دعوى الشيخ الطوسي (قدّس سرّه)
أنّ ابن أبي عمير وصفوان والبزنطيّ
لا يرسلون إلّا عن ثقة
الشيخ حميد رمح الحلّيّ (دام عزّه)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن إثبات معظم الأحكام الشرعية، وكذلك أغلب أجزاء الضروريات وشرائطها، إنما يتم بخبر الآحاد لأن ما ثبت منها بالعلم الضروري، كوجوب الصلاة، ونحوها من الضروريات، أو العلم الحاصل من الخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة القطعية، قليل بالقياس إليه، كما لا يخفى على المتتبع.
ومن المعلوم إن إثبات الحكم الشرعي بخبر الآحاد يتوقف على مجموعة أمور(١)، أحدها: ثبوت أصل صدوره عن المعصوم g، والمتكفل لإثبات أصل الصدور هو الأدلة الدالة على حجية خبر الواحد، بعد تأمين سلامته مما يسبب اتصافه بالضعف السندي.
ومن جملة الأمور التي وقع البحث في كونها سبباً لاتصاف السند بالضعف أو عدمه هو ما اصطلح عليه بالإرسال.
وقبل الدخول في صلب البحث ـ وهو دعوى الشيخ إن ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي لا يرسلون إلا عن ثقة مما يستلزم معاملة مراسيلهم معاملة الصحاح ـ لا بد من تقديم مقدمة مشتملة على فصول:
الفصل الأوّل:
في معنى المرسل، وما يراد به في المقام:
المرسل: ـ بصيغة المفعول ـ في اللغة، مأخوذ من إرسال الدابة، أي رفع القيد والربط عنها(٢).
وفي الاصطلاح: ما سقط رواته أجمع، أو من آخرهم واحد أو أكثر، وإن ذكر الساقط بلفظ مبهم، كبعضٍ، وبعض أصحابنا(٣).
وقد يتوسع فيه ـ بحسب اختلاف المبحوث عنه ـ ليشمل ما حذف من سنده راوٍ أوأكثر، من أوله أو وسطه أو آخره ليدخل فيه المعلق(٤)، والمنقطع(٥)، والمعضل(٦)، بل أدخل فيه حتى المتصل السند المشتمل على مجهول الحال أو المهمل، بل يطلق على المعنعن(٧)، والمضمر(٨)، والمرفوع(٩).
وما يخص محل كلامنا هو ما سقط فيه الواسطة بين المذكورين وبين المعصوم g بأرسال بالمعنى الأخص، أو بتعليق أو انقطاع أو إعضال أو عنعنة أو إضمار أو رفعٍ، أو ذكرت بلفظ مبهم.
الفصل الثاني:
الأقوال في حجيته: وهي ثلاث:
القول الأول: القبول مطلقاً، سواء كان المرسل الثقة صحابياً أو لا، وسواء كان جليلاً أو لا، وسواء أسقط راوياً واحداً من السند أو أكثر.
ونسبه الشهيد الثاني S لجماعة من الجمهور، وأضاف ان الرازي نقله في المحصول عن الأكثرين(١٠)، حيث قال الرازي (وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور المعتزلة: إنه مقبول)(١١) وأطال في إقامة الأدلة على بطلانه، حيث انه يختار قبول المراسيل بتفصيل خاص. وقبله ـ مطلقاً ـ من أصحابنا، مَن كانوا يسمون بأهل الحديث أو الأخبار(١٢)، ونسب هذا القول إلى محمد بن خالد البرقي، والد أحمد مؤلف كتاب المحاسن، وربما ينسب إلى الأخير، حيث قيل فيه (إنه كان ثقة في نفسه، غير أنه أكثر الرواية عن الضعفاء، واعتمد المراسيل، وكان لا يبالي عمن أخذ، على طريقة أهل الأخبار)(١٣).
وقد استدل لهذا القول بأدلة كثيرة لا يهمنا التعرض لها في المقام.
القول الثاني: عدم القبول مطلقاً:
وذهب إليه جماعة، منهم الشيخ S في التهذيب والاستبصار(١٤)، بخلاف ما صرح به في العدة(١٥) من استثناء أصحاب الإجماع، ووصفهم بأنهم لا يرسلون إلا عن ثقة.
وقد تأمل سيد أساتذتنا (مدَّ ظله) في الاستشهاد بكلام الشيخ S في التهذيبين. ووصفه بأنه (مدفوع نقضاً وحلاً) (أما النقض) فإن الشيخ قد ناقش في موضع من التهذيبين ، في بعض مراسيل ابن أبي عمير وردّها بالإرسال (التهذيب: ج٨/ ح٩٣٢) مع أننا نرى حجية مراسيله اعتماداً على كلام الشيخ نفسه في العدة من انه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة، (وأما الحل) فإن الشيخ قد تكفل في التهذيبين لحل ظاهرة التعارض بين الأخبار، وذلك مما ألجأه أحياناً إلى اتباع الأسلوب الإقناعي في البحث المتمثل في حمل جملةٍ من الروايات على بعض المحامل البعيدة، أو المناقشة في حجيتها ببعض الوجوه التي لا تنسجم مع مبانيه الرجالية والأصولية المذكورة في سائر كتبه، وهذا ظاهر لمن تتبع طريقته ـ قدس سره ـ في الكتابين، ولتوضيحه وذكر الشواهد عليه مجال آخر، وعلى هذا فلا يمكن الاستناد إلى ما ذكر في التهذيبين، خلافاً لما صرح به هو في كتاب العدة، أو ذكره غيره من أعلام الرجاليين(١٦). واختار القول بعدم الحجية العلّامة S في تهذيب الأصول(١٧)، والشهيد الثاني S في درايته، حيث قال (والمرسل ليس بحجةٍ مطلقاً، سواء أرسله الصحابي أم غيره، وسواء سقط منه واحدٌ أم أكثر، وسواء كان المرسل جليلاً أم لا)(١٨)، بل تنظر فيه حتى في حالة تحقق العلم بكون المرسل لا يروي إلا عن الثقة، كابن أبي عمير.
واختاره أيضاً السيد الخوئي S، وبذل قصارى جهده في إقامة الأدلة على مختاره، واعتبر دعوى الشيخ S في العدة ـ بأن أصحاب الإجماع لا يرسلون إلا عن ثقةٍ ـ باطلة، واجتهاد من الشيخ S اسنتبطه من اعتقاده التسوية بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم , ونقل عن المحقق S الالتزام بذلك في المعتبر(١٩).
وهو مذهب جماعة من العامة كالحاجبي والعضدي والرازي، ونسبه الأخير للشافعي، إلا انه غير صحيح، لأن الشافعي لا يرفض المرسل مطلقاً، بل يقبله بشروطٍ. فيكون رأيه التفصيل وليس المنع من الحجية مطلقاً، والذي دعا الرازي لنسبة هذا القول للشافعي هو أنه ذكر قولين فقط، وهما القبول وعدمه فلا بد أن يدخل القول بالتفصيل تحت واحد منهما(٢٠).
القول الثالث: التفصيل:
وله صور متعددة أوصلها البعض إلى أكثر من عشر صور(٢١)، إحداها الصورة التي هي محل البحث، وهي التفصيل بين مراسيل من حكي الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم والمعبر عنهم بأصحاب الإجماع، وبين مراسيل غيرهم.
الفصل الثالث:
في طرق التوثيق، وهي على قسمين:
الأول: طرق التوثيق الخاصة، وهي أربعة، نذكرها إجمالاً:
أولاً: نص أحد المعصومين i، مثل ما ورد بسند صحيح من ترحم الإمام الجواد g على محمد بن سنان، وصفوان بن يحيى(٢٢).
ثانياً: نص أحد الأعلام المتقدمين كابن قولويه، أو الكشي، أو الصدوق، أو المفيد، أو النجاشي، أو الشيخ، أو ابن عقدة، أو ابن فضال، أو ابن الغضائري، وأضرابهم(٢٣).
ثالثاً: نص أحد الأعلام المتأخرين، وهو ما لم يعتمد عليه البعض لوجود شواهد على انقطاع طرق المتأخرين، فضلاً عن متأخري المتأخرين في التوثيق، لضياع كتب الرجال، وحصر طرقهم في الإجازات الصادرة عنهم كلها إلى الشيخ، وانقطاع السلسلة بعد الشيخ، وبناء بعض المتأخرين ـ كالعلّامة ـ على أصالة العدالة في المسلم(٢٤).
رابعاً: دعوى الإجماع من قبل المتقدمين أو المتأخرين: وذلك لتنزيله منزلة الاخبار عن استفاضة التوثيق واشتهاره، وهو كافٍ لحصول العلم العادي به.
الثاني: طرق التوثيق العامة: وهي كثيرة، نذكرها إجمالاً، مع التنبيه على وقوع الخلاف في بعضها.
أولاً: كونه من أصحاب الإمام الصادق g وقد اختلف في نسبة هذا النوع من التوثيق، وأنه لابن عقده أم للشيخ المفيد؟ والمراد من هذا الطريق هو بيان ان هناك جملة عديدة ممن روى عن الإمام الصادق g هم من العيون والثقاة، وهم عمدة النقلة عنه، وإن مستند هذه المقولة هو استقراء القائل بها لكل مفردة رجالية ممن روى عنه، وليس المراد منها ـ وإن صدرت من ابن عقدة ـ شهادة حسية عامة اسقرائية، عبر وسائط معاصرة لتلك الطبقات. كيف وإن هناك عدة ممن روى عنه g هو ممن عرف بالضعف، كوهب بن وهب البختري ـ مثلاًـ . لذلك اعتبروها قرينة ظنية حدسية تحتاج إلى أن تنضم إليها قرائن أخرى.
ثانياً: الوكالة عن الإمام g:
وقد عدّها البعض من أقوى أمارات المدح، بل العدالة والوثاقة، واستشكل آخرون دلالتها على الوثاقة، لعدم اشتراطها شرعاً بالعدالة، بل غايتها ان العادة جارية على عدم توكيل من لا يوثق بأمانته في الأمور المالية، وقد عدّ الشيخ في الغيبة جملة من الوكلاء المذمومين، مما يدل على إمكان الانفكاك بينهما. وفيها قول بالتفصيل.
ثالثاً: مصاحبة المعصوم g:
والأقوال فيه كسابقه.
رابعاً: كثرة الرواية عن المعصوم g:
وقد استدل على أما ريته على الوثاقة بمجموعة من الروايات، منها ما رواه الكشي عن أبي عبد عبدالله g قال (اعرفوا منازل الرجال منا على قدر روايتهم عنا)(٢٥) وغيرها.
وأشكل عليه بأن هذه الروايات ضعيفة سنداً، بل ودلالةً، إذ إن المراد من كثرة الرواية كثرتها بعد ثبوت حجية قول الراوي.
خامساً: كونه صاحب كتاب أو أصل:
وقد اعترض عليه بأن ربّ مؤلف كذاب وضاع، وبأن الحسن بن صالح بن حي الثوري البتري صاحب أصل إلا انه متروك العمل بما يختص بروايته، وكذلك علي بن أبي حمزة البطائني وأبي الجارود وأضرابهم.
