ظاهرة استعمال جموع تكسيرٍ مختلفة
في القرآن الكريم لمفردٍ واحدٍ
بعضُ أساتذة الحوزة العلميّة (دامت إفاداته)
بحثٌ قرآنيٌّ أدبيٌّ, يتعلَّق بظاهرة الانتقاء القرآنيّ لبعض الألفاظ وترجيحه على بدائله اللّغويَّة - الّتي هي أحد عوامل بلاغة القرآن الكريم -حيث يتناول حالة استعمال جموع تكسير مختلفة في القرآن الكريم لمفرد واحد, ويتناول البحث عن أسبابه اللّغويَّة والبلاغيَّة بمختلف أنواعها من التّكافؤ أو الامتيازات الدّلاليَّة والصّوتيَّة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصّلاة والسّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين (محمّد) وآله الطّيّبين الطّاهرين.
وبعد، فهذه رسالة حول (ظاهرة استعمال جموع تكسيرٍ مختلفة في القرآن الكريم لمفردٍ واحدٍ) ألّفتُها جواباً عمّا وقع من السّؤال عن ذلك(١). وقبل الخوض في البحث أُوصي نفسي وسائر النّاظرين والباحثين في المواضيع العلميّة بتقوى الله تعالى فإنّ العلم من أهمّ مواطن التّقوى، والتّقوى هي غاية الإنسان المثلى في الحياة الّتي أناط الله بها كرامته، فمَن اتّقى الله بارك في عمله ويسّر له أمره وهَداه.
وتتأكّد الحاجة إلى التّقوى فيما يتعلّق بالقرآن الكريم وتحليل رموزه وأسراره، إذ لا يأمن الباحث فيها مِنْ أنْ يكون ما ينسبه إلى الله تعالى كذباً وافتراءً عليه إذا سارع إلى الحكم ولم يتحرّز عن مطاوعة هواه وظنونه واستحساناته، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً)(٢).
ويقع الكلام في فصول ثلاثة:
الأوَّل: في الإشارة إلى إعجاز القرآن والظواهر القرآنية المتعلّقة به، وأهميّة البحث عنها.
الثاني: في وصف عام لأسباب ظاهرة ترجيح بعض الألفاظ على بعضٍ وفق الاقتضاءات الأدبيّة.
الثالث: في الحديث عن ظاهرة استعمال جموع تكسير مختلفة في القرآن الكريم لمفرد واحد.
الفصل الأوَّل
إعجاز القرآن الكريم
لا شكّ في تميّز القرآن الكريم عن الكلام البشري بأعلى مراتب البلاغة البالغة حدّ الإعجاز على ما يقضي به الوجدان اللّغوي للعارفين باللّغة العربية الّذين يحسّون بمزايا الكلام ومستواه الأدبي, ولذلك عجز العرب المعاصرون لنزول القرآن الكريم عن معارضته بما يماثله في هذا المستوى الرّفيع رغم تحدّيهم بذلك في القرآن مراراً على ما ثبت في التّاريخ.
ولا شكّ في أنّ من أهمّ جوانب إعجازه، هو إعجازه من النّاحية البلاغية، إذ كان تخصيص النّبي e بهذه المعجزة الخالدة يتناسب مع تفوّق العرب في البلاغة وتفنّنها في أساليبها في عصره حتى عُقِدت النّوادي وأقيمت الأسواق للمباراة في الشّعر والخطابة.
كما يؤّكد ذلك ما ورد في الحديث الشّريف عن أبي الحسن الرّضا g إذ سأله ابنُ السّكّيت (ت ٢٤٤هـ) لماذا بعث الله موسى بن عمران g بالعصا ويده البيضاء وآلة السّحر؟ وبعث محمداً (صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء) بالكلام والخطب؟ فقال أبو الحسن g: (إنّ الله لمّا بعث موسى g كان الغالب على أهل عصره السّحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم وإنّ الله بعث عيسى g في وقت قد ظهرت فيه الزّمانات(٣)، واحتاج النّاس إلى الطّبّ فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، فأحيا لهم الموتى وأبرء الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجّة عليهم.
وإنَّ الله بعث محمَّداً e في وقتٍ كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام - وأظنّه قال: الشّعر - فأتاهم من عند الله من مواعظه وحِكَمهِ ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجّة عليهم، قال فقال ابن السّكّيت: تالله ما رأيت مثلك قطّ...)(٤).
محاور إعجازه.
ترجع بلاغة القرآن الكريم إلى محورين رئيسين هما بُعدان بمنزلة الصّورة والمادة للكلام القرآني:
الأوَّل: أسلوبه النّثريّ: فأسلوب الكلام القرآني قسم بديع من النّثر لم يُسبَق إليه، له شَبَه بالشعر من حيث توازنه، ولكنّه أمتن منه وأبلغ تأثيراً وأجمل صورة وشكلاً، وليس له وزن خاصّ يتحدّد به كما حُدِّدت الأوزان الشّعرية في علم العَروض.
الثّاني: تصريفه للمعاني والألفاظ وانتقاؤه منها: ويمثّل هذا المحور ظواهر متعدّدة في الكلام القرآني، وبالإمكان إرجاع قسم كبير منها إلى ظاهرتين رئيستين: هما ظاهرة التّحديد الكميّ والكيفيّ للكلام القرآني. وهاتان الظّاهرتان وإنْ كانتا تمثّلان جانباً من جوانب إعجازه إلّا أنّ تحليلهما بحاجة إلى دراسة دقيقة تكشف عن رموزه وأسراره كي لا يتوهم بوجود نقاط سلبية.
ظاهرة التّحديد الكمّي وفروعها.
الظاهرة الأُولى: ظاهرة التّحديد الكمّي للكلام القرآني بمعنى الإتيان بما يصحّ الاستغناء عن بعضه من غير خللٍ فيه وفي أهدافه. ولهذه الظّاهرة فروع عدّة:
الأوَّل: تكرار القصة الواحدة كقصص أنبياء بني إسرائيل في مواضع متعدّدة.
الثّاني: تكرار جملة واحدة في مواضع متقاربة كتكرار آية (فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) كثيراً في سورة الرّحمن(٥).
الثّالث: استعمال مفردات قد يُظنّ الاستغناء عنها، وهي:
تارة تكون: أدوات زائدة يُظنّ أنّها لا تعطي معنى زائداً وهي: إمّا حروف من قبيل الباء و(من)، أو أفعال كـ (كان) في مثل(كَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (٦) حيث إنّها لا تدلّ فيه على حدث ولا زمان.
وأخرى: وقد تكون كلمات ذات معانٍ ولكن لا حاجة إليها؛ لإمكانية فهم الكلام من دون ذكرها، من قبيل (إحدى) في قوله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)(٧) حيث يصحّ أنْ يقال (فتذكرها الأخرى).
ووجه حاجة هذه الظّاهرة إلى التّفسير: أنَّ الإتيان بما يُستغنى عنه يعدّ من قبيل الإطناب في الكلام من غير حكمة، وهو منافٍ لحكمة المتكلم، وثغرة في بلاغة الكلام.
والتعرّض لتفسيرها خارج عن موضوع هذه الرّسالة.
ظاهرة التّحديد الكيفيّ وفروعها.
الظاهرة الثّانية: ظاهرة التّحديد الكيفيّ بمعنى اختيار بعض الألفاظ أو المعاني دون بديلاتها في مواضع تصحّ جميع الألفاظ والمعاني فيها، وهي أيضاً ذات فروع متعدّدة
باعتبارات متعدّدة..
أوَّلاً: إنَّ تلك الألفاظ تارةً: تكون متّحدة المعنى.
وثانية ألفاظ متقاربة تكون متفقة في أصل المعنى ومختلفة في خصوصيّاته.
وثالثة تكون متباينة مع صحّة الإتيان بكل واحد منها، ونذكر لذلك مثالين:
الأوَّل: اختلاف أواخر الآيات في ذكر أوصافه تعالى، إذ لا يكون هناك تناسب مُلزِم للبعض المذكور بخصوصه بلحاظ موضوع الآية ظاهراً، ففي بعضها (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) وفي بعض آخر: (عَلِيمًا قَدِيرًا) وفي ثالث (عَلِيمًا حَلِيمًا) وفي رابع (عَلِيمًا خَبِيرًا).
والآخر: قد ورد في آيات كثيرة وصف آياته تعالى في الخلق، وفي بعضها تعقيب ذلك بـ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وفي بعض آخر (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وفي ثالث (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وفي رابع (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) وفي خامس (لِأُولِي الْأَبْصَارِ) وفي سادس (لِأُولِي النُّهَى) وبعض هذه المفاهيم متقاربة. وقد أشار إلى هذا المثال الرّاغب الأصفهاني (ت بحدود ٤٢٥هـ) في مقدمة كتاب المفردات(٨).
ثانياً: إنّ تلك الألفاظ تارة تكون من مواد مختلفة. وأخرى تكون من مادة لغوية واحدة مع الاختلاف في الهيئة كـ(صبور) و(صابر) و(شكور) و(شاكر).
ثالثاً: إنّ تلك الألفاظ تارة تكون من أنواع متعددة كالمفرد والجمع، أو الجمع واسم الجمع، أو المصدر والوصف. وأخرى تكون من نوع واحد مع اختلاف الهيئة، وحينئذٍ: إمّا أنْ تكون مصادر متعددة كـ(مغفرة) و(غفران) و(رحم) و(رحمة). أو أوصافاً متعددة كـ(عليم) و(عالم) و(جهول) و(جاهل). أو تكون أفعالاً متعدّدة وإنْ كان بعضها من الثّلاثي المجرّد وبعضها من المزيد مع صلاحية قيام أحدهما مكان الآخر. أو تكون أسماء أجناس متعدّدة. أو تكون جموعاً متعددة لمفردات متباينة أو متقاربة أو لمفرد واحد.
وجه الحاجة إلى تفسير هذه الظّاهرة.
ويلاحظ أنَّ هناك حاجة إلى تفسير هذه الظّاهرة - بل الظّاهرة السّابقة - من وجهين:
الأوَّل: إنَّ هذا التّفسير يجلّي وجوه إعجاز النّصّ القرآني حيث يبيّن ابتناء اختيار الألفاظ في القرآن على أساس مراعاة شؤونها المختلفة.
والآخر: إنَّه يدفع توهّم ضعف النّصّ القرآني من النّاحية البلاغيّة.
الحالات الّتي تتأكدّ الحاجة فيها إلى التّفسير.
تتأكّد الحاجة إلى التّفسير في حالات ثلاثة: الالتزام، والتّخصيص، والعدول:
الحالة الأُولى: الالتزام، ونعني به التزام لفظ معيّن من أحد لفظين أو ألفاظ صالحة لأداء المعنى في موارد كثيرة جداً، كاختيار جمع النَهْر على (الأنهار) دون (الأنهر) في (٤٣) موضعاً من القرآن الكريم، فإنّ هذا الالتزام قد يعدّ بلا حكمة دون مزيّة لأحد اللّفظين على الآخر.
نعم، لا يكون اختيار اللّفظ في مورد أو موردين أو نحو ذلك من قبيل الالتزام به؛ لأنّه يمكن أنْ تكون حالة شبه اتّفاقيّة.
الحالة الثّانية: التّخصيص، ونعني به التّفريق بين اللّفظين باستعمال كلّ منهما في مورد خاصّ مع تكرّر استعماله في كلٍّ من الموردين في موارد متعدّدة، نظير ما زعمه الرّاغب من تخصيص الملائكة بلفظة (البررة) والنّاس بلفظة (الأبرار)، إذ لم يرد العكس في مورد.
وهذه الحالة تقتضي وجود نكتة معنويّة اقتضت هذه التّفرقة المتعمدّة وإلّا كان التزاماً بلا ملزم.
ومرجع التّخصيص في الحقيقة إلى انضمام التزامين مرتبطين.
وينبغي ملاحظة أنّ التّخصيص لا يتحقّق إلّا بشرطين:
الأوَّل: إحراز عدم وجود نكتة أخرى اقتضت التّفرقة على هذا النّحو، إذْ مع وجود تلك النّكتة لا يحرز استناد تلك التّفرقة إلى مناسبة معنوية لكلٍّ من اللّفظين بمورد استعماله، بل قد تكون لنكتةٍ ملازمةٍ من قبيل ما يأتي في مناقشة الرّاغب في المثال السّابق من احتمال كون التّعبير عن الملائكة بالبَرَرَة في مورده مراعاة للسجع.
والآخر: ما ذكرناه من تكرّر استعمال كل من اللّفظين في الموردين كي يزول احتمال كون استعمال اللّفظين على سبيل التّفنّن فيكون وقوع كلٍّ منهما في التّعبير عن موردٍ خاصٍ حالة اتّفاقيّة.
وقد لوحظ في كلام بعض أهل العلم التّسارع إلى استنباط التّخصيص من غير مراعاة هذا الشّرط من قبيل كلام الرّاغب في المثال السّابق، إذ ادّعى تخصيص البَرَرَة بالملائكة رغم وروده في موردٍ واحدٍ، فليلاحظ ذلك.
الحالة الثّالثة: العدول، ونعني به انتخاب أحد اللّفظين دون الآخر مع وجود نكتة مستدعية للعكس، فإنّه لا بُدَّ أنْ يكون انتخاب ذلك اللفظ مبنيّاً على نكتة أخرى أولى بالمراعاة، من قبيل ما لاحظناه من اختيار التّعبير بـ (السّجود) في جمع (ساجد) مراعاة للسجع في موضعين من القرآن الكريم مع أنَّ لفظة (سُجّد) أجمل كما اختير عليه في سائر المواضع.
ومن هذا القبيل انتخاب لفظ الجمع في مقام الإشارة إلى واحد كما في قوله تعالى:
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(٩), حيث إنَّه ورد في شأن الإمام أمير المؤمنين g ولذلك تصدّى جمع من المفسّرين لتحليل هذه الجهة.
ومن ذلك يظهر أنَّ مجرّد التّفرقة بين موردين في التّعبير- وإنْ تماثلا في الملابسات- لا تقتضي وجود نكتة مستدعية لذلك(١٠)، من قبيل ما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)(١١) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)(١٢), حيث إنّه عكس الأمر في متعلّق (قوّامين) و(شهداء) فيهما.
حالات أخرى يظنّ تأكّد الحاجة إلى تفسيرها.
وقد يُظنّ تأكّد الحاجة إلى تفسير هذه الظّاهرة في بعض الحالات الأخرى:
الحالة الأُولى: أنْ يرد استعمال كلٍّ من اللّفظين في القرآن الكريم، فإنّ اختيار أحد اللّفظين في بعض المواضع يكون بحاجة إلى تفسير هذا الاستعمال بصورة آكد فيما إذا استعمل اللّفظ الثّاني في بعضٍ آخر من المواضع ممّا إذا لم يستعمل اللّفظ الثّاني أصلاً.
ولكنّ الصّحيح عدم تفاوت الحاجة في الحالتين؛ إذ استعمال اللّفظ الثّاني في موضعٍ آخر من القرآن لا يكسبه مزيّة خاصّة، بل غاية ما هناك دلالة استعماله في القرآن على بلوغه مستوى المفردة القرآنية في الفصاحة.
ومن الممكن إحراز بلوغ المفردة غير المستعملة فيه أيضاً نفس المستوى من الفصاحة؛ لأنَّ الفصاحة ليست صفة مجهولة في اللّفظ، بل هي حالة مشهودة بحسب الذّوق اللّغوي.
الحالة الثّانية: أنْ يكون أحد اللّفظين أقرب إلى اللّفظ الآخر كأنْ يكونا جميعاً من مادّة واحدة ونوع واحد كمصدرين لفعل واحد، أو جمعين لمفرد واحد، فكلّما كانا كذلك كان اختيار أحدهما دون الآخر أحوج إلى تفسير هذه الظّاهرة ممّا إذا كان أبعد منه كأنْ يختلفا في المادّة أو في النّوع فيكون أحدهما مصدراً والآخر وصفاً.
الحالة الثّالثة: أنْ تكون ملابسات اللّفظين في مورد استعمالهما متقاربة كوقوعهما وصفاً لموصوفٍ واحد فإنّ اختيار أحدهما في هذه الحالة أحوج منه لتفسير هذه الظّاهرة ممّا إذا اختلفت ملابسات الموردين:
مثلاً: اختيار التّعبير بالجمع المكسّر عن الملائكة في قوله (وَيُرْسِلُعَلَيْكُمْ حَفَظَةً)(١٣) دون الجمع السّالم أشدّ إثارةً للتساؤل بعد وقوع التّعبير عنهم بالجمع السّالم في قوله (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)(١٤) ممّا لو لم يقع التّعبير به عنهم وإنْ كان قد وقع التّعبير به عن النّاس في عدّة آيات من قبيل (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ)(١٥).
ولكنَّ الصّحيح: أنَّ مثل هذه الجهات لا تُوجب شدّة الحاجة إلى تفسير هذه الظّاهرة، بل غاية ما هنالك أنّها لا تدع مجالاً لتوهّم خصوصيّة المادّة أو الموصوف في التّعبير الخاصّ كما توهم أحياناً في مواضع لم تكن كذلك.
وقد ظهر ممّا ذُكر أنَّ مورد سؤال السّائل هو أحد فروعٍ جزئيّة لظاهرة التّحديد الكيفيّ لمفردات القرآن الكريم، إلّا أنّ تخصيص السّائل مورد سؤاله باستعمال جموع تكسير مختلفة لموردٍ واحدٍ كأنّه نشأ عن تصوّر تأكّد السّؤال في هذه الحالة على أساس شدّة الحاجة إلى تفسير الظّاهرة في الحالتين الأوّليتين من الحالات الثّلاثة الأخيرة.
فهو (أوّلاً) فَرَضَ استعمال جموع التّكسير في القرآن على أساس الحالة الأولى من تأكّد السّؤال الّتي ذكرناها(١٦) مع استعمال كلٍّ من اللّفظين في الكلام القرآني.
(وثانياً): فَرَضَ الجموعَ جموع تكسير على أساس الحالة الثّانية لتكون من صنفٍ واحدٍ لتأكّد السّؤال فيه عمّا لو كان أحدهما جمع تكسير والآخر جمعاً سالماً.
إلّا أنَّا رجّحنا الإشارة- من خلال الفصل الثّاني - إلى مطلق حالة التّحديد الكيفيّ، بمعنى اختيار بعض المفردات المتماثلة في أداء المعنى على بعضٍ بملاحظة تعذّر تفسير فرع من فروع الظّاهرة بمفردها ما لم يلاحظ الأسباب العامّة الموجبة لها.
لكنْ حيث إنَّ كلّ فرعٍ من فروعها يمتاز بخصوصيات تطبيقية عقدنا بحثاً تطبيقيّاً حول تفسير اختيار بعض جموع الكلمة على بعض. ولم نحدّد ذلك بما حدّده به السّائل لتماثل الحال في الحالات الجزئيّة لهذا الفرع فلا فرق مهم بين كون جميع الجموع جموعَ تكسير وبين كون بعضها جمعاً سالماً، ولا بين استعمالها جميعاً في القرآن أو استعمال بعضها، بل مستوى الحاجة إلى تفسير الظّاهرة واحد كما تقدّم.
ولم نعمّم البحث لتفسير ظاهرة التّحديد الكمّيّ لاختلاف الظّاهرتين من ناحية أسبابها وكيفيّة حلّها كما يظهر بالتأمّل في ذلك.
الفصل الثّاني
في طرق الاهتداء إلى تشخيص المزايا المعنويّة واللّفظيّة للألفاظ
وهي ثلاثة:
١. الذّوق الأدبيّ.
٢. الضّوابط الأدبيّة كالسّجع والموازنة.
٣. علامات أخرى مثل الالتزام في الكلام القرآني باستعمال أحد اللّفظين في التّعبير عن المعنى.
والأساس الأوَّل في هذه المرحلة هو الذّوق الأدبي الّذي هو منبع الإحساس بخصوصيات الكلمة، وعلى هداه وُضِعَت الضّوابط الصّناعيّة لتلك المزايا في علوم البلاغة، إلّا أنّ تلك الضّوابط ليست قادرة على استيعاب الخصوصيّات المدركة بالذّوق، كما سيأتي.
ثُمَّ يليه في الأهميّة الضّوابط الأدبيّة فإنّها تحليل للجهات المدرَكة بالذّوق فيما كان لها ضابط عامّ. وقد تعرّض لجملةٍ منها علماء البلاغة من غير استيعاب.
وحيث يتعذّر وضع قاعدة عامّة يمكن أحياناً تحصيل منبّه خارجيّ على وجود مزيّة في الكلمة المختارة من خلال ملاحظة كيفيّة انتقاء المتكلّم الحكيم للألفاظ على ضوء مجموع كلماته حيث يظهر منها عنايته باختيار كلمة خاصّة دون بديلاتها.
وينبغي هنا التّعرض لتوضيح هذه الطّرق الثّلاثة بعض الشّيء مع تعقيب ذلك بشروط سلامة الطّريق الّذي يسلكه الباحث في الموضوع.
الطريق الأوَّل: الذّوق الأدبيّ.
وحيث إنَّا لم نطّلع على بحث عن الذّوق اللّغوي وتأثيره في استكشاف خصائص اللّغة ومزايا الكلام فلا بأس بتفصيل البحث عنه.
١. الذّوق وأنواعه.
الذّوق في اللّغة قوّة يُدرك بها طعم الشّيء، ولكن يتعارف إطلاقه على ما يعمّ ذلك وهو يرجع إلى أمرين:
أحدهما: إطلاق الذّوق على القوى الذّهنيّة الّتي ترصد خصوصيات الأمور الّتي لا تخلو عن دقّة وخفاء فيُتاح للإنسان بفضلها أنْ يحسّ بها إحساساً وجدانيّاً وتكون في المجالات المختلفة للإدراك البشري، سواء كانت أموراً معنويّة كالحِكَم والأخلاق والآداب. أو غير معنويّة كالاجتماع والسياسة والصناعة والأدب وغيرها.
ففي الأمور المعنويّة قد تجد بعض النّاس في أعلى درجات الصّفاء النّفسي - لجهات موروثة ومكتسبة بالرّياضات المشروعة والأعمال الصّالحة والإقبال إلى الله تعالى والإعراض عمّا سواه من شؤون الدّنيا ونحوها - كالأنبياء والأوصياء والأولياء وأهل التّقوى على اختلاف مراتبهم في ذلك فيدركون بأذواقهم من الحِكَم والمعاني العالية ما لا يدركه غالب النّاس.
وكذا تجد الأمر فيما لو قارنت بين النّاس في خصائص الآداب السّامية فمنهم من يحسّ التّناسبات الخفيّة المختلفة بحسب الملابسات الّتي تقتضي تلك الآداب، فتنبعث من نفسه وتخضع لها إرادته، ومنهم من لا يحسّ بها وإن أدركها أو تكلّفها عملاً مراعاة لجهات خاصّة.
بل الإحساس بحسن الأعمال أو قبحها -على الصّحيح - ليس إلّا ضرباً من الذّوق والوجدان الأخلاقي.
وفي الأمور غير المعنويّة: قد تجد بعض النّاس يتميّز بذوق يترصّد دقائق الأمور الاجتماعيّة ويتمكّن من تحليل واقعها حتى كأنَّ أسبابها الّتي تغيب عنه بمشهد منه وبمرأى، رغم أنك لا تجد مثل ذلك في غيره ممّن قد يشترك معه في الثّقافة أو يزيد عليه، أو حتّى يكون له تخصّص في علوم الاجتماع والسّياسة، ولعلّك لا تعدم أمثلة لهذه الظّاهرة في القادة الاجتماعيّين في التّاريخ الماضي والواقع المعاصر فتجد هناك قادة اهتدوا بالقدرة الذّهنيّة والذّوق الاجتماعي الفائق إلى وجوه حلّ المشاكل الاجتماعية وكيفية سوق المجتمع إلى غايات معيّنة بحدس ثاقب وبصيرة نيّرة، بينما قد يكون هناك قادة آخرون أخفقوا في ذلك.
فالأمور الّتي تتراءى للإنسان بذوقه في مثل ذلك ليست أموراً وهميةً تتراءى له بالإغراق في الفكر والخيال ولا هيّ مجرّد تحليلات علميّة متأثّرة بدرجة ثقافة الشّخص، وإنّما هي أمور واقعيّة يترصّدها الإنسان ويحسّ بها إحساساً مباشراً من خلال قوّة ذهنيّة.
والآخر: إطلاق الذّوق على انطباعات نفسيّة تنشأ عن طبائع خاصّة من قبيل ذوق انتقاء الأطعمة والألبسة والعطور ونحوها، فإنّه يرجع إلى مدى انسجام اللّباس أو العطر الخاصّ مثلاً مع نفس الإنسان الّتي تتأثّر بالعوامل المختلفة من الاجتماع والجوّ
والمحيط وغيرها، وكثيراً ما تختلف الأذواق في ذلك لاختلاف العوامل المؤثّرة في تكوين الانطباع النّفسي فترى أنّ قوماً يستحسنون عطراً أو لباساً ما قد يستقبحه قوم آخرون، فليس للحسن والقبح في هذه الأمور معيار واقعي فيكون أحد الحكمين باعتباره صواباً والآخر خطأ وإنّما يرجع إلى مدى ملائمتها للنفوس المختلفة في خصائصها.
وقد تكون هناك موارد يختلف النّاظرون في تشخيص كون الذّوق فيها هل هو من قبيل القوى الإدراكيّة أو الانطباعات النّفسيّة؟ كما اختلف المتكلّمون والأصوليون في قضايا الحسن والقبح وإنْ كان الصّواب أنّها من قبيل الأولى.
٢. نوع الذّوق الأدبيّ.
وأمَّا الذّوق الأدبيّ فلنا أنْ نتساءل هل هو قوّة إدراكيّة تتراءى بها أمور واقعيّة؟ أو أنَّه انطباع نفسي نتيجة مدى ملائمة اللّفظ والمعنى للنفس؟
والّذي نراه أنًّه لا ينبغي الشّكّ في كونه ضرباً من القوّة الإدراكيّة يترصّد بها المزايا اللّفظيّة والمعنويّة من خلال الإحساس بالتناسبات الصّوتيّة وأوزان الكلام ونكاته.
٣. بين الذّوق الأدبيّ والوجدان اللّغويّ.
الوجدان اللّغوي: انطباع ذهني يحصل بالأنس بالكلمة من خلال ممارسة استعمالها وتكرّر سماعها في سياقات مختلفة. وهو المعيار المباشر الوحيد في تشخيص معاني المفردات اللّغوية، ولا يكفي فيه تتبّع استعمالات الكلمة والتأمّل في خصوصياتها ما لم توجب إحساساً نفسيّاً مباشراً بمعناه؛ لأنَّ ذلك وإنْ كان يهدي إلى المراد بها إجمالاً إلّا أنّه لا يمكن التّحكّم في نوع علاقة اللّفظ بالمعنى ـ هل هي علاقة حقيقية أو لا؟ ـ في جوّ غياب الإحساس المباشر بها. مضافاً إلى أنَّه لا يتّضح بذلك الوجه التّفصيلي للمعنى, بل يبقى مستوياً بنوعٍ من الإجمال والإبهام، كما في معرفة معنى كلمةٍ من لغةٍ أجنبيةٍ لغير العارف بها عن طريق إخبار ثقة بذلك.
والفرق بين الذّوق الأدبي والوجدان اللّغوي أنَّ وظيفة الثّاني هو تشخيص أصل مدلول الكلمة ومعناها دون مزاياها اللّفظيّة والمعنويّة، بل تشخيص تلك المزايا مرهون بالذّوق الأدبي.
٤. الذّوق الأدبيّ إحساس صادق.
قد ظهر ممّا سبق أنَّ الذّوق الأدبيّ ضرب من الإحساس الصّادق بالمزيّة فلا يصدق على الإدراك المحضّ ولا على الإحساس الكاذب.
فالمراد بالإدراك المحضّ استنباط النّكتة لا من خلال الإحساس بها وإنَّما بالتّدقيق الفكريّ المحضّ، كما قد يكون من هذا القبيل استنباط بعض العلماء لنكات حول مزايا الكلام القرآني لا يصدق إلّا قلّة منها، فربّما يحدس النّاظر بكون هذه القلّة الّتي أصابت الواقع إنَّما استخرجها لا بموجب الإحساس بها وإلّا لم يخطئ في الباقي، وإنَّما على أساس التّأمّل النّظري والقدرة الصّناعيّة. وقد تقدّم أنَّ معنى الذّوق هو الإحساس بالشّيء كما هو معناه الأصلي.
ونحن لا ننكر أنَّ الإحساس بالمزيّة المعنويّة أو اللّفظيّة قد يحتاج إلى نوعٍ من الدّقّة إلّا أنَّ ضرباً منها مغاير للتدقيق الفكري وهو أشبه بحالة جمع الحواس لإدراك أمرٍ حسّي كسماع صوت خفيّ أو إبصار منظر بعيد ونحو ذلك، ولا يبعد أنْ يكون كثير من مزايا الكلام القرآني ونكاته بحاجة إلى ضرب من التّفرّغ له والصّفاء القلبي.
وأمَّا الإحساس الكاذب فهو الإحساس بمزيّة أو نكتة متوهّمة، وهذه المزيّة أو النّكتة وإنْ كانت تستنبط بالإدراك النّظري في الحقيقة، إلّا أنَّ الإدراك قد يتحوّل إلى حالة إحساس بالمُدْرَك نتيجةً لشدّة الإيمان واليقين النّفسي به، أو لكون المُدْرَك محسوساً كما أنَّ الحريص على رؤية الهلال أو على سماع صوت قد يراه أو يسمعه وإنْ لم يحدث ذلك خارجاً.
٥. مجالات الذّوق الأدبيّ.
إنَّ الإحساس بالمزايا اللّفظيّة والمعنويّة للكلمة أو الكلام هو وليد الذّوق الأدبيّ، وهو يرجع إلى مجالات عديدة تختلف حدودها بحسب مرتبة هذا الذّوق في الأشخاص ويمكن إرجاعها إلى مجالات رئيسة ثلاثة:
أوَّلها: ما يتعلّق بالألفاظ في نفسها وهي ذات فرعين:
أ. تشخيص الصّفات الصّوتيّة للكلمة من حيث الثّقل والخفّة والرقّة وغيرها، وهو ما عبّر عنه بعض الباحثين بـ(جرس الألفاظ)، وإليه يرجع الإحساس بمستوى الجمال الذّاتي للألفاظ.
ب. تشخيص وزن الكلمة أو الجملة بمعنى إيقاعهما، ثُمَّ التّمكن من المقارنة بينه وبين غيرها من الكلمات والجمل. وعلى ذلك تتفرّع معرفة أوزان الشّعر وتوازن النّثر.
ثانيها: ما يتعلّق بالمعاني في نفسها، وهو الإحساس بوقعها وخصائصها الدّقيقة والانتقال إلى ما يتمثّل فيها من الحيثيات المعنويّة الظّريفة.
ثالثها: ما يتعلّق بالارتباط بين المعاني والألفاظ كالإحساس بالتّناسب الكامن بين الموادّ والهيئات بحسب خصائصها الصّوتيّة مع معانٍ خاصّة.
وسيتّضح جملة من تفاصيل ذلك في الفصل الثّالث إنْ شاء الله تعالى.
٦. مراتب الذّوق الأدبيّ.
لا شكّ في أنَّ الذّوق الأدبيّ ليس متساوياً في الأشخاص بل هو ذو مراتب مختلفة في الصّفاء والعمق ضعفاً وشدّةً بحسب اختلاف المزايا المدركة به في الخفاء والدقّة، وهذا الاختلاف في مراتب الذّوق يكون على نحوين:
أحدهما: الاختلاف في التّوليد وعدمه، فقد يشترك ذوقان في إدراك مزايا كلام خاصّ، ولكنْ يختلفان في القدرة على إيجاد مثله فيكون أحدهما قادراً على ذلك ونعبّر عنه بـ(الذّوق المولِّد) ويكون الآخر عاجزاً عنه ونسمّي ذلك بـ(الذّوق المدرِك)؛ لأنَّ حدّه إدراك المزايا فحسب.
وهذه حالة مشهودة وجداناً، إذ نرى من أنفسنا الإحساس بجمال الخُطَب البليغة والأشعار الجميلة ـ كخُطَب الإمام علي g ـ ولكنَّا لا نتمكن من إنشاء مثلها وإنْ استوفينا معرفة مزاياها وأسرارها، وليس ذلك إلّا لضعف (كيفيّ) في ذوقنا الأدبيّ لعدم بلوغه حدّ القدرة على (الإبداع).
وعلى هذا يتخرّج حال الإنسان بنحو عامّ مع (القرآن الكريم) حيث إنَّه وإنْ أحسّ بعظيم بلاغته إلّا أنَّه يعجز عن الإتيان بمثله.
وكأنَّه قد استعصى حلّ هذه الحالة على بعض المتكلمين(١٧) فظنَّوا أنَّه بعد إدراك الإنسان لمزايا القرآن الكريم لا يكون عجزه عن الإتيان بمثله إلّا لأنَّه تعالى صرفهم عن ذلك بأنْ سلبهم القدرة على إنشاء مثله، وهو القول المعبّر عنه في علم الكلام بـ (القول بالصرفة) فذهب عليهم أنَّ الذّوق المدرِك لا يجب أنْ يكون مولّداً؛ لأنَّ التّوليد بحاجة إلى قوّة زائدة على الإدراك، فليس وجه إعجاز القرآن إلّا ما اعترف به الجميع من فصاحته المفرطة ونظمه الخاصّ وأسلوبه البديع.
وما ذكرناه حول الكلام البليغ يجري في كثير من الأمور الفنيّة مثل الخط، فإنَّ من النّاس مَنْ يدرك الخط الجميل، ولكنَّه لا يملك مهارة كتابة مثله، ومنهم مَنْ يدركه ويملك هذه المهارة، وهكذا الحال في سائر النّتاجات الفنيّة مثل القصص والمصنوعات اليدوية.
والآخر: الاختلاف في مراتب الإدراك بأنْ يختلف الذّوقان في مدى الإحساس بمزايا الكلام لفظاً ومعنىً من وزنٍ وفصاحةٍ وتناسبٍ وامتيازٍ ونحو ذلك.
وهذا النّحو من الاختلاف أيضاً حالة مشهودة بالمقارنة بين النّاس، وقد اعترف بطرف من ذلك علماء البلاغة حيث أشاروا إلى أنَّ الذّوق على قسمين سليم وسقيم، فالذّوق السّليم: هو الذّوق الّذي يَدرك تنافر حروف الكلمة ويحسّ بأوصافها ثقلاً وخفةً، والذّوق السّقيم خلاف ذلك.
ولكن الصّحيح: أنَّ مراتب الذّوق الأدبيّ لا تنحصر في قسمين، وإنَّما هو على مستويات مختلفة في السّلامة والصّفاء، ويقلُّ مَنْ يخلو من مرتبة منها كما يقلُّ مَنْ يبلغ أقصاه من أبناء اللّغة العربية في العصور المتأخّرة، كما سيأتي.
وتنافر حروف الكلمة ذو مراتب مختلفة شدّة وضعفاً، ومن الجائز أنْ يكون هناك مَن يدرك التّنافر في بعض مراتبه دون بعض. ومجال مدركات الذّوق لا ينحصر في تنافر الحروف كما تقدّم.
٧. انحراف الذّوق الأدبيّ.
يلاحظ أنَّ الذّوق الأدبيّ على ضربين: مستقيم، ومنحرف، والفرق بين انحراف الذّوق وضعفه: أنَّ الضّعيف لا يدرك ضرباً من المزايا الدّقيقة بينما الذّوق المنحرف يرى الكلام الخالي عن المزيّة واجداً لها. فالفرق بينهما كالفرق بين من يتوقّف في الطّريق المستقيم إلى مقصد ـ بظنّ وصوله إلى المقصد ـ وبين من ينحرف عن الطّريق إلى طريق آخر ولذلك كان الذّوق الضّعيف ضرباً من الذّوق المستقيم والذّوق المنحرف مقابلاً له. وظاهرة الانحراف أيضاً حالة مشهودة في بعض النّاس.
وربّما يحدث أنْ يعتقد صاحب الذّوق الضّعيف مزيّة للكلام ليس بمزيّة، أو لا يتصف بها لكن لا لانحراف في الذّوق، وإنَّما لإدراك خاطئ، أو إحساس كاذب كما مرّ في الأمر الرّابع.
٨. علوّ أذواق العرب في الجاهلية وصدر الإسلام وبعض مظاهر ذلك.
لا شكّ في أنَّ العرب في الجاهلية وصدر الإسلام ـ لاسيّما القاطنين منهم بالحجاز ـ كانوا على مراتب عالية من الذّوق الأدبيّ، كما أنَّ تفاضل لغاتهم في الفصاحة إنَّما يرجع إلى تفاوتهم في ذلك, فحيث يقال إنَّ لغة الحجاز أفضل من لغة تميم وغيرها فلا يعني ذلك إلّا ابتناء لغتهم على سليقة أدبيّة عالية.
ومن مظاهر هذا المعنى:
١. إنَّ المتأمّل في معاني الكلمات لغةً يجد أنَّ وضعهم لبعض الموادّ والهيئات لمعاني خاصّة مبنيّة على مناسبات دقيقة ملحوظة بين نغمة الأصوات الّتي تتألّف منها وبين تلك المعاني. وربّما رجع إلى هذا المعنى ما نسب إلى بعض العلماء من القول بكون دلالة الألفاظ ذاتيّة.
٢. وضع هيئات عامّة لمعانٍ نوعيّة كهيئات الصّفات والأفعال والمصادر والجموع فإنَّ هذه الهيئات لم تحدث بوضع عامّ واحد كأنْ يُقال (وضعت هيئة (أفعال) لجمع تكسير الثّلاثي)، وإنَّما جروا فيها على الوضع المماثل في الموادّ المختلفة بحسب سليقتهم اللّغوية فانتزع من خلال تجمّع الأمثلة الكثيرة هذه الهيئات العامّة.
والواقع: أنَّ جميع اللّغات تبتني في مرحلة وضعها ونموّها على ترشّحات ذوقيّة قويّة من أهلها ربّما غفل عنها المتأخّرون من أبنائها.
٣. الالتزام بوضعٍ ثابت أو منظّم في أواخر الكلمات ـ ولو غالباً ـ الّذي هو مبنى قواعد البناء والإعراب المذكورة في علم النّحو، فإنَّ هذا الالتزام لم ينشأ عن وضعٍ مسبقٍ عامٍّ لتلك القواعد قد راعاها العرب تعبّداً وتكلّفاً كما يراعيها المتعلّمون لها من أبناء اللّغة العربية. وإنَّما نشأ عن وجود مناسبات معيّنة اقتضت تلك الأمور كرفع العُمَد في الكلام كالمبتدأ والخبر والفاعل، ونصب الفضلة كالمفاعيل والحال والتمييز فكان التزامهم بذلك استجابة لتلك المناسبات.
٤. براعتهم في تعريف المعاني بالكناية والاستعارة والتشبيه وغيرها.
٥. اهتداؤهم إلى سائر النّظم البلاغية المعنويّة واللّفظيّة كالأوزان الشّعريّة ووجوه المحسّنات النّثريّة كالسّجع والموازنة، وإحساسهم بها بأدواتهم بما أتاح لهم القدرة على مراعاتها من غير حاجة إلى القواعد الصّناعيّة الّتي وضعها علماء اللّغة بعد ذلك.
٩. هبوط مستوى الذّوق العربيّ بعد ذلك وآثاره في العلوم الأدبيّة.
وقد هبط مستوى الذّوق العربي بعد الإسلام شيئاً فشيئاً كما ينعكس ذلك في ظواهر عدّة، منها: توقّف مراعاة الظّواهر اللّغوية على انتزاع قواعد عامّة منها، والتّكلّف في العمل عليها، وفَقْد حالة الإحساس بالمناسبات الّتي اقتضتها.
وقد ترك هذا الهبوط ـ الّذي شمل أيضاً علماء اللّغة ـ ظواهر سلبيّة متعدّدة في العلوم الأدبيّة، ولعلّ بالإمكان إرجاعها إلى ظواهر رئيسة ثلاث:
الأُولى: الإفراط في تفسير الظّاهرة: بمعنى اعتبارها أكثر من مستواها لدى العرب، فقد تكون مراعاة العرب لأمر ما في مستوى التّناسب فيعتبرها علماء اللّغة قاعدة ملزمة ـ كما لا يبعد ذلك في القواعد الإعرابيّة كما سيأتي ـ .
الثّانية: التّفريط في ذلك: بمعنى إهمال ظاهرة ما ولو لعدم التّوجّه إليها كإهمال اختلاف الكلمات الفصيحة في الجمال أو اختلاف جمال الكلام بحسبها ـ كما سيأتي ــ.
الثّالثة: التّحليل الخاطئ: بمعنى عدم تحليل الظّاهرة على وجهها الواقعي، وهو على وجهين:
أ. قد يرجع ذلك إلى الخطأ في ترصّد الظّاهرة ممّا يوجب عدم تماميّة القاعدة المجعولة كضابط لها، كخطأ النّحاة في اعتبار مثل صيغة (مفاعل) و(أفاعل) و(فعالل) ونحوها صيغاً متعدّدة اعتباراً بالحروف الأصليّة مع أنّها جميعاً صيغة واحدة ضابطها إضافة الألف بعد ثاني حروف الكلمة أو على ثاني حروفها، واختلاف الحروف الأصلية يرجع إلى اختلاف المفردات في نفسها ولا دخالة لجموعها في ذلك.
ب. وقد يرجع الخطأ في تحليل الظّاهرة إلى مجرّد الخطأ في معرفة فقه اللّغة وتعليل وجه بناء العرب عليها فلا يوجب الضّابط المجعول لها، ومن هذا القبيل أكثر التّعليلات النّحوية والصّرفية لقواعد هذين العلمين، ففي جوّ غياب الذّوق المنبّه على التّناسب الطّبيعي في الالتزام بالظّاهرة تكثر التّعليلات المشتبهة طبعاً عند التّعدّي لتحليلها ومعرفة أُسسها.
وقد نجمتْ عن هذه الظّواهر آثارٌ سلبية عميقة وربّما مستوعبة في مختلف العلوم الأدبية ـ حتّى يكاد يتغيّر أركان بعض هذه العلوم على تقدير إصلاحها ـ نظير ما وقع في علم الأصوات من الاعتقاد بأنَّ الألف وأختيها حروف مع أنَّها على حدّ الحركات، ورتبوا على ذلك أنَّ ما قبل الألف مفتوح، وما قبل الواو مضموم، وما قبل الياء مكسور. ولا موضوع لذلك بعد كونها من قبيل الحركات، وقد وقعت أخطاء في علم الصّرف والنحو لا يسع المقام ذكرها.
١٠. اختلاف مدركات الذّوق الأدبيّ في مدى قبولها للبيان التّحليلي.
إنَّ مدركات الذّوق الأدبيّ على ثلاثة أقسام في مدى قبولها للبيان التّحليلي:
الأوَّل: ما يسهل تحليله سواء كانت مزايا معنويّة أو لفظيّة كالسّجع والموازنة.
الثّاني: ما يعسر تحليله فيتوقّف على قدرة ذوقيّة وقدرة تحليليّة بالغة على ضوء التّسلّط على العلوم الأدبيّة وممارسة النّصوص الأدبيّة ومزاياها، وقد يختلف العلماء في محاولة تحليل ذلك على وجوه مختلفة، وممّا يندرج تحت ذلك تحصيل الفرق في بعض المفردات المتقاربة الّتي يشهد الذّوق اللّغوي بعدم ترادفها.
الثّالث: ما يتعذّر تحليله أصلاً فهو من قبيل (ما يدرك ولا يوصف)، وهذه حالة مشهودة في النّكات المعنويّة والمزايا اللّفظيّة..
أمَّا في النّكات المعنويّة فكثيراً ما يجد الإنسان الممارس جمالاً معنويّاً في الكلام مع أحد اللّفظين دون الآخر من دون قدرة على تحليله بالتأمّل والمقارنة بين مفهوميهما. وليس ذلك من جهة خفائها وإلّا لتمكّن من بيانها صاحب الذّوق العالي الّذي يحسّ بها بوضوح وإنّما لدقّتها.
وأمَّا في المزايا اللّفظيّة فهو أوضح، فإنَّ اختلاف الألفاظ المفردة والمؤلّفة في الفصاحة وعدمها وكذلك اختلاف الفصيح منها في مستوى الرّوعة والجمال الذّاتي ممّا لا سبيل إلى تحليله؛ لأنَّه وليد مدى تناسب وانسجام الأصوات المجتمعة وكيفيّاتها ـ من المدّ والسّكون والحركة ـ وهذا التّناسب في كلّ كلمة أو كلام وليد حالة جزئيّة خاصّة، ولا سبيل إلى تحليل تلك الحالات الجزئية على ضوء صفات الحروف المجتمعة وتحصيل ضابط لذلك ـ كما سيتّضح أمثلة ذلك في الفصل الثّالث ــ .
وقد حاول بعض علماء البلاغة إعطاء ضابط لفصاحة الكلمة على وجوه متعدّدة لكنْ استقر رأي المحقّقين منهم على أنَّه لا ضابط لذلك عدا الذّوق السّليم.
فعن ابن الأثير (ت ٦٠٦هـ) في كلام له حول تنافر الحروف الّذي عُدَّ من الأمور المخلّة بفصاحة الكلمة:
(ليس التّنافر بسبب بُعد المخارج وأنَّ الانتقال من أحدهما إلى الآخر كالطفرة، ولا بسبب قربها وأنَّ الانتقال من أحدهما إلى الآخر كالمشي في القيد لما نجد غير متنافر من قريب المخرج كالجيش والشجّي وفي التّنزيل (أَلَمْ أَعْهَدْ) ومن البعيدة ما هو بخلافه كملع (أي أسرع في السّير) بخلاف علم.
وليس ذلك بسبب أنَّ الإخراج عن الحلق إلى الشّفّة أيسر من إدخاله من الشّفة إلى الحلق لما نجد من حسن غلب وبلغ وحلم وملح. بل هذا أمر ذوقيّ فكل ما عدّه الذّوق الصّحيح ثقيلاً متعسر النّطق فهو متنافر سواء كان من قُرب المخارج أو بُعدها أو غير ذلك)(١٨).
قال التّفتازاني (ت٧٩٢هـ) بعد نقله لهذا الكلام: (ولهذا اكتفى المصنّف بالتمثيل ولم يتعرّض لتحقيقه وبيان سببه لتعذّر ضبطه، فالأوْلى أنْ يحال إلى سلامة الذّوق)(١٩).
ولعلّ من أمثلة حالة تعذّر بيان المزايا المعنويّة واللفظيّة جميعاً الفارق النّوعي المحسوس بين النّصوص الأدبيّة المختلفة الصّادرة عن متكلّم عمّا صدر عن متكلّم آخر على وجهٍ يمكن أنْ يميّز به عدم صحة بعض ما كان للأوَّل فنسب إلى الثّاني وبالعكس، وليس ذلك إلّا لاختلاف القرائح والأذواق الأدبيّة المولّدة للكلام البليغ الّذي يُستشفