فالحكم بالانفعال خاصّ بذلك.
كل هذا من أجل التوفيق بين ما تدلّ عليه كلمة (مناسبة) وبين ما يستفاد من استدلالات الفقهاء، لكن الأمر في هذا سهل؛ لأنّ عبارة (مناسبة الحكم والموضوع) لم ترد في نصّ شرعيّ، وإنّما هي من إنشاء العلماء، فإذا علمنا أو حصلت لنا الثقة بأنّهم يريدون بها (الغرض) أو (تنقيح المناط) مثلاً فلا غضاضة إن لم تكن كلمة (مناسبة) منسجمة مع مقصودهم، فإنّ غاية ذلك أن يكونوا قد تسامحوا في استعمال كلمة (مناسبة) هنا.
التشخيص التفريقي
إنّ بيان التشخيص التفريقي بين مناسبة الحكم والموضوع وبين كلّ واحدة واحدة من القرائن المعنوية العامّة يطول، ولكنّنا نكتفي بذكر طريقة التمييز بينها وبين ما هو قريب لها من القرائن المعنوية، وبه تعرف المائز بينها وبين سائر القرائن المعنوية.
أمّا الانصراف فقد ذكر العلماء له مناشئ، منها: كثرة الوجود، ومنها: كثرة الاستعمال، ومنها: خفاء الصدق. وجميع هذه المناشئ أمور مطّردة في مختلف الأحكام التي تحمل على تلك الطبيعة، وعليه فيسهل التشخيص التفريقي للانصراف، وذلك بتغيير الحكم في القضية، فإذا غيّرنا الحكم ووجدنا الدلالة على الخاصّ باقية على حالها علمنا أنّ القرينة الدالّة على إرادة الخاصّ هي الانصراف.
هذا مجاراة للعلماء، وإلّا فالأنسب أن ندرس كلّ واحد من المناشئ التي ذكروها باعتباره قرينة معنوية مستقلّة، وننظر في نتيجة دراستنا لها، أيّها قرينة معنوية حقّاً؟ وأيّها قرينة وهمية؟ ثمّ ندرس شروط قرينية ما ثبت منها أنّه قرينة حقّاً.
وأمّا الغرض فيمكن تبديل الحكم بحكم لا نعرف غرضه، وننظر إن بقيت الدلالة على التقييد. نعم، لا بدّ من بيان طريق معرفة الغرض، فإنّ الغرض أمر غيبي، ولا يعرف إلّا ببيان صاحبه، أو بمشاهدة حاله.
وأمّا مناسبة الحكم والموضوع فإذا أخذنا بما يقتضيه لفظها فهي قرينة مستفادة من خصوصية الحكم في القضية، وهذا يعني أنّا إذا غيّرنا الحكم فسوف تذهب الدلالة بتغيير الحكم، فإذا شككنا أنّ القرينة في موردٍ ما هي مناسبة الحكم والموضوع نغيّر الحكم وننظر، فإن استفدنا العموم بعد تغيير الحكم فنستكشف أنّ الحكم هو الذي دلّنا على القيد، وإن بقي الكلام مفيداً لإرادة الخاصّ فنعلم أنّ القرينة على التقييد شيء آخر غير الحكم.
وإذا احتملنا أنّ الحكم البديل يشارك الحكم الأصلي في مناسبته للخصوصية، فنجرّب حكماً ثالثاً، ورابعاً، حتّى تحصل الثقة بأنّ الخصوصية لم تأتِ من ناحية الحكم.
وتوضيح الجواب ببيان أمثلة للقرائن المعنوية:
فالأب قد يطلب من ولده الماء، فيقول له: (أحضر لي بعض الماء)، فيأتي بلفظ (الماء) مطلقاً خالياً من أيّ قرينة لفظية، والماء المطلق يصدق على البارد والمغلي، لكن حال الأب يدلّ على غرضه من طلب الماء، فإن كان الأب عطشاناً فهو يريد الماء ليشربه، وهذا الغرض يقوم بالماء البارد، وإن كان الأب يشرب الشاي واشتكى من شدّة تركيز الشاي وغلظته، فهو يريد الماء ليخفّف به غلظة الشاي، وهذا الغرض يقوم بالماء المغلي، وإن كان قد وقع شيء على ثوبه، فهو يريد الماء لينظّف به ثوبه، وهذا الغرض يقوم بالماء الفاتر.
فالغرض قد يقيّد المطلق بهذه الحصّة، وقد يقيّده بتلك، وقد يبقيه مطلقاً.
أمّا كيف علمنا بالغرض؟
فالجواب: أنّ الغائب ليس له طريق لمعرفة غرض الأب من الماء، وإنّما يعرف غرضه من كان عنده، فإن رآه قادماً من الطريق، ووجده يلهث من العطش، عرف أنّ غرضه شرب الماء، وإن رآه جالساً وأمامه كوب الشاي عرف أنّ غرضه إضافة الماء للشاي.
ومن هنا يتّضح أنّ هذه القرينة ذات وجهين؛ لأنّها تعتمد على مقدّمتين، إحداهما حسّية، وهي الرؤية، والأخرى عقلية، فالعقل يحكم بأنّه إنّما طلب الماء لهذا الغرض، فمن نظر للجانب الحسّي فيها سمّاها: (شاهد الحال)، ومن نظر للمقدّمة العقلية فيها سمّاها: (الغرض).
واعتبر بانفعال الكرّ بوقوع النجاسة، فإنّه يشترط فيه تغيّر أحد أوصافه بالملاقاة، فلا ينفعل إذا تغيّرت حرارته أو برودته بالنجس، ولا إذا تغيّرت رائحته بالمجاورة.
وفي المسالك: (قوله: والاستمناء، هو طلب الإمناء، والمراد به حصول الإمناء به، لا مطلق طلبه وإن كان الطلب محرّماً، لكنّه لا يوجب الكفّارة بدون حصوله)(٧١).
فما هو الدليل على ذلك؟
وهذا هو الأقرب لما نفهمه من تطبيقاتهم، وموارد اعتمادهم على مناسبة الحكم والموضوع وإن لم يصرّحوا بإرادة استظهار الغرض وحكمة التشريع.
ولعلّ أصرح عبارة في ذلك، ما قاله الشيخ لطف الله الصافي N في مجموعة الرسائل من: (أنّ الأحكام الشرعية على قسمين:
قسم منها الأحكام العبادية المتعلّقة بما بين العبد وبين الله تعالى، والوظائف التي يتقرّب بها كلّ فرد إلى الله تعالى، ويستكمل بها الكمالات الإنسانية، ويحضر بها مشاهد القرب، ويتشبّه بها بالملائكة الروحانية، ويرتفع بها إلى الحضور في عالم القدس والأنس.
وهذه الأحكام وإن كانت أساس السعادات الدنيوية والأخروية، والجسمية والروحية، وروح جميع الأنظمة الشرعية، إلّا أنّ الغرض الأوّل والأسنى من تشريعها إيصال العباد إلى المقامات المعنوية، والتوجّه إلى خالقهم الحقيقي، والمنعم عليهم، وجلوسهم على بساط الشكر وحصول حال التعبّد والتسليم والانقياد للحقّ في نفوسهم وغير ذلك. فهذه أحكام تعبّدية صرفة لا يطّلع على ما فيها من الحكم بالتفصيل إلّا الأوحدي من الناس ممّن أكرمه الله تعالى بالاطّلاع على ذلك، ولا يتحقّق الغرض الأصلي منها إلّا بامتثالها بقصد الإطاعة والتعبّد الخالص، فلو اطّلع العبد على بعض ما فيه من الفائدة والحكمة غير ما يتحقّق بالعبادة والإتيان به تعبّداً، فأتى به لتحصيل هذه الفائدة والحكمة لم يكن ممتثلاً لها، ولا يستحقّ بها ما يستحقّ عباد الله المخلصون.
والقسم الثاني: الأحكام المشروعة لنظم أمور الدنيا، وسياسة المدن، وإدارة المجتمع، وروابط الأفراد بعضها مع بعض في الأموال وغيرها، ففي مثل هذه الأحكام بملاحظة الأحكام وموضوعاتها والمناسبة بينهما، يفهم العرف في الجملة غرض الشارع، وما يحقّقه وما يرتبط به، ويكون لهذا الفهم دخل في استظهار مراده من كلامه من العموم والخصوص وغيرهما، وتكون هذه المناسبات التي يفهمها العرف من القرائن الحالية أو المقالية الدالّة على ما أراده المتكلّم من كلامه)(٧٢).
وإنّما قلنا: أكثر عباراتهم؛ لأنّه تظهر من بعض العبارات معانٍ أخر:
فقد فسّر المحقّق العراقي S في نهاية الأفكار مناسبة الحكم والموضوع بأنّها ارتكاز الترابطبين الحكموالموضوع في أذهان العرف، قالS: (فإنّ للعرف نظرين:
أحدهما: من حيث كونه من أهل المحاورة، ومن أهل فهم الكلام، وبهذا النظر يحدّد الموضوع الدليلي في فهم المرادات، ولو بواسطة القرائن الحافة بالكلام، فيفرّق بين قوله: الماء المتغيّر ينجس، وبين قوله: الماء إذا تغيّر ينجس، من حيث فهمه الموضوع في الأوّل هو (الماء المتغيّر) بما هو متغيّر، وفى الثاني ذات (الماء) وكون التغيّر جهة تعليلية لثبوت النجاسة للماء.
وثانيهما: بما هو المرتكز في ذهنه من المناسبة بين الحكم وموضوعه ولو على خلاف ما هو المتفاهم من الكلام، فيرى أنّ موضوع النجاسة حتّى في مثل قوله: (الماء المتغيّر ينجس) ذات الماء وأنّ التغيّر واسطة في ثبوت النجاسة ومن الجهات التعليلية؛ لما هو المرتكز في ذهنه من أنّ النجاسة من عوارض الماء، لا من عوارض الماء والتغيّر وإن كان بحسب نظره الدليلي خلاف ذلك، فيفهم أنّ موضوع النجاسة في المثال هو الماء بوصف تغيّره)(٧٣).
والمحقّق الأصفهاني S عدّ معنى كلمة (الماء) واحداً، ولكنّك إذا قلت: ما هو تعريف الماء؟ فتقصد بها مفهوم الماء، وإذا قلت: اسقني الماء، فتقصد بها مصداقه، كما عدّ معنى كلمة (التمليك) واحداً، لكنّك إذا قلت: ملّكتك الكتاب بشرط أن تخيط ثوبي، فمرادك به السبب، وإذا قلت: ملّكتك الكتاب، فلك أن تقرأه أو تبيعه، فمرادك به المسبّب، قال: (فيفهم التمليك الإنشائي في الأوّل ، والتمليك الحقيقيّ في الثاني بمناسبة المقام)(٧٤).
وظاهره أنّ مرجع مناسبة الحكم والموضوع إلى القرينة المقامية.
و قال السيّد الحكيم S في حقائق الأصول: (كما أنّ الظاهر ممّا دلّ على حجّية خبر الثقة من تلك النصوص اعتبار كونه ثقةً في خصوص ذلك الخبر، ولا يعتبر كونه ثقةً في نفسه، وكأنّ الوجه في ذلك مناسبة الحكم لموضوعه، وإلّا فإطلاق الثقة يقتضي كونه ثقة مطلقاً، فقرينة المناسبة المذكورة ـ ولا سيّما بملاحظة الارتكاز العقلائي ـ أوجبت كون الظاهر ما ذكرنا، ولأجل ذلك استقرّ بناء الأصحاب على العمل بأخبار الضعفة مع اقترانها بما يوجب الوثوق بصدورها ولو كان ذلك مثل عمل المشهور أو الأساطين بها، كما لا يبعد أن يكون المراد من الوثوق الوثوق النوعي، جرياً على مقتضي الارتكاز العقلائي)(٧٥).
نعم، يبقى أنّه ربّما فهم من عبارة: (تنقيح المناط) أنّ الأمر يستند إلى فهم شخصيٍ للناظر إلى الحكم، فكأنّه يعبّر عن اجتهادٍ شخصي، واستنباط فردي، وأمّا مناسبة الحكم والموضوع فيقصدون بها أنّ استنباط علّة الحكم ليس مستنداً إلى أمرٍ شخصي، بل إلى ارتكازٍ عرفي.
ولعلّ الذي حداهم على هذا التعبير هو الخروج عن سُبّة القياس المنهي عنه شرعاً، كيف وقد بلغت الروايات المانعة عن العمل بالقياس إلى خمسمائة رواية تقريباً؟!
ولو لاحظنا تاريخ القرائن، واعتماد العلماء على غير اللفظية منها بالخصوص، ونظرنا في موارد سمّاها علماء البلاغة والتفسير وأصول الفقه القدماء بـ(القرينة العقلية)، لوجدنا أنّ جملةً منها هي التي تسمّى في اصطلاح المتأخّرين بمناسبة الحكم والموضوع.
وإذا عرفنا السبب الذي دعا علماءنا المتأخّرين للنأي عن التعبير بتنقيح المناط، فهذا يجرّنا إلى البحث عن السبب الذي دعاهم للعدول أيضاً عن التعبير بالقرائن العقلية. ولعلّ سبب عدولهم عن هذه التسمية القديمة الموروثة مع شيوعها، هو أنّ القرينة العقلية تشعر بأنّ حمل الكلام على خلاف ما تعطيه القرينة غير معقول.
فقد تقول: في مثل (عليك بهذا الجالس) إنّ عنوان الجلوس عنوان مشير، لا موضوعية له، والقرينة على ذلك عدم معقولية دخل الجلوس في حجّية القول.
إلّا أنّ المتأخّرين حيث تقرّر عندهم أنّ الأحكام الشرعية أمور جعلية اعتبارية، والاعتبار وإن كان لا ينافي العقل؛ لأنّه خفيف المؤونة، إلّا أنّه يشترط فيه وجود المصحّح، وهو تحقّق الملاك، وقد تقرّر في محلّه أنّ ملاكات الأحكام مخفية عنّا، فلا يسعنا الحكم بكون الجلوس دخيلاً في موضوع الحكم، ولا بكونه غير دخيل ما لم نطّلع على الملاك، فليس لنا أن نأتي من طريق العقل، ولذلك التمسوا طريقاً آخر غير القرينة العقلية، وهو أنّ العرف لا يرى للجلوس دخلاً في حجّية القول، وبه خرجوا عن هذه القلاقل، ودفعوا اعتراض المعترض عليهم بأنّ العقل لا شأن له بالأحكام الشرعية.
ومن هذا يتّضح لك سبب كون أكثر موارد الاعتماد على مناسبة الحكم والموضوع قرينةً كانت أم دليلاً في أبواب المعاملات والطهارة خاصّة، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ هذه الأحكام ليست تعبّداً صرفاً، فلحديث التناسب بين الحكم والموضوع فيها مجال.
هذا ما أردنا التعرّض له في هذه الحلقة، وسيأتي في الحلقة اللاحقة التعرّض للجهات الأخر.
والحمد لله ربِّ العالمين.
(١) يلاحظ: موسوعة الشهيد الصدر S: ١٧/ ١٨٩.
(٢) يلاحظ: موسوعة الشهيد الصدر S: ١٧/ ١٩٢.
(٣) يلاحظ: موسوعة الشهيد الصدر S: ١٧/ ١٩١.
(٤) مناقب الخوارزمي: ٧٥، ح٥٦.
(٥) الحدائق الناضرة: ٧/ ٣٦٤.
(٦) الحدائق الناضرة: ٥/ ٤٤١.
(٧) سورة آل عمران: ١٧٣.
(٨) سورة الحجّ: ٧٩.
(٩) الرسالة: ٥٨ وما بعدها.
(١٠) التمهيد: ٢١/ ٢٦٥ ـ ٢٦٦.
(١١) تفسير البحر المحيط: ٢/ ١٩٦.
(١٢) التحرير والتنوير: ١/ ٥٠.
(١٣) سورة المائدة: ٢.
(١٤) سورة الفاتحة: ٦ ـ ٧.
(١٥) سورة البقرة: ٣.
(١٦) سورة المجادلة: ١١.
(١٧) سورة الشورى: ٥.
(١٨) سورة الجنّ: ١٣.
(١٩) سورة البقرة: ٢٧٤.
(٢٠) سورة الفلق: ١ ـ ٢.
(٢١) المسائل السروية: ٧٦ ـ ٧٧.
(٢٢) رسائل الشريف المرتضى: ٢/ ٢٨٢.
(٢٣) الخرائج والجرائح: ٣/ ١٠٤٦.
(٢٤) قواعد الأحكام: ٣/ ٢٧٠.
(٢٥) إيضاح الفوائد: ١/ ٧٩.
(٢٦) الروضة البهية: ٥/ ٣١.
(٢٧) الفوائد الملية: ٢٨٥.
(٢٨) حاشية الشرائع: ٥٢٤.
(٢٩) الفصول المهمّة: ١/ ٨٣.
(٣٠) البرهان في أصول الفقه: ١/ ٣٧٣.
(٣١) يلاحظ: شرح المغني في أصول الفقه: ١/ ١٠.
(٣٢) شرح الرضي على الكافية: ١/ ٤٥٤.
(٣٣) المصدر السابق: ٣/ ١٧٢.
(٣٤) مغني اللبيب: ١/ ٢٥٨.
(٣٥) شرح الرضي على الكافية: ١/ ٨٤.
(٣٦) المصدر السابق: ١/ ١٠٢.
(٣٧) دستور العلماء (جامع العلوم في اصطلاحات الفنون): ٢/ ٢٦٢ ـ ٢٦٣.
(٣٨) يلاحظ: مختصر المعاني: ١٦٠.
(٣٩) حكى ما بين القوسين في تاج العروس: ١١/ ٢٠٢ عن ابن جني.
(٤٠) يلاحظ: الكافي: ٤/ ٢٥٥، باب فضل الحجّ والعمرة وثوابهما، ح١٢.
(٤١) مجمع البحرين (ط الحسيني): ٣/ ٤٧٨.
(٤٢) مجمع البحرين (ط الحسيني): ٣/ ٤٢٨.
(٤٣) مجمع البحرين: ٥/ ٢٧٢ ـ ٢٧٣. والقائل الذي اعترض عليه فخر الدين الطريحي (ت ١٠٨٥هـ)، ووصف كلامه بأنّه واضح البطلان، هو الميرداماد محمّد باقر الحسيني الاسترآبادي (ت ١٠٤١هـ) في الرواشح السماوية: ٢٢٧ ـ ٢٢٨، حيث قال في معرض الحديث عن الأحاديث المصحّفة: (ومنها: قال الصدوق أبو جعفر بن بابويه x في كتاب من لا يحضره الفقيه: (لا بأس بالوضوء والغسل من الجنابة والاستيال بماء الورد). وذلك مذهبه في الماء المضاف.
قلت: الاستيال إمّا باللام بمعنى التسوّل، وهو التزين مطاوع التسويل، وهو تحسين الشيء وتزيينه. ومنه في التنزيل الكريم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا}، ونعني به ههنا: الأغسال التي هي للنظافة والتزين، كغسل الجمعة وغسل الإحرام مثلاً. وإمّا بالكاف بمعنى التمصمص بالمهملتين، ومعناه الاغتسال من الدنس للتنظيف والتطهّر، كغسل الجمعة وسائر الأغسال المسنونة للنظافة، لا لرفع الحدث، وأصله من (مصمص إناءه) إذا غسله، وجعل فيه الماء، وحرّكه للتنظيف. وفي الحديث: (القتل في سبيل الله ممصمصة)، أي مطهرة من دنس الخطايا، افتعالاً من السوك .. فهذا سبيل التحصيل في تحقيق هذه اللفظة وتفسيرها. وإنّ جماهير المتكلّفين القاصرين من بني زماننا هذا تجشمّوا تكلّفاً متوعّراً جدَّاً، فأخذوها من السواك، وذلك معروف كالتسوّك، يقال: استاك وتسوّك إذا ساك فاه بالمسواك، ثمّ جعلوا الاستياك هذا بمعنى التمضمض ـ بالمعجمتين ـ في الوضوء لمناسبة السواك؛ إذ كما السواك من مسنونات الوضوء، فكذلك المضمضة والاستنشاق من مسنوناته. ولعمري إنّ هذه أعجوبة من الأعاجيب، فأين الثكلى على واحدتها حتّى تضحك منها، وتلتهي بذلك عن فجيعة رزيتها؟).
(٤٤) سورة الدخان: ٤٩.
(٤٥) سورة البقرة: ٢٣٢.
(٤٦) التفسير الكبير (الفخر الرازي): ٦/ ١١٩ ـ ١٢٠.
(٤٧) التفسير الكبير (الفخر الرازي): ٢٠/ ١٠١.
(٤٨) سورة البقرة: ١٥٩.
(٤٩) التفسير الكبير (الفخر الرازي): ٤/ ١٨٣.
(٥٠) البرهان في علوم القرآن: ١/ ٣٥ وما بعدها.
(٥١) يلاحظ: الإتقان في علوم القرآن: ٢/ ٢٨٨.
(٥٢) التمهيد في علوم القرآن: ٣/ ٣٩.
(٥٣) العدّة في أصول الفقه: ٢/ ٤٦٧.
(٥٤) مسالك الأفهام: ٩/ ٣٠٠.
(٥٥) جدير بالذكر أنّنا لم نولِ هذه المسألة التاريخية أكثر ممّا تستحق؛ فلسنا بصدد تصنيف كتاب أوائل. وعليه فقد يقف الباحث على هذا التوظيف في كلمات من سبق المحقّق الهمدانيّ من العلماء.
(٥٦) يلاحظ: بلغة الفقيه: ١/ ١٧٩، ٢/ ١٠٠، ١١٦، ١١٨.
(٥٧) أصول الفقه: ١٢/ ٤٤.
(٥٨) رسائل الشهيد الثاني: ١/ ٤٦٨.
(٥٩) مسالك الأفهام: ٣/ ٣٩١.
(٦٠) مسالك الأفهام: ٩/ ٣٠١.
(٦١) كشف اللثام: ٣/ ١١٤.
(٦٢) نضد القواعد الفقهيّة: ٢٩ وما بعدها.
(٦٣) سورة البقرة: ١٧٩.
(٦٤) يلاحظ: كفاية الأصول: ٢٧٠.
(٦٥) يلاحظ: كفاية الأصول: ٤٢٨.
(٦٦) يلاحظ: القاموس المحيط: ١/ ١٧٦ مادة (نسب).
(٦٧) يلاحظ: الصحاح: ١/ ٢٢٤.
(٦٨) يلاحظ: أساس البلاغة: ٦٢٩ مادة (نسب).
(٦٩) معجم مقاييس اللغة: ٥/ ٤٢٣ ـ ٤٢٤. وقُيّد الطريق بالمستقيم في بعض نسخ الكتاب اعتماداً على ما ورد في كتاب مجمل اللغة لابن فارس أيضاً، كما أنّ الصحيح في الضبط هو (النيسَب) على وزن (فيعل) كغيهب وحيدر، كما صرّح به الخليل في كتاب العين (٧/ ٢٧٢)، والجوهري في الصحاح (١/ ٢٢٤)، والفيروزآبادي في القاموس المحيط (١/ ١٣١)، وابن منظور في لسان العرب (١/ ٧٥٦)، وكذلك الزبيدي في تاج العروس (٢/ ٤٢٩، ١٧/ ٦٨٦).
(٧٠) يلاحظ: مصباح الأصول: ٢/ ٢٤٠.
(٧١) مسالك الأفهام: ٢/ ٢٢.
(٧٢) مجموعة الرسائل: ١/ ١٤٨.
(٧٣) نهاية الأفكار: ٤/ ٩.
(٧٤) يلاحظ: حاشية المكاسب: ١/ ٧٤ وما بعدها.
(٧٥) حقائق الأصول: ٢/ ١٣٣.