لذلك اشترط البعض انضمام تلقي الطائفة للأصل أو الكتاب، أو كون رواياته مبثوثةً في الأبواب، ووجود الطرق إليه في كتب الفهارس والمشيخة، في الاعتماد عليه، كما يلاحظ ذلك من الشيخ في العدة.
ولبعضهم تفاصيل أخرى في الاعتماد على هذا الطريق من طرق التوثيق.
سادساً: كونه واقعاً في سندٍ حكم بصحته المتقدمون أو من قرب منهم، كما في تنصيص الصدوق على تصحيح بعض الأسانيد.
واعترض عليه، باحتمال كون الحاكم بالصحة قد اعتمد على أصالة العدالة، أو القرائن الموجبة للوثوق بالصدور، لا إلى تصحيح الطريق.
سابعاً: كونه من مشايخ الإجازة المشتهرين:
وأشكل عليه بتضعيف النجاشي لجملة من مشايخ الإجازة كالحسن بن محمد بن يحيى، وبعدم استغناء أصحاب الإجماع عن التوثيق(٢٦)، فما بالك في مشايخ الإجازة؟ وأجيب عن الثاني بأن تعرض كتب الرجال وعدم تعرضهم قد لا يندرج تحت ضابطة، فقد تراهم يتعرضون لذكر بعض أصحاب الإجماع دون بعض مع تقارب وثاقتهم في الدرجة.
وعن الأول: بأن قرائن التوثيق ليست من قبيل اللوازم التكوينية غير المنفكة عن العدالة والوثاقة.
ثامناً: كونه من مشيخة الكتب الأربعة، باعتبار ما ذكره المشايخ الثلاثة في أوائل هذه الكتب من انهم استخرجوا أحاديثها من الكتب المشهورة المعول عليها والآثار الصحيحة أو المقترنة بقرائن تدل على صحتها.
تاسعاً: كون الراوي ممن اتفق على العمل برواياته، كحفص بن غياث، وغياث بن كلوب، ونوح بن دراج، والسكوني من العامة، وعبدالله بن بكير وغيره من الفطحية، وسماعة بن مهران، وعلي بن أبي حمزة، وعثمان بن عيسى من الواقفة، ومن بعد هؤلاء عملت الطائفة بما رواه بنو فضال وبنو سماعة والطاطريون وغيرهم، عن أئمتنا i فيما لم ينكروه، ولم يكن عندهم خلافه(٢٧).
وقد اختلفوا في مفاد هذا التوثيق على غرار اختلافهم في مفاد تصحيح ما يصح عن أصحاب الإجماع.
عاشراً: كونه ممن قيل في حقه (انه لا يروي إلا عن ثقة) أو ما كان في معناها.
وممن قيل في حقه ذلك جعفر بن بشير. وأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، وعلي بن الحسين الطاطري، وابن قولويه صاحب كامل الزيارات.
وقد أشكل عليه برواية هؤلاء عن الضعفاء، كرواية الأول عن صالح بن الحكم الذي ضعفه النجاشي، ورواية الثاني عن محمد بن سنان، وهكذا.
وأجيب عنه بأن هذا النوع من التوثيق يفيد أن مجمل من روى عنهم قد عرفوا بالوثاقة، بنحو لا يمانع روايته عن بعض الضعاف.
حادي عشر: عدم استثناء القميين الراوي من رجال نوادر الحكمة(٢٨):
وأشكل عليه بأن استثناء القميين من الكتاب المذكور ليس توثيقاً بالمعنى المصطلح له، وإنما أرادوا به عدم روايتهم لتلك الروايات لما لاح لهم من قرائن الوضع والتدليس، ولو بحسب المباني الخاصة بهم.
ثاني عشر: كونه من أصحاب الإجماع الكبير أو الصغير:
والمراد من الإجماع الكبير هو الإجماع في ثمانية عشر أو اثنين وعشرين رجلاً. بل عممه البعض ليشمل جميع الفقهاء الأولين من أصحاب الإمامين الباقر والصادق H، وان الستة المصرح بأسمائهم أفقههم، واعتمد في ذلك على ظاهر المقطع الأول من عبارة الكشي الآتية، وإن لم تُفد توثيق أحد بعينه، لعدم ذكر اسم غير الستة المذكورين.
والمراد من الإجماع الصغير، هو الإجماع في الثلاثة موضوع البحث، أعني محمد بن أبي عمير، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وصفوان بن يحيى.
فقد قال الكشي تحت عنوان (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر g وأبي عبد الله g): أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر g وأبي عبد الله g، وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة، ومعروف بن خربوذ، وبُريد، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي.
قالوا: و أفقه الستة زرارة، وقال بعضهم: مكان أبي بصير الأسدي، أبو بصير المرادي، وهو ليث بن البختري)(٢٩).
وقال أيضاً: تحت عنوان تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله g (أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح من هؤلاء الستة الذين عددناهم وسميناهم، ستة نفر، جميل بن دراج، وعبد الله بن مسكان، وعبد الله بن بكير، وحماد بن عيسى، وحماد بن عثمان، وأبان بن عثمان.
قالوا: وزعم أبو اسحاق الفقيه، يعني ثعلبة بن ميحون، إن أفقه هؤلاء جميل بن دراج)(٣٠).
وقال أيضاً، تحت عنوان (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم g وأبي الحسن الرضا g: (أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم، ، وأقروا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر أخر، دون الستة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبدالله g منهم يونس بن عبدالرحمن، وصفوان بن يحيى بياع السابري، ومحمد بن أبي عمير، وعبدالله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب، الحسن بن علي بن فضال، وفضالة بن أيوب.
وقال بعضهم مكان ابن فضال، عثمان بن عيسى، وأفقه هؤلاء يونس بن عبدالرحمن، وصفوان بن يحيى)(٣١).
ونقل هذا الإجماع الشيخ S في العدة(٣٢)، وآخرون.
الفصل الرابع:
في المراد من (تصحيح ما يصح عنهم):
قال سيدنا الأستاذ A (إن الصحة في العرف واللغة إنما هي بمعنى المطابقة للواقع، والظاهر انها تستخدم في هذا المعنى في توصيف الحديث بها في كلمات المتقدمين. ولكن قد يلاحظ في التوصيف بها أصل صدور الحديث عن الإمام g ولو من جهة توفر القرائن الدالة على ذلك بغض النظر عن كون الصدور لبيان حكم الله الواقعي، أو لداعٍ آخر كالتقية...، وقد يلاحظ في التوصيف بها مطابقة مضمون الحديث للواقع بغض النظر عن كونه صادراً عن الإمام بالسند المنقول به أولاً، ....
وبالجملة، الخبر المروي عن الإمام g إذا وصف بالصحة يراد به مطابقته للواقع بأحد اللحاظين المتقدمين.
وإذا وصف الراوي بأنه صحيح الحديث، ...، فالظاهر ان المراد بالصحة فيه هو المعنى اللغوي أي مطابقة الخبر للواقع.
والظاهر ان الصحة تستخدم بهذا المعنى ـ وهو مطابقة الواقع ـ في توصيف الحديث بها في كلمات المتقدمين)(٣٣).
أما الصحة في اصطلاح المتأخرين، فهي وصف للسند المتصل المتسم بوثاقة جميع رواته أو عدالتهم، على اختلاف الآراء فيه.
الفصل الخامس:
في الأقوال في تفسير مفاد كلام الكشي:
وقد اختلفوا ـ نتيجة لاختلافهم في تفسير الموصول في قوله (تصحيح ما يصح عنهم) ـ على قولين رئيسيين(٣٤):
القول الأول: وهو قول من فسروا الموصول في عبارة الكشي بالمروي لا بالرواية بالمعنى المصدري، فيكون حاصل هذا القول، تصحيح الروايات المنقولة عن هؤلاء ونسبتها إلى الإمام بمجرد صحتها عنهم، حتى لو رووا عن معروف بالفسق أو الوضع، أو كان مجهول الحال أو مهملاً، والحكم بصدوره منه g، وكون مضمونه مطابقاً لحكم الله الواقعي.
وعللوا ذلك بأن الصحة وصف للمتن دون السند.
وعلى هذا القول فإنه لا دلالة لكلام الكشي والشيخ S على توثيق المروي عنهم لهؤلاء الثقات، إذ الفرض صحة الروايات حتى مع كذب المروي عنه، وبعبارة أخرى، إنَّ معنى الصحة ـ على هذا القول ـ هو الوثوق بالصدور، والاطمئنان به، وهو أجنبي عن إفادة التوثيق لمن رووا عنه.
وقد نسب المحقق الكاشاني هذا القول إلى فهم جماعة من المتأخرين(٣٥)، ونسبه الوحيد البهبهاي إلى المشهور، حيث قال (فالمشهور ان المراد صحة كل ما رواه حيث تصح الرواية إليه، فلا يلاحظ ما بعده إلى المعصوم g وإن كان فيه ضعف. وهذا هو الظاهر)(٣٦) بل عبر عنه المحقق الداماد (إن عليه الأصحاب)(٣٧).
وقد نوقش هذا الرأي بنقاشات عديدة، منها:
أولاً: ان جرح الشيخ S أو قدح النجاشي برجل روى عنه أحد هؤلاء المذكورين في كلام الكشي يعارض تفسير عبارة الكشي بهذا التفسير.
ثانياً: إنه قد عثر على غير رواية يروون فيها عمن ثبت ضعفه، بل واشتهر بينهم كذبه، كعلي بن أبي حمزة البطائني ـ مثلاً ـ واستبعاد خفاء ذلك على الكشي، فيتعين كون المراد من معقد الإجماع هو الاتفاق على الوثاقة والجلالة ليس إلا.
ثالثاً: إن الشيخ S لو كان يرى صحة الروايات الواردة عن المذكورين في عبارة الكشي لما ترك العمل ببعض أخبار أصحاب الإجماع.
وسيأتي زيادة توضيح لهذه المناقشات والجواب عنها عند الحديث عن تفسير عبارة الكشي بكون المذكورين لا يرسلون إلا عن ثقة إذ ان هذه الإيرادات وغيرها أوردت بعينها على هذا التفسير، فانتظر.
القول الثاني: وهو قول مَنْ فسروا الموصول في تعبير الكشي (تصحيح ما يصح عنهم) بالرواية ـ بالمعنى المصدري ـ لا المروي، قال المحقق الكاشاني في أوائل كتاب الوافي (وأنت خبير بأنّ هذه العبارة ليست صريحة في ذلك ـ يعني القول الأول المتقدم ـ ولا ظاهرةً فيه فإن ما يصح عنهم إنما هو الرواية لا المروي)(٣٨).
وقد اختلف أصحاب هذا التفسير فيما بينهم بعد تفسيرهم للموصول بسند الرواية لا متنها في المقصود بالتحديد من تصحيح السند على أقوال:
الأول: توثيق هؤلاء المذكورين في عبارة الكشي فقط(٣٩). فقد نقل الاتفاق على وثاقة المذكورين من غير منازع، أي لم يخالف أحد الرجاليين أو الرواة أو الفقهاء في وثاقتهم، بخلاف غيرهم من الرواة، كونه يمثل القدر المتيقن. إذ لو لم يستفد ذلك من كلام الكشي لكان وجودها كعدمه، كما لا يخفى.
وهو ما نقل عن صاحب الرياض S، ومال إليه الفيض في الوافي بقوله: (يحتمل كونه كنايةً عن الإجماع على عدالتهم وصدقهم، بخلاف غيرهم ممن لم ينقل الإجماع على عدالته)(٤٠)، ونسبه البعض إلى الأكثر كما حكي عن الفصول(٤١).
وهو مختار السيد الخوئي S في المعجم حيث قال (إن من الظاهر ان كلام الكشي إنما ينظر إلى بيان جلالة هؤلاء، وإن الإجماع قد انعقد على وثاقتهم وفقههم وتصديقهم فيما يروونه)(٤٢).
وقد نوقش هذا القول بمناقشات كثيرة منها:
أولاً: إن في مجموع كلام الكشي عن الطوائف الثلاثة تعبيرين، الأول تصديقهم والإقرار لهم بالفقه، والثاني تصحيح ما يصح عنهم، فالإجماع على وثاقتهم وفقههم هو مفاد التعبير الأول، فيبقى التعبير الثاني من دون مفاد، إلا أن يدعى أن مفاد لفظ التصحيح هو عين مفاد لفظ التصديق، وهو بعيد جداً كما لا يخفى. فلا بد من مزية خاصة للّفظ الصحيح، فيكون المعنى ان المذكورين في الطوائف الثلاثة جميعاً وإن أجمعت العصابة على تصديقهم وثقتهم، فقد امتاز ما عدا الأوائل بتصحيح العصابة لأخبارهم أيضاً.
ثانياً: إن كون الراوي ثقةً أمر مشترك، فلا وجه لاختصاص الإجماع بالمذكورين في عبارة الكشي.
وقد أجيب عن هذه المناقشة بجوابين:
الجواب الأول: ما عن الوحيد البهبهاني S من أن (هذا الاعتراض بظاهره في غاية السخافة، إذ كون الرجل ثقةً لا يستلزم الإجماع على وثاقته، إلا أن يكون المراد ما أورده بعض المحققين من أنه ليس في التعبير بها لتلك الجماعة دون غيرهم ممن لا خلاف في عدالته فائدة.
وفيه: إنه إن أردت عدم خلاف من المعدّلين المعروفين في الرجال، ففيه أولاً إنا لم نجد مَنْ وثقه جميعهم، وإن أردت عدم وجدان خلاف منهم، ففيه: إنّ هذا غير ظهور الوفاق...)(٤٣).
الجواب الثاني: إن مراد الكشي ليس هو مجرد نقل الإجماع على وثاقتهم، بل مراده نقل الإجماع المذكور عليها. مع بيان انقياد العصابة لهم بالفقه والعلم، بل الأفقهية في الجملة، والمجموع مزية جليلة، وفضيلة عظيمة غير مشتركة بينهم وبين غيرهم(٤٤).
ولكن كلا المجيبين ـ في آخر المطاف ـ رفضا هذا القول، حيث استقر الأول على (ان رواية هؤلاء إذا صحت إليهم لا تقصر عن أكثر الصحاح، ووجهه يظهر بالتأمل)(٤٥)
واستعان الثاني بعبارة المحدّث النوري S حيث قال (بل التعبير بها ـ أي بعبارة تصحيح ما يصح عنهم ـ أشبه شيء بالأكل من القفا, ولفظ ثقة من الألفاظ الدائرة الشائعة لا داعي للتعبير عنها بما لا ينطبق عليها مدلوله إلا بعد التكلف)(٤٦).
الثاني: أضبطية هؤلاء المذكورين وحفظهم وتثبتهم وفقاهتهم فقط، أي أن هؤلاء قد وقع الاتفاق على تفوقهم على من سواهم في هذه الصفات، والفرق بين هذا القول وسابقه يظهر بالتفريق بين مصطلحي الثقة والضابط، فالأول هو من يوثق بخبره، ويؤمن من الكذب عادةً، والثاني هي كونه (حافظاً لما يرويه، متيقظاً غير مغفل إن حدَّث من حفظهِ، ضابطاً لكتابه، حافظاً له من الغلط والتصحيف والتحريف، إن حدّث فيه، عارفاً بما يختل به المعنى إن روى بالمعنى)(٤٧).
وقد جعل المحقق الداماد S الضبط مضمناً في الثقة(٤٨)، وعليه يكون هذا القول داخلاً في ضمن القول السابق فالثقة ضابط من غير عكس، لذلك جعلهما البعض قولاً واحداً، وليس كذلك لوضوح الفرق بين المصطلحين كما تقدم. لإمكان أن يكون الثقة غير ضابط كما لا يخفى.
الثالث: توثيق من يروي عنه هؤلاء مباشرةً أو مع الواسطة، أي أن هذا الإجماع توثيق لهؤلاء الأشخاص المذكورين ومَنْ قبلهم إلى الإمام g، فإن روايتهم عنهم تكون بمثابة الشهادة على تعديل المروي عنهم، إذا كانوا مجهولي الحال أو مهملين، فضلاً عما إذا كانوا من الثقات.
وهل يعم الكلام ما إذا كان المروي عنهم من الضعفاء أو الوضاعين؟ قولان:
أولهما: التعميم، بناءً على أن رواية هؤلاء عن الضعف بمثابة الشهادة على تعديله، ولهذا عُدّ كون الخبر مروياً عن أحد المذكورين في كلام الكشي من جملة القرائن التي يعتمد عليها المتقدمون في الحكم بصحة الخبر، حتى وإن عدَّ ضعيفاً باصطلاح المتأخرين، توضيح ذلك: إن المتقدمين ـ ومنهم الكشي ـ يطلقون وصف الصحة على ما اقترن بما يوجب الوثوق بالصدور، والاطمئنان به، لا خصوص الحديث المروي من الإمامي الموثق ـ كما عليه المتأخرون ـ وهو ما يعترف به الجميع(٤٩)، من أن (هذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهرٌ لمن مارس كلامهم(٥٠)، بل كان المتعارف بينهم اطلاق الصحيح على كل حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه، أو اقترن بما يوجب الوثوق به)(٥١).
وقال صاحب المعالم S (فإن القدماء لا علم لهم بهذا الاصطلاح قطعاً، لاستغنائهم عنه في الغالب بكثرة القرائن الدالة على صدق الخبر... وإذا أطلقت الصحة في كلام من تقدم فمرادهم منها الثبوت والصدق)(٥٢) وقال في موضع آخر (وتوسعوا في طرق الروايات وأوردوا في كتبهم ما أقتضى رأيهم إيراده من غير إلتفات إلى التفرقة بين صحيح الطريق وضعيفه... اعتماداً منهم في الغالب على القرائن المقتضية لقبول ما دخل الضعف في طريقه)(٥٣).
وهذه القرائن ـ التي كان يعتمد القدماء فيما لو اعتضد بها الحديث أو اقترن بها لأوجب الوثوق به، والركون إليه، ووصفوه بالصحة، كما فعل صاحبا كتابي الكافي والفقيه فحكما بصحة جميع ما أورداه في كتابيهما من الأحاديث وإن لم يكن كثير منها صحيحاً على مصطلح المتأخرين(٥٤) ـ هي:
أولاً: وجود الخبر في كثير من الأصول الأربعمائة التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتصلة بأصحاب العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ وكانت متداولة لديهم في تلك الاعصار، مشتهرةً فيما بينهم.
ثانياً: تكرره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة.
ثالثاً: اندراجه في الكتب التي عرضت على أحد الأئمة i فأثنوا على مؤلفيها، ككتاب عبيد الله الحلبي، الذي عرض على الإمام الصادق g، وكتاب يونس بن عبد الرحمن، والفضل بن شاذان، المعروضين على الإمام العسكري g.
رابعاً: أخذه من أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها، والاعتماد عليها، سواء كان مؤلفوها من الفرقة الناجية، ككتاب الصلاة لحريز بن عبد الله السجستاني، وكتاب علي بن مهزيار، أو من غير الإمامية ككتاب حفص بن غياث القاضي، وحسين بن عبد الله السعدي، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري.
خامساً: وجود الخبر في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم كزرارة، ومحمد بن مسلم، والفضيل بن يسار، أو على تصحيح ما يصح عنهم كصفوان والبزنطي وابن أبي عمير، ويونس بن عبد الرحمن، أو سمع العمل برواياتهم كعمار الساباطي ونظرائه ممن عدّهم شيخ الطائفة في كتاب العدّة، ونقله عنه المحقق في المعتبر(٥٥).
وقد سلك هذا المنوال جماعة من أعلام علماء الرجال، وبه أُعتذر للشيخ الطوسي S عن العمل بالضعيف، بل حكموا اعتماداً عليه بصحة حديث بعض الرواة من غير الإماميين كعلي بن محمد بن رياح وغيره، لما لاح لهم من القرائن المذكورة المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الذين انعقد الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم(٥٦).
ثانيهما: عدم التعميم، فلا يشمل الأخبار التي روى فيها هؤلاء عن الضعفاء أو الوضاعين، وهو ما يقتضيه الجمع بين الأدلة، ويؤيده ما نقل عن صاحب الرياض S من دعواه (انه لم يعثر في الكتب الفقهية، من أول كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات، على عمل فقيه من فقهائنا بخبرٍ ضعيف محتجاً بأن في سنده أحد الجماعة وهو إليه صحيح)(٥٧).
وهو ما استفاد منه السيد الخوئي S في دعوى انه لم يعثر على هذا التصحيح في كلمات المتقدمين وأن وجوده إنما هو في كلمات المتأخرين، وبالتالي فإن غاية ما يفيده هذا الإجماع بيان جلالة هؤلاء وإنّ الإجماع قد انعقد على وثاقتهم وفقههم وتصديقهم فيما يروونه، حيث قال (أقول: لا بد أن السيد صاحب الرياض أراد بذلك انه لم يعثر على ذلك في كلمات من تقدم على العلامة ـ قدس سره ـ وإلا فهو موجود في كلمات جملة من المتأخرين كالشهيد الثاني، والعلامة المجلسي، والشيخ البهائي، ويبعد أن يخفى ذلك عليه.
ثم إن التصحيح المنسوب إلى الأصحاب في كلمات جماعة منهم: صاحب الوسائل ـ على ما عرفت ـ نسبه المحقق الكاشاني في أوائل كتابه الكافي إلى المتأخرين، وهو ظاهر في أنه أيضاً لم يعثر على ذلك في كلمات المتقدمين.
قال في المقدمة الثانية من كتابه بعد ما حكى الإجماع على التصحيح من الكشي (وقد فهم جماعة من المتأخرين من قوله أجمعت الصحابة أو الأصحاب على تصحيح ما يصح عن هؤلاء الحكم بصحة الحديث المنقول عنهم ونسبته إلى أهل البيت ـ i ـ بمجرد صحته عنهم، من دون اعتبار العدالة في من يروون عنه، حتى لو رووا عن معروف بالفسق، أو بالوضع فضلاً عما لو أرسلوا الحديث، كان ما نقلوه صحيحاً محكوماً على نسبته إلى أهل بيت العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ.
وأنت خبير بأن هذه العبارة ليست صريحة في ذلك ولا ظاهرة فيه، فإنّ ما يصح عنهم إنّما هو الرواية لا المروي، بل كما يحتمل ذلك يحتمل كونها كناية عن الإجماع على عدالتهم وصدقهم، بخلاف غيرهم ممن لم ينقل الإجماع على عدالته)(٥٨).
ثم قال S: (إنّ ما ذكره متين).
أقول: إنّ عبارة المحقق الكاشاني S لا تفيد نسبة الإجماع إلى المتأخرين ونفيه عن القدماء، وإنّما أفادت بيان فهم المتأخرين للإجماع بشكل لا يرتضيه المحقق المذكور لا غير، لذلك تراه يقدم تفسيرات أخرى تحتمل من عبارة الكشي.
ومن الواضح أنّ هذا القول يصلح وجهاً لطرح الشيخ S لروايات أصحاب الإجماع المشتمل سندها على ضعيف.
إذا اتضحت هذه الأقوال في تفسير كلام الكشي، فاعلم أنّ الشيخ S في أواخر بحثه عن خبر الواحد في كتاب العدة ـ وهو الأصل في هذه الدعوى كما صرح بذلك السيد الخوئي S ـ(٥٩) قال: (وإذا كان أحد الراوين مسنداً والآخر مُرسلاً، نظر في حال المرسِل، فإن كان ممن يعلم انه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به، فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمّن يوثق به، وبين ما أسنده غيرهم..)(٦٠) وقد تبعه في ذلك جمع ممن اطلعنا على كلماتهم كالمحقق في المعتبر والعلّامة في المختلف والشهيد في الذكرى وشارح الدروس والوحيد في الفوائد، وصاحب الرياض والسيد بحر العلوم في فوائده، وصاحب كشف الرموز والشيخ البهائي وغيرهم.
ومن الواضح أننا إذا أردنا إرجاع عبارة الشيخ S هذه إلى الأقوال المتقدمة في تفسير كلام الكشي. فإنها تناسب القولين الأول والأخير، أما الأول ـ أعني تصحيح المروي دون الرواية بالمعنى المصدري ـ فإنّه يواجه مشكلة طعن الشيخ نفسه ببعض مرويات هؤلاء معللاً ذلك بالإرسال، وهو ما سيأتي بيانه ومحاولة الإجابة عنه لاحقاً.
وأما الأخير ـ أعني توثيق من يروى عنه هؤلاء ـ فيواجه مضافاً لمواجهته نفس المشكلة المتقدمة، مجموعة من المشاكل التي سنتعرض لها وللإجابة عنها قريباً.
لذلك أطمأن الرافضون لدعوى الشيخ S. بأنّ منشأ التسوية هو عبارة الكشي المتقدمة، كما صرّح بذلك السيد الخوئي S في أكثر من موضع من الجزء الأول من المعجم.
الحاصل ان في المقام ثلاث دعاوٍ، الأولى: دعوى الكشي إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عن جماعة، منهم الثلاثة موضوع البحث، وقد تقدم الكلام فيها. الثانية: انهم ـ أو خصوص الثلاثة ـ لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة. الثالثة: تسوية الطائفة بين مراسيلهم وصحاح غيرهم.
فهل أنّ الدعوى الأولى هي المنشأ للأخيرتين. فتكونان تفسيراً وتعليلاً لها، اجتهد في فهمه الشيخ S؟ أم أنه إخبار مستقل منه، وأنه شاهد لهم به، فيكون التصحيح ثابتاً للطوائف الثلاثة التي ذكرها الكشي، أما التسوية وعدم الإرسال إلا عن ثقة فثابت لخصوص الثلاثة. إن سُلِّما؟
فقد التزم جماعة منهم السيد الخوئي S بما يلي:
أولاً: إنّ منشأ الدعويين الأخيرتين للشيخ S هو كلام الكشي من إجماع العصابة، وأنه مجتهد في استخراج علة وسبب قبولهم وتصحيحهم لأخبار هؤلاء، لا أنه مخبر بذلك شاهد به، حيث صرح بذلك غير مرة، حيث قال تارة (ولكن هذه الدعوى باطلة ـ أي دعوى أنهم لا يرسلون إلا عن ثقة ـ فإنها اجتهاد من الشيخ، قد استنبطه من اعتقاده تسوية الأصحاب ـ المنصوص عليها في عبارة الكشي ـ بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم، وهذا لا يتم)(٦١)، وقال أخرى (فمن المطمأن به أنّ منشأ هذه الدعوى هو دعوى الكشي الإجماع على تصحيح ما يصح عن هؤلاء، وقد زعم الشيخ أنّ منشأ الإجماع هو أنّ هؤلاء لا يروون إلا عن ثقة، وقد مرّ قريباً بطلان ذلك)(٦٢).
ولازم ذلك عدم اختصاص الثلاثة بالتسوية المزبورة، بل ستثبت لجميع من ذكرهم الكشي، ويؤكد ذلك أن الشيخ S لم يقتصر على الثلاثة، بل قال: (وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمّن يوثق به)(٦٣)
لذلك انصب تركيز الرافضين لدعوى الشيخ S ـ في هذه المرحلة ـ على إثبات اختصاص الثلاثة دون غيرهم بالتسوية المزبورة ليتسنى لهم إضعاف دعوى الشيخ S اعتماداً على أمرين:
الأول: إنّ الشيخ S نفسه قد خصّهم بذلك. قال السيد الخوئي S (والشيخ بنفسه أيضاً لم يدعِ ذلك في حق أحدٍ غير الثلاثة المذكورين في كلامه)(٦٤).
الثاني: إنّ رواية جملةٍ ممّن عدا الثلاثة موضوع البحث من أصحاب الإجماع عن غير المعصوم قليلة جداً، فلا مجال لتصور الإرسال أصلاً في رواياتهم، حتى يحكم لهم بعدم الإرسال إلا عن ثقة، مضافاً إلى أنّ جماعة منهم قد روى عن الضعفاء، فهذا سالم بن أبي حفصة قد تظافرت الروايات في ذمه وضلاله وإضلاله، قد روى محمد بن يعقوب بسندٍ صحيح عن زرارة عنه(٦٥).
وقد نوقشت دعوى انحصار منشأ التسوية المزبورة في دعوى الكشي بالمنع. وإمكان وجود منشأ آخر يحتمل اعتماد الشيخ عليه في هذه التسوية، خصوصاً ان الجميع ـ عن فيهم الرافضون لدعوى الشيخ S ـ يعترفون بوجود عشرات المصادر الرجالية التي لم تصل إلينا، فاحتمال وجود منشأ آخر لهذه الدعوى عند الشيخ S غير دعوى الكشي وارد جداً.
على أنّ الأمرين الذين اعتمد عليهما ـ من أن الشيخ نفسه قد خصّ الثلاثة بذلك. وان رواية جملة ممن عداهم عن غير المعصوم قليلة جداً ـ تؤيد عدم كون عبارة الكشي منشأً لدعوى الشيخ.
ثانياً: إنه على فرض التسليم بأن منشأ دعوى الشيخ S ليس هو دعوى الكشي، وأن الشيخ S لم يكن مجتهداً في استخراج سبب تصحيحهم لأخبارهم، بل كان مخبراً بعدم إرسالهم إلا عن ثقة، شاهداً بذلك، فإنه مع ذلك يبقى (ما ذكره الشيخ من أن هؤلاء الثلاثة، صفوان وابن أبي عمير، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة، غير قابل للتصديق)(٦٦) وان (هذه الدعوى باطلة)(٦٧)، وانها (دعوى دون إثباتها خرط القتاد)(٦٨)
وقد أطال الرافضون لدعوى الشيخ S في إقامة الأدلة والمؤيدات على بطلان هذه الدعوى وأهمها:
أولاً: إنّ التسوية المذكورة لو كانت صحيحةً، وأمراً معروفاً متسالماً عليه بين الأصحاب لذكرت في كلام أحدٍ من القدماء لا محالة، والحال انه ليس منها في كلماتهم عين ولا أثر(٦٩).
وقد رُدّ هذا الدليل بعين ما تقدم من مناقشة انحصار منشأ التسوية المذكورة بدعوى الكشي من إمكان ذكرها في المصادر الرجالية التي يعترف حتى المستدل نفسه بعدم وصول العشرات منها إلينا، حيث اعترف السيد الخوئي S نفسه عند الكلام في ثبوت الوثاقة بنص أحد أعلام المتقدمين، إن عدد الكتب الرجالية من زمان الحسن بن محبوب إلى زمان الشيخ بلغ نيفاً ومئة كتاب(٧٠)، وذكر أيضاً عند الكلام في ثبوت الوثاقة بنص أحد أعلام المتأخرين، أن باقي الكتب الرجالية المعروفة في عصر الشيخ والنجاشي لم يبقَ منها عين ولا أثر في عصر المتأخرين(٧١)، وأن ما وصل إلى المتأخرين كتابا الشيخ وفهرست النجاشي ورجال البرقي واختيار الكشي، وقد اتضح لك فيما مضى أن الشيخ S قد أخبر بذلك ونقله، بل ووصف الثلاثة موضوع البحث بأنهم عرفوا لا يرسلون إلا عن ثقة، بل نسب التسوية بين مراسيلهم وصحاح غيرهم للطائفة، والنجاشي قد ذكرها في ترجمة ابن أبي عمير باعتراف المعترض نفسه(٧٢)، وعبارة الكشي قد تقدم نقل تصريحه إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عن طوائف ثلاثة، أحدها المشتملة على الثلاثة موضوع البحث. إلا أنّ المعترض أبى إلا أن يفسر الإجماع بالوثاقة ليس إلا.
إن قلت: إن التسوية لو كانت أمراً معروفاً لذكرها ابن أبي عقيل في كتابه، أو ابن قولويه في مقدمة كامل الزيارات، أو النعماني في الغيبة، أو الكليني، أو الصدوق في توحيده؟
قلنا: إن عدم وجودها في هذه الكتب لا يكشف عن عدم وجودها واقعاً، فكان الأولى بالرافضين في هذه المسألة أن يتوقفوا لا أن يرفضوا، هذا، إن قطعنا النظر عن كتابي الشيخ S وفهرست النجاشي واختيار الكشي، وإلا فلا داعي للتوقف، خصوصاً مع عدم وجود معارض، وبعدما نقلنا لك تصريح الرافضين أنفسهم بوجود كتب رجالية للمتقدمين لم يبقَ منها عين ولا أثر في عصر المتأخرين.
ثانياً: إنَّ مما يكشف عن أنَّ نسبة الشيخ S التسوية المذكورة إلى الأصحاب مبتنية على اجتهاده، وهي غير ثابتة في نفسها، أن الشيخ نفسه ذكر رواية محمد ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة عن أبي جعفر g (٧٣)، ثم قال في كلا كتابيه ـ التهذيب والاستبصار ـ (فأول ما فيه انه مرسل، وما هذا سبيله لا يعارض به الأخبار المسندة)، وأيضاً ذكر مثل هذه العبارة في حق غير ابن أبي عمير من أصحاب الإجماع، فقد ذكر رواية محمد بن علي بن محبوب عن العباس عن عبدالله بن المغيرة عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله g (٧٤)، قال في التهذيب (وهذا خبر مرسل) وقال في الاستبصار (فأول ما في هذا الخبر أنه مرسل) وغير ذلك من الموارد التي ناقش الشيخ فيها بالإرسال وقد يناقش فيه من وجوه:
الأول: إن إيراد عبارة الشيخ S في حق غير الثلاثة موضع البحث، كعبدالله بن المغيرة، دليل قاطع على انّ منشأ الدعوى ليس عبارة الكشي الناصة على الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم، كما ادعاه المستدل فيما تقدم من الحديث عن الأمر الأول الذي التزم به، بل وصرح باطمئنانه به.
الثاني: إنّ طعن الشيخ S في مراسيل غير الثلاثة ـ كعبدالله بن المغيرة ـ لا يؤثر على المدعى، لأنه لم يدع أن أصحاب الإجماع لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة، وإنما ادعى أنّ الثلاثة وغيرهم عرفوا بأنهم لا يرسلون إلا عن ثقة، فكيف تأتى له الجزم بأن الكلام في أصحاب الإجماع، خصوصاً بعد ما تقدم من إبطال كون عبارة الكشي هي المنشأ لدعوى الشيخ S، فتأمل.
الثالث: إن المتتبع للموارد التي طعن الشيخ S فيها بأخبار الثلاثة موضوع البحث في كتابي التهذيب والاستبصار لا يجد غير ثمانية موارد من ضمنها المورد الذي ذكره المستدل، فلو سلمنا أن الشيخ S قد رفض هذه الروايات الثمانية لكونها مرسلةً، فإنّ في قبالها عشرات الروايات المرسلة ممن كان المرسل فيها أحد الثلاثة موضوع البحث قد عمل بها الشيخ S واستند إليها. توضيح ذلك: إن الشيخ S ـ بحسب الظاهر ـ قد طعن في كل من التهذيب والاستبصار بما مجموعه ثمان روايات من روايات الثلاثة موضوع البحث بالإرسال، وهذه الروايات هي:
الرواية الأولى: وهي الرواية التي ذكرها المستدل، وهي رواية محمد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا، عن زرارة عن أبي جعفر g قال: (السائبة وغير السائبة سواء في العتق)(٧٥).
وقد طعن بها الشيخ S بقوله أنّ (أو ل ما فيه أنه مرسل، وما هذا سبيله لا يعارض به الأخبار المسندة)(٧٦) والتعبير بـ (أول ما فيه) صريح في أن الإرسال ليس هو السبب الوحيد للطعن بالرواية، ولو فُسرت الرواية بعدم التفريق بين السائبة وغيرها في الولاء فإنها ستكون معارضة لروايات عديدة صحيحة قد فرقت بين السائبة وغيرها في العتق لا في الولاء ـ كما هو ظاهر لفظ الرواية ـ فهي مقبولة عنده، لأنه يقول بالمساواة بينهما في العتق، وهو ما صرّح به بقوله (انه ليس في ظاهر الخبر أنّ ولاء السائبة مثل ولاء غيرها، وإنما جعلهما سواء في العتق، ونحن نقول بذلك)(٧٧)، ثم ذكر خمسة أحاديث تكشف عن هذه المساواة، وتؤكد مفاد هذه المرسلة.
الرواية الثانية: عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله g قال (الكر من الماء الذي لا ينجسه شيء ألف ومائتا رطل)(٧٨).
ومن الواضح أن الشيخ S لم يطعن في هذه الرواية بالإرسال أصلاً، بل أوردها للاستدلال على أن مقدار الكر ألف ومائتا رطل، ورفع توهم مناقضتها للروايات التي تتضمن التحديد بثلاثة أشبار وذراعين، وما أشبه ذلك، بأنه (لا يمتنع أن يكون ما قدره هذه الأقدار ـ يعني الثلاثة أشبار والذراعين وما أشبه ذلك ـ وزنه ألف ومائتا رطل)(٧٩)، ثم أورد طرفاً من الأخبار التي ذكرت ذلك، من دون تعرض لإخلال الإرسال فيها.
الرواية الثالثة: ما رواه محمد بن أبي عمير قال: روي لي عن عبدالله، يعني ابن المغيرة، يرفعه إلى أبي عبدالله g ان الكر ستمائة رطل(٨٠).
وقد علّق عليها الشيخ S بقوله: (فأول ما فيه أنه مرسل غير مسند)(٨١).
ومن الواضح أيضاً أن الطعن في هذه الرواية كسابقتها لم يكن للإرسال فحسب، بل ولأنها مضادة لأحاديث تثبت إن مقدار الكر ألف ومائتا رطل، ولأنها لم يعمل عليها أحد من فقهائنا(٨٢)، ومع ذلك حاول في النهاية قبول مفادها برفع التعارض بإمكان (أن يكون الذي سأل عن الكر كان من البلد الذي عادة أرطالهم ما يوازي رطلين بالبغدادي، فأفتاه على ما علم من عادته، ويكون مشتملاً على القدر الذي قدمناه في الكر)(٨٣).
فالحاصل أن الطعن لو كان منحصراً بالإرسال مع عدم معارضتها لروايات أخرى لأمكن أن يكون راجعاً إلى أصل دعوى الشيخ S، والحال أن الأمر ليس كذلك كما لا يخفى.
الرواية الرابعة: عن صفوان عن علي بن إسماعيل الدعشي، عن رجل من أهل الشام، عن عبدالله بن أبان الزيات، عن أبي الحسن الرضا g قال: سألته عن رجل تزوج ابنة عمه، وقد أرضعته أم ولد جده، هل تحرم على الغلام أم لا؟ قال: لا(٨٤).
وقد علّق الشيخ S على هذا الخبر بأنه (خبر مقطوع الإسناد، وما هذا حكمه لا يعترض به الأخبار الصحيحة)(٨٥)، فالطعن بالإرسال لكونه في مقام التعارض، لا أن المرسل مرفوض مطلقاً، لذلك حاول تأويله بما لا يتعارض مع الروايات الصحيحة فيقبل على الرغم من كونه مرسلاً، لذلك قال: (ولو سَلِم من ذلك لكان محمولاً على انه إذا كانت أم ولدٍ قد أرضعته بغير لبن جده، أو تكون أرضعته إرضاعاً لا يحرم، ولو كان رضاعاً تاماً لكان قد صار عمها إن كان الجد من قبل الأب، وإن كان الجد من قبل الأم فليس هناك وجه يقتضي التحريم)(٨٦).
الرواية الخامسة: أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عمن رواه، قال: (لا تورثوا من الأجداد إلا ثلاثة، أبو الأم، وأبو الأب، وأبو أب الأب)(٨٧).
وقد طعن الشيخ بهذا الخبر بأنه غير معمول به لأنه مرسل غير مسند، وثانياً لأن الجد الأعلى لا يرث مع الجد الأدنى، بل الجد الأدنى يحوز المال كله(٨٨)، واستدل على ذلك بروايتين. وواضح أنه جعل الإرسال أحد وجوه الطعن. لا أنّ الطعن منحصر في الإرسال، بل ضم إليه معارضته لما يدل على أن الجد الأعلى لا يرث مع الجد الأدنى، مضافاً إلى أنه حمل الرواية في الاستبصار على التقية لأنه يجوز أن يكون في متقدمي العامة من يفتي بذلك:
فالنتيجة أنه قبل المرسلة على الرغم من إرسالها.
الرواية السادسة: ما رواه علي بن الحسين بن فضال، عن أيوب بن نوح، عن محمد بن أبي عمير، عن جميل، فيما يعلم، رواه قال: إذا ترك الميت جدتين، أم أبيه وأم أمه، فالسدس بينهما(٨٩) وقد طعن الشيخ S في هذه الرواية مع رواية ثانية بقوله: (هذان الخبران غير معمول بهما، لأنّ الخبر الأول ـ وهو الذي بين أيدينا ـ مرسل مقطوع الإسناد)(٩٠).
ولكن طعنه لم يقتصر أيضاً على الإرسال ليكون خادشاً في أصل المدعى موضوع البحث، بل ولأنه مخالف لما قدمه من الأخبار، حيث قال: (والثاني مع الأول مخالفان لما قدمناه من الأخبار، لأنا قد بيّنا أن الجدة إنما تستحق الطعمة من نصيب ولدها، والخبر يتضمن أيضاً إنّها تعطى الطعمة إذا لم يكن هناك ولدها)(٩١)، على أنه في نهاية المطاف احتمل أن يكون الخبران وردا مورد التقية، لأن هذه القضية قضى بها أو بكر في خلافته، فيجوز أن يكون روى على ما قضى به(٩٢).
الرواية السابعة: وهي في الحقيقة ليست رواية واحدة، بل روايتان:
الأولى: ما وراه أحمد بن محمد عن محمد عن محمد بن أبي عمير عن خلاد عن السري، يرفعه إلى أمير المؤمنين g في الرجل يموت ويترك مالاً ليس له وارث؟ فقال أمير المؤمنين g أعطه همشاريجه(٩٣)(٩٤).
الثانية: ما رواه أيضاً عن داود، عمن ذكره، عن أبي عبدالله g قال: مات رجل على عهد أمير المؤمنين g لم يكن له وارث، فدفع أمير المؤمنين g ميراثه إلى همشهريجه(٩٥).
وقد طعن الشيخ S في التهذيب بالرواية الثانية فقط بالإرسال بقوله (فهذه رواية مرسلة لا تعارض ما قدمناه من الأخبار)(٩٦)، والظاهر إنّ الطعن موجه للروايتين معاً، لأنّ مفاد المتن فيهما واحد، وكلاهما مرسلتان. كذلك انه قال عن الخبر الثاني (ورواه أيضاً)، فيكون قوله (فهذه رواية مرسلة) راجعاً للخبرين لا لخصوص الأخيرة، على الرغم من أنه في الاستبصار طعن في كل منهما بالإرسال على حده.
وكيفما كان، فإنّ طعن الشيخ S فيهما لا للإرسال فحسب، بل ولأنهما معارضتان للروايات الصحيحة الدالة على أنّ من لا وارث له فماله من الأنفال، على أنه في نهاية المطاف ـ أيضاً ـ قد فسرهما بما يرفع التنافي بينهما وبين غيرها من الروايات الصحاح، فتقبل حينئذٍ، حيث قال (مع أنه ليس فيها ما ينافي ما تقدم، لأنّ الذي تضمن أن أمير المؤمنين g أعطى تركته همشاريجه، ولعل ذلك فعل لبعض الاستصلاح؛ لأنه إذا كان المال له خاصة على ما قدمناه، جاز له أن يعمل به ما شاء، وليس في الرواية انه قال: إنّ هذا حكم كل مال لا وارث له، فيكون منافياً لما تقدم من الأخبار)(٩٧).
الرواية الثامنة: ما رواه الحسن بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن سوقه، عمن أخبره، قال: سألت أبا عبدالله g عن رجل يأتي أهله من خلفها؟ قال: هو أحد المأتيين، فيه الغسل(٩٨).
ففي التهذيب لم يطعن بهذه الرواية، بل قبلها، وجعلها مؤيدةً لغيرها من الروايات المسندة في بيان حكم إتيان الزوجة من الدبر، ولكنه في الاستبصار طعن فيها بالإرسال، وقال: (وما هذا حكمه لا يعارض به الأخبار المسندة) النافية لوجوب الغسل عند اتيان الزوجة من الدبر، وأضاف إلى خدشة الإرسال كون الخبر من أخبار الآحاد التي لا توجب العلم ولا العمل، فلا يجب العمل بها، ولكنه في نهاية الأمر أورد احتمال أن يكون هذا الخبر قد ورد مورد التقية، لأنه موافق لمذاهب بعض العامة(٩٩).
فالنتيجة: إنّ طعن الشيخ S في هذه الروايات الثمانية لم يكن للإرسال فحسب، بل ولمعارضتها الأخبار الصحيحة، ومع ذلك رأيناه يحاول تأويلها جميعاً بتأويلات يرتفع معها التعارض، فتقبل حينئذٍ. على أنا لو سلمنا أن الشيخ S قد رفض هذه الروايات الثمانية لكونها مرسلةً، فإنّ في قبالها عشرات الروايات المرسلة ممن كان المرسل فيها أحد الثلاثة، قد عمل بها الشيخ S واستند إليها، ولكن الإنصاف ان عشرات المراسيل التي عمل بها الشيخ S لم نجد مورداً عمل بها فيه لوحدها، بل عمل بها منضمةً لغيرها من الصحاح، فيمكن أن يكون العمل بها ليس اعتماداً على كونهم لا يرسلون إلا عن ثقةٍ، إذ أن مراسيل غيرهم قد تذكر إلى جانب الصحاح بالرغم من أن مرسليها من غير الثلاثة.
نعم، لو عثر على مورد أو أكثر قد عمل الشيخ S فيه بمراسيل هؤلاء الثلاثة في حال انفرادهم في الرواية، وهو ما أكده الشيخ S في العدة بقوله: (لذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم)(١٠٠) وذلك كما يحتمل جداً في الحكم بثبوت الأرش دون القصاص على الرجل يضرب سن الصبي فتسقط ثم تنبت، ويد الرجل تكسر ثم تبرأ، اعتماداً على مرسلتين لأبن أبي عمير(١٠١)، لأمكننا القطع بالتزام الشيخ S بالدعوى، فتأمل.
ثالثاً: (إن هذه الدعوى، وإن هؤلاء الثلاثة وأضرابهم من الثقات لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقةٍ، دعوى دون إثباتها خرط القتاد، فإنّ معرفة ذلك في غير ما إذا صرّح الراوي بنفسه أنه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقةٍ، أمر غير ميسور، ومن الظاهر انه لم ينسب إلى أحد هؤلاء إخباره وتصريحه بذلك، وليس لنا طريق آخر لكشفه..)(١٠٢).
ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأن عدم نسبة الشيخ S ما ادعاه في العدة إلى تصريحهم بذلك أنفسهم لا يستلزم عدم صدور تصريح منهم بذلك، والشيخ S أو غيره غير ملزمين بنقل كل شأن من شؤون الرواة، فيمكن أن يكون التصريح موجوداً لدى الطبقة الأولى التي يعترف المستدل نفسه بضياع تراثهم، وعدم وصوله إلينا كما تقدم نقل ذلك عنه. ثم جرت الطائفة عملياً على مقتضاه دون التزامهم بنقل التصريح إلى من بعدهم، ومع إمكان ذلك فلا ترجع شهادة الشيخ في العدة إلى أمرٍ حدسي، بل تكون شهادته وإخباره حجة قطعاً بعد كفاية احتمال حسيّة المنشأ في حجية الخبر، وهو ما يعترف به المستدل نفسه عند كلامه في ثبوت الوثاقة بنص أحد المتقدمين حيث قال: (فإن قيل: إن اخبارهم عن الوثاقة والحسن ـ لعله نشأ من الحدس ـ .. قلنا: إن هذا الاحتمال لا يعتنى به بعد قيام السيرة على حجية خبر الثقة فيما لم يعلم أنه نشأ من الحدس، ولا ريب في أن احتمال الحس في أخبارهم موجود وجداناً)(١٠٣) ثم إن وصف المستدل للاطلاع على كون الراوي لا يروي أو لا يرسل إلا عن ثقة مع عدم تصريحه بنفسه، بأنه أمر غير ميسور، قد يصح بالنسبة إلى من طال الزمان بينه وبينه، أما بالنسبة لمن قرب عهده منه، أو عاصره، وعرف انه في غاية التحرز عن الرواية عن غير الثقة، يتيسر له الاطمئنان والقطع بأنه لا يروي عن غير الثقة.
رابعاً: (قد ثبت رواية هؤلاء عن الضعفاء في موارد ذكر جملةً منها الشيخ نفسه، ولا أدري أنه مع ذلك كيف يدعي ـ يعني الشيخ S ـ أن هؤلاء لا يروون عن الضعفاء؟ فهذا صفوان روى عن علي بن أبي حمزة البطائني كتابه، ذكره الشيخ، وهو الذي قال فيه علي بن الحسن بن فضال (كذاب ملعون) وروى محمد بن يعقوب بسندٍ صحيح عن صفوان بن يحيى، عن علي بن أبي حمزة)(١٠٤).
وتتبع المستدل موارد رواية الثلاثة عن الضعفاء فذكر تسعةً منها، وادعى ان روايتهم عن الضعفاء غير منحصرة فيما ذكره، مضافاً إلى دعواه كثرة روايتهم عن المجاهيل غير المذكورين في الرجال، حتى حكم في نهاية كلامه بأنّ (ما ذكره الشيخ من أن هؤلاء الثلاثة، صفوان، وابن أبي عمير، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقةٍ، غير قابل للتصديق، وهو أعلم بما قال)(١٠٥).
ويمكن أن يناقش هذا الدليل بوجوه، منها:
أولاً: يفد الاعتراف بأن الشيخ S في العدة قد ذكر تعبيري (لا يروون) و (لا يرسلون) إلا عن ثقةٍ، فلو ثبت ما ادعاه المستدل من رواية الثلاثة عن الضعفاء المتسالم على ضعفهم، وبناءً على عدم التفريق بين المعطوف، والمعطوف عليه (أعني لا يروون ولا يرسلون) فإنّ دعوى الشيخ S تكون ساقطةً لا محالة، ولكننا لا نسلم بالشقين معاً، أما الأول، فلأنّ الضعفاء الذين ادعى المستدل رواية الثلاثة عنهم، لم يتسالم الأصحاب على القول بضعفهم، أو ما يقرب من ذلك، فتضعيف ابن فضال ـ مثلاً ـ لبعض رجال ابن أبي عمير لا يستلزم عدم صحة دعوى الشيخ S، أو ابتناءها على الاجتهاد والحدس. وأما الثاني، فلأنّ هناك فرقاً بين عدم الرواية عن الضعفاء، وبين عدم الإرسال إلا عمن يوثق به، فحتى لو ثبتت روايتهم عن الضعفاء في المسانيد، لا يستلزم ذلك كون الساقط في مراسيلهم هو من الضعفاء أيضاً.
ثانياً: يمكن أن يكون المراد من التعبير بالرواية في كلام الشيخ S خصوص الإرسال، بقرينة عطفه (لا يرسلون) على (لا يروون) ـ وإن كان حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التأكيد ـ فيكون العطف عطف تفسير، فيصير المعنى إنّ الثلاثة إذا أرادوا أن يرسلوا فإنهم لا يرسلون إلا عن ثقة، حتى وإن ثبتت روايتهم عن الضعفاء في غير حال الإرسال، فيكون المعنى إنّ أحد الثلاثة إذا أراد أن يُسقط الواسطة بينه وبين المعصوم g فلا بد أن يكون الساقط ثقةً، وهذا لا ينافي روايتهم عن الضعفاء، إن سلمنا ذلك، فتأمل.
ثالثاً: لو سُلّمَ رواية الثلاثة عمّن تسالم الأصحاب على ضعفه، فإنه معارض بشهادة الشيخ S وإخباره بتسوية الطائفة بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم، فمع التسليم بالمكافأة لا يستلزم ذلك أكثر من سقوط الشهادتين في خصوص مورد التعارض، دون استلزامه القدح بأصل الدعوى.
وبعبارة أخرى، أننا لو سلمنا بتمامية المعارض، فإنّ دعوى الشيخ S لا تتوقف صحتها على عدم وجود معارض، بل تكون شهادة أحدهم بضعف أحد ممن روى عنه الثلاثة ـ كالبطائني مثلاً ـ نظير شهادة النجاشي بوثاقة الحسن اللؤلؤي في قبال شهادة الشيخ بضعفه، فإنه لا يلوم منه إلا سقوط قوليهما في خصوص مورد التعارض.
رابعاً: إن المحقق الحلي S في المسألة السادسة من الفصل الثالث من المعارج حكى عن الشيخ S أنه (إذا أرسل الراوي الرواية، قال الشيخ (ره): إن كان ممن عرف أنه لا يروي إلا عن ثقةٍ، قُبلت مطلقاً، وإن لم يكن كذلك، قُبلت بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة، واحتج لذلك بأن الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها من المعارض، كما عملت بالمسانيد...) (١٠٦).
فلو سلّمنا ثبوت رواية الثلاثة عمّن، تسالم الأصحاب على ضعفه ـ كما ادعى المستدل ذلك ـ فإنّ الشق الثاني من عبارة الشيخ S وهو قوله: (وإن لم يكن كذلك قبلت بشرط أن لا يكون لها معارض..) هو الذي ينطبق على الثلاثة موضوع البحث، وهو ما يتناسب مع طريقة تعامله مع مراسيل الثلاثة، فإنه يطعن بها عند وجود معارض من الروايات الصحيحة، ويقبلها عند خلوها من المعارض. كما تقدم بيانه مفصلاً.
وعليه، فلا يكون الثلاثة موضوع البحث مصاديق لدعوى وجود جماعة لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقةٍ، فتقبل مراسيلهم مطلقاً، وإن كانت الدعوى في نفسها سالمةً من الطعن، يصلح أن يكون مصداقاً لها كل من ثبت في حقه أنه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة..
فالمتحصل مما تقدم كله، إنّ الشيخ S صرّح في العدّة، وحكى عنه في المعارج، وجود جماعة عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة، وذكر أنّ منهم الثلاثة موضوع البحث وغيرهم، ولكن كون منشأ هذه الدعوى هل هو عبارة الكشي المتقدمة ـ كما اطمأن بذلك السيد الخوئي S اعتماداً على عدم وجودها في كلمات المتقدمين في رأيه ـ فتكون هذه الدعوى مجرد اجتهاد من الشيخ S في تفسير الإجماع المذكور في عبارة الكشي(١٠٧)ـ، أم هو غير عبارة الكشي من المصادر الحديثية التي يعترف السيد الخوئي S نفسه بعدم وصول أغلبها إلى المتأخرين؟ وهو احتمال وارد، خصوصاً وأنّ الشيخ S نسب ذلك إلى الطائفة، ولكن حتى على فرض ترجيح هذا الاحتمال فإنّ وقوع الضعفاء في مرويات الثلاثة، وطعن الشيخ S نفسه في الموارد الثمانية المتقدمة، وتعامله مع مراسيل الثلاثة بنفس طريقة تعامله مع مراسيل غيرهم، وعدم الاعتماد ـ في الغالب ـ على مراسيل الثلاثة في الاستدلال إلا مع انضمامها إلى غيرها من الصحاح، يلزمنا بالقول بقبول مراسيل الثلاثة في حال خلوها عن المعارض، لا أنها تقبل مطلقاً، كما حكى ذلك المحقق S في المعارج عن الشيخ S بأنه (إن كان ممن عرف بأنه لا يروي إلا عن ثقةٍ، قبلت مطلقاً)(١٠٨) بجعل الثلاثة مصاديق لمن لا يروي إلا عن ثقة؛ لوقوع الضعفاء في مروياتهم، كما تقدم، وطعن الشيخ S نفسه في الموارد الثمانية فيها بالإرسال في مقام تعارضها مع الروايات الصحيحة.
اللهم إلا أن يلتزم بعدم إمكانية الاستناد إلى ما ذكر في التهذيبين، من الطعن برواياتهم بالإرسال، والاعتماد على ما صرّح به في العدّة من انهم لا يرسلون إلا عن ثقة، اعتماداً على ما نقلناه سابقاً عن سيد أساتذتنا (مُدَّ ظله) من النقض بالالتزام بحجية مراسيلهم اعتماداً على كلام الشيخ نفسه في العدة من انهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقةٍ(١٠٩)، ولعل السبب في ذلك ما ذكر تلميذه A في القبسات (من أنّ الشيخ S قد شرع في تأليف التهذيب في حياة أستاذه الشيخ المفيد L المتوفى عام أربعمائة وثلاثة عشر، وله آنذاك أقل من ثمان وعشرين سنة، وقد أكمله بعد وفاة الشيخ المفيد، ثم ألّفَ الاستبصار معتمداً على ما ورد في التهذيب، إلا بعض الإضافات الطفيفة.
وأما كتاب العدة في أصول الفقه الذي اشتمل على ما تقدم بشأن ابن أبي عمير وأضرابه، فقد ألّفه ـ في ما يبدو ـ بعد وفاة أستاذه الآخر، وهو السيد المرتضى S المتوفى عام أربعمائة وستة وثلاثين، كما يقتضيه الترحم عليه في مواضع شتى من هذا الكتاب.
وبقي الشيخ S على قيد الحياة إلى عام أربعمائة وستين، وعلى ذلك فلا يستغرب أنه لم يكن حين تأليفه التهذيبين مطّلعاً على ما حكاه من عمل الطائفة بمراسيل ابن أبي عمير وأضرابه، لا سيما وانه لم يبقَ مع أستاذه المفيد S إلا أقل من خمس سنين، وأما السيد المرتضى S فمن المعروف عنه أنه لم يكن يعمل بأخبار الآحاد، ولذلك لم يكن الأمر المذكور موضع اهتمامه بطبيعة الحال)(١١٠).
أو الحل بالالتزام بتكفل الشيخ S في التهذيبين لحل ظاهرة التعارض بين الأخبار، وذلك مما ألجأه ـ أحياناً ـ إلى اتباع الأسلوب الاقناعي في البحث، المتمثل في حمل جملة من الروايات على بعض المحامل البعيدة، أو المناقشة في حجيتها ببعض الوجوه التي لا تنسجم مع مبانيه الرجالية أو الأصولية المذكورة في سائر كتبه، وهذا ظاهر لمن تتبع طريقته S في الكتابين(١١١)، ويؤيده ما حكاه المحقق في المعارج عن الشيخ نفسه بأن الراوي (إن كان ممّن عرف بأنه لا يروي إلا عن ثقة، قبلت مطلقاً)(١١٢).
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
(١) وهي أربعة: أحدها: أصل الصدور. وثانيها: ثبوت جهة الصدور. وثالثها: بأن يثبت صدوره بداعي الجد دون التقية ونحوها. وثالثها: ثبوت ظهوره في المعنى بحسب العرف. ورابعها: ثبوت حجية ذللك الظهور.
(٢) مقباس الهداية: ١/ ٣٣٨.
(٣) لب الألباب: ٢/ ٤٥١. وتوضيح المقال: ٣٧٣.
(٤) المعلّق: هو ما سقط من أول سلسلته راوٍ أو أكثر.
(٥) المنقطع: هو ما سقط من وسط سلسلته واحد، وهو يختلف عن المقطوع، إذ أن المقطوع هو عين المضمر الآتي الذكر.
(٦) المعضل: هو ما سقط من وسط سلسلته أكثر من واحد.
(٧) المعنعن: هو الخبر المروي بتكرير لفظة (عن) من غير بيان للتحديث أو الإخبار أو السماع، وقد أوجب كون لفظة (عن) أعم من الاتصال وعدمه، الاختلاف في حكم اسناد المعنعن، فقيل: هو من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بغيره، ويقابله القول بأنه متصل، وهو ما وصفه الشهيد الثاني S بأنه (الصحيح الذي عليه جمهور المحدثين، بل كاد يكون إجماعاً) البداية/ ٣٣، ولكنه اشترط لذلك شرطين:
الأول: إمكان ملاقاة لراويي بالعنعنة لمن روى عنه.
الثاني: براءة الراوي بالعنعنة من أن يكون معروفاً بالتدليس، وإلا لم يكف اللقاء، لأن المدلس قد يتجوز بالعنعنة مع عدم الاتصال. وأضاف آخرون كون الراوي قد أدرك المروي عنه بالعنعنة ادراكاً بيناً، وكونه معروفاً بالرواية عنه.
(٨) المضمر: هو الخبر الذي يطوى فيه اسم المعصوم صراحةً وإشارةً، أي ما لم يتضح فيه ما إذا كانت الرواية عن المعصوم أو عن غيره، وقد اختلف في حجيته على قولين:
الأول: عدم الحجية مطلقاً، لعدم العلم بكون الرواية عن المعصوم.
الثاني: التفصيل، وله صورتان.
الأولى: التفصيل بين ما إذا كان الراوي من الأجلاء الذين يظهر من حالهم انهم لا يروون عن غير المعصوم، فهو حجة، كالإضمار الذي ربما يرى في إخبار زرارة ومحمد بن مسلم، وبين ما إذا لم يكن كذلك، وإن توفرت فيه عناصر الحجية من الوثاقة ونحوها، فلا تكون الرواية معتبرة حينئذٍ.
الثانية: التفصيل بين ما إذا كان للإضمار سبب لا يعود للراوي، كالتقية، أو سبق ذكر المعصوم، أو علم المخاطب، أو لأجل تقطيع الأخبار ـ كما عرف عن سماعة ـ وإن لم يكن الراوي من الأجلاء، فتكون الرواية معتبرة، وإلا فلا.
وقد يعبر عن الرواية المضمرة بالمقطوعة، كما في مقطوعة ابن أذينة الواردة فيما يتعلق بميراث الزوجة من الرباع، الاستبصار: ج٤/ ١٥٥.
(٩) والمرفوع، له إطلاقان:
الأول: ما أضيف إلى المعصوم g من قولٍ أو فعل أو تقرير، أي وصل آخر السند إليه g سواء اعتراه قطع أو أرسال أم لا.
الثاني: ما سقط من وسط سنده أو آخره واحد أو أكثر مع التصريح بلفظ الرفع، وهذا داخل في المرسل بالمعنى الأعم، اما الأول فبينه وبين المرسل عموم وخصوص من وجه.
مقباس الهداية ج١/ ٢٠٧ وتوضيح المقال/ ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ولب الألباب مج٢/ ٤٥١ ـ ٤٥٢، بتصرف.
(١٠) شرح البداية: ٥٢.
(١١) نفائس الأصول في شرح المحصول: ٤/ ١٠.
(١٢) شرح عقائد الصدوق: ٣٨.
(١٣) كشف القناع عن وجوه حجيّة الإجماع: ٢٠٢.
(١٤) حيث ذكر رواية ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا، عن زرارة عن أبي جعفر g ثم قال (فأول ما فيه انه مرسل، وما هذا سبيله لا يعارض به الأخبار المسندة) التهذيب ج٨/ باب العتق وأحكامه، حديث٩٣٢ والاستبصار ج٤ باب ولاء السائبة، حديث ٨٧.
وأيضاً ذكر رواية محمد بن علي بن محبوب، عن العباس بن عبدالله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبدالله g، ثم قال في التهذيب ج١/ باب المياه وأحكامها، الحديث١٣٠٩ (وهذا خبر مرسل) وقال في الاستبصار ج١/ باب مقدار الماء الذي لا ينجسه شيء، حديث٦ (فأول ما في هذا الخبر انه مرسل) وغير ذلك من الموارد التي ناقش فيها بالإرسال، وإن كان المرسل أحد أصحاب الإجماع.
بخلاف ما صرح به في العدة من استثناء أصحاب الإجماع، وانهم لا يرسلون إلا عن ثقة. وسيأتي تفصيل ذلك.
(١٥) العدة: ١/ ١٥٢.
(١٦) قاعدة لا ضرر ولا ضرار, محاضرات آية الله العظمى السيد السيستاني C ـ الهامش ٢: ٢٠ـ ٢١.
(١٧) تهذيب الأصول: ٨٢.
(١٨) شرح البداية: ٥٠ـ٥١.
(١٩) معجم رجال الحديث: ١/ ٦١، بتصرف.
(٢٠) نفائس الأصول في شرح المحصول: ٤/ ١٣.
(٢١) منها التفصيل بين المرسل المنجبر بعمل المشهور ـ بناءً على القول بانجبار الضعيف به ـ وبين غيره، ومنها التفصيل بين مراسيل محمد بن أبي عمير فقط وبين مراسيل غيره، بدعوى تسالم الكل على قبول مراسيله، ومنها التفصيل بين تعبير المرسل بعن بعضٍ، فلا يكون حجة، وبين تعبيره بعن جمعٍ فيكون حجة للاطمئنان بعدم كذب الجمع.
ومنها التفصيل بين من لم ينصوا بأنه يروي عن الضعفاء، فيؤخذ بمراسيلهم، وبين من نصوا على انه يروي عن الضعفاء فلا تقبل مراسيله.
ومنها التفصيل بين مراسيل الكافي وغيره، ومنها التفصيل بين مراسيل الصدوق وغيره، ومنها التفصيل بين مرسلات الحلي في مستطرفات السرائر وبين غيرها.
ومنها التفصيل بين المرسل السالم من المعارض والمنكِر الموافق لفتوى الأصحاب وبين غيره، وغير ذلك من صور التفصيل المذكورة في المطولات.
(٢٢) ولعلماء الرجال بحوث مفصّلة في الألفاظ الصادرة عن المعصوم g أو أحد الأعلام المتقدمين أو المتأخرين، وكيفية استفادة التوثيق أو عدمه منها.
(٢٣) ولهم كلام في كون المدار في حجيته، وحجية ما بعده هل هو الاخبار الحسي، أم الاطمئنان أو مطلق الظن.
(٢٤) وردّ بابتناء ذلك على حجية قول الرجالي على الاخبار الحسي، وبوجود شواهد عديدة في كلمات المتقدمين، دالة على وصول كثير من الأصول والفهارس والكتب الروائية والرجالية إلى المتأخرين.
(٢٥) رجال الكشي: باب معرفة قدر الرواة.
(٢٦) أي ان أصحاب الإجماع قد ترجم لهم ووثقوا في كتب الرجال، فغيرهم أولى بذلك.
(٢٧) العدة: ١/ ١٤٩ـ١٥٠، بتصرف.
(٢٨) وهو كتاب كبير يشتمل على كتب عديدة، وبسبب كونه لا يبالي عمن أخذ، ولأنه كان يروي عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل، قام القميون ـ وهم من عرفوا بالتشدد المفرط في التوثيق والتعديل ـ بتمحيصه وتنقيته، واستثنوا ما يقارب من ستة وعشرين رجلاً من مشايخه، لذلك صار كون الراوي ممن لم يستثنه القميون بمثابة توثيقه.
(٢٩) رجال الكشي: ٢/ ٥٠٧، رقم ٤٣١.
(٣٠) رجال الكشي: ٢/ ٦٧٣.
(٣١) المصدر السابق: ٢/ ٨٣٠.
(٣٢) العدة: ١/ ١٥٢.
(٣٣) قبسات من علم الرجال/ أبحاث السيد محمد رضا السيستاني: ١/ ١٥١ـ١٥٢ بتصرف.
(٣٤) ولسيدنا الأستاذ A قول ثالث، على ضوء ما تقدم من تفسير الصحة بالمطابقة للواقع بأحد اللحاظين المتقدمين، فبعد ان جزم بأن مبنى ما نسب إلى المشهور في تفسير كلام الكشي هو كون المقصود بتصحيحه هو الحكم بصدوره منه g، أو كون مضمونه مطابقاً لحكم الله الواقعي، استظهر ان المتعين البناء على كون المراد بها هو ما أخبر به الحسن بن محبوب ـ مثلاً ـ وهو قوله (اخبرني الرضا g أو قوله (اخبرني أبو أيوب الخزاز). وعلى ذلك فيكون المقصود بتصحيحه هو الحكم بمطابقة خبره للواقع، أي انه بالفعل قد أخبره الرضا g أو أبو أيوب الخزاز، لا أنه كذب عليهما ـ العياذ بالله ـ أو اشتبه في النقل عنهما.
واستدل عليه بما تقرر في محله من علم الأصول من انه في الخبر مع الواسطة لا يكفي أن يشمله دليل حجية خبر الثقة مرة واحدة، بل لا بد من أن يشمله بعدد ما فيه من الوسائط.
ولمزيد اطلاع على رأيه الشريف، يراجع فبسات من علم الرجال/ أبحاث السيد محمد رضا السيستاني: ١/ ١٥١ـ١٥٢.
(٣٥) مستدرك الوسائل: ٣/ ٧٦.
(٣٦) الفوائد: ٢١.
(٣٧) الرواشح السماوية/ الراشحة الثالثة: ٥٠.
(٣٨) الوافي: ٢٩.
(٣٩) إنّ المتتبع لكلماتهم يلاحظ بشكل واضح الاختلاف ـ أيضاً ـ في فهم قيد (فقط)، حيث جعله البعض قيداً للوثاقة، فيكون المعنى ان مفاد الإجماع هو الوثاقة ليس إلا، وجعله آخرون قيداً لهؤلاء المذكورين، أي لا يدخل معهم غيرهم. والأول هو الصحيح، لوضوح عدم انحصار الوثاقة في المذكورين، خصوصاً في الطائفة الأولى.
(٤٠) الوافي: ٢٩.
(٤١) مقباس الهداية: ٧١.
(٤٢) معجم رجال الحديث: ١/ ٦١.
(٤٣) الفوائد: ٢٩.
(٤٤) بحوث في علم الرجال: ٥٦.
(٤٥) الفوائد: ٢٩.
(٤٦) بحوث في علم الرجال: ٥٧.
(٤٧) البداية في شرح الدراية: ١٨٥.
(٤٨) الرواشح السماوية/ الراشحة الثانية.
(٤٩) فضلاً عن الاخباريين الذين اعبتروا الاصطلاح الجديد من البدع التي لا يحل العمل بها كما صرح بذلك صاحب الحدائق في الجزء الأول: ١٥ـ١٦، وأطال في ذكر الأدلة على إبطاله.
(٥٠) فقد ذهب جماعة منهم صاحب المعالم إلى ان الذي أحدث هذا الاصطلاح هو السيد جمال الدين أحمد بن موسى بن جعفر بن طاووس S (منتقى الجمان: ١/ ١٣، وهو ما يظهر أيضاً من كلام صاحب الوسائل S: ٢/ ١٠٢، وذهب آخرون إلى أن الذي أحدثه هو العلّامة الحلي S ومنهم الفيض الكاشاني (الوافي: ١/ ١١) والشيخ البهائي في مشرق الشمسين: ١/ ١٤ وابن شهاب العاملي في هداية الأبرار: ٩٦، وتردد آخرون كصاحب الحدائق: ١/ ١٤ في نسبة إحداث هذا الاصطلاح بين العلّامة وشيخه ابن طاووس (قدس الله أرواحهم جميعاً).
(٥١) مشرق الشمسين: ٣.
(٥٢) منتقى الجمان: ١/ ٣ـ١٣.
(٥٣) منتقى الجمان: ١/ ٣ـ١٣.
(٥٤) الوافي: ١/ ١١.
(٥٥) المعتبر: ١/ ٦٠.
(٥٦) مشرق الشمسين: ٣ـ٤ بتصرف.
(٥٧) معحم رجال الحديث: ١/ ٥٩.
(٥٨) المصدر نفسه: ١/ ٥٩ـ ٦٠.
(٥٩) المصدر نفسه: ١/ ٦١.
(٦٠) العدة: ١/ ١٥٤.
(٦١) معجم رجال الحديث: ١/ ٦١.
(٦٢) المصدر نفسه: ١/ ٦١.
(٦٣) العدة: ١/ ١٥٤.
(٦٤) معجم رجال الحديث: ١/ ٦٢.
(٦٥) المصدر السابق نفسه: ١/ ٦٥-٦٦ بتصرف.
(٦٦) المصدر السابق نفسه: ١/ ٦٥.
(٦٧) المصدر السابق نفسه: ١/ ٦١.
(٦٨) المصدر السابق نفسه: ١/ ٦٣.
(٦٩) المصدر السابق نفسه: ١/ ٦٢ بتصرف.
(٧٠) المصدر السابق نفسه: ١/ ٤١.
(٧١) المصدر السابق نفسه: ١/ ٤٥.
(٧٢) المصدر السابق نفسه: ١/ ٦١.
(٧٣) التهذيب: ٨/ باب العتق، الحديث: ٩٣٢. والاستبصار: ٤، باب ولاء السائبة، الحديث: ١٧.
(٧٤) التهذيب: ١/ باب المياه وأحكامها، الحديث٢٧ والاستبصار: ١/باب مقدار الماء الذي لا ينجسه شيء، الحديث٦.
(٧٥) التهذيب: ٨/ باب العتق وأحكامه، الحديث ٩٣٢، والاستبصار: ٤/ باب ولاء السائبة، الحديث/٥.
(٧٦) التهذيب: ٨/ ٢٣٣.
(٧٧) التهذيب: ٨/ ٢٣٣.
(٧٨) التهذيب: ١/ ما يدل على كمية الكر، الحديث: ١١٣، والاستبصار: ١/ باب كمية الكر، الحديث: ٤.
(٧٩) التهذيب: ١/ ٨١.
(٨٠) التهذيب: ١/ باب ما يدل على كمية الكر، حديث: ١١٩، والاستبصار: ١/ باب ان اللبن، الحديث: ٥.
(٨١) التهذيب: ١/ ٨٢.
(٨٢) نفس المصدر والموضع.
(٨٣) التهذيب: ١/ ٨٢.
(٨٤) التهذيب: ٧/ باب فيما يحرم من النكاح، حديث ١٣٤١، والاستبصار: ٣/ باب ان اللبن للفحل، حديث: ١٢.
(٨٥) التهذيب: ٧/ ٢٦٦.
(٨٦) التهذيب: ٧/ ٢٦٦.
(٨٧) التهذيب: ٩/ باب في ميراث من علا من الأجداد وهبط من الأنباء، حديث: ١١٢٢، والاستبصار: ٤/ نفس الباب، حديث: ٤.
(٨٨) التهذيب: ٩/ ٢٦٥.
(٨٩)التهذيب: ٩/ باب ميراث من علا من الآباء وهبط من الأولاد، حديث: ١١٢٥، والاستبصار: ٤/ باب أن مع الأبوين أو مع واحد منهما لا يرث الجد والجدة، حديث: ١٢.
(٩٠) التهذيب: ٩/ ٢٦٦.
(٩١) التهذيب: ٩/ ٢٦٦.
(٩٢) التهذيب: ٩/ ٢٦٦.
(٩٣) همشاريجه، وفي الرواية التي تليها همشهريجه: أي أهل بلده.
(٩٤) التهذيب: ٩/ باب ميراث من الأوراث له، حديث/ ١٣٨٣، والاستبصار: ٤/ نفس الباب، حديث/ ٤.
(٩٥) التهذيب: ٩/ باب ميراث من لا وارث له، حدث: ١٣٨٤، والاستبصار: ٤/ نفس الباب، حديث: ٥.
(٩٦) التهذيب: ٩/ ٣٢٩.
(٩٧) التهذيب: ٩/ ٣٢٩.
(٩٨) الاستبصار: ١/ باب الرجل يجامع المرأة فيما دون الفرج فينزل هو دونها، حديث٣٧٣، والتهذيب: ٧/ باب السنة في عقود النكاح وزفاف النساء، وآداب الخلوة والجماع، حديث:٦٥٨. ١
(٩٩) الاستبصار: ١/ ١١٢ بتصرف.
(١٠٠) العدة
(١٠١) التهذيب: ١٠/ باب ديات الأعضاء والجوارح والقصاص فيها، حديث: ١٠٢٥ و١٠٢٦.
(١٠٢) معجم رجال الحديث: ١/ ٦٠.
(١٠٣) معجم رجال الحديث: ١/ ٤١.
(١٠٤) معجم رجال الحديث: ١/ ٦٣.
(١٠٥) معجم رجال الحديث: ١/ ٦٥.
(١٠٦) معارج الأصول: ١٥١.
(١٠٧) وهو تفسير لم يرتضه السيد الخوئي S بل فسّر الإجماع ليس إلا ـ كما تقدم ـ.
(١٠٨) معارج الأصول: الفصل الثالث/ المسألة السادسة : ١٥١.
(١٠٩) قاعدة لا ضرر ولا ضرار/ محاضرات آية الله العظمى السيد السيستاني C/ هامش رقم ٢/ ٢٠ بتصرف.
(١١٠) قبسات من علم الرجال: ١/ ٤٧ ـ ٤٨.
(١١١) قاعدة لا ضرر ولا ضرار/ محاضرات آية الله العظمى السيد السيستاني (دام ظلّه) : الهامش رقم ٢/ ص ٢٠ ـ ٢١.
(١١٢) معارج الأصول: الفصل الثالث/ المسألة السادسة: ١٥١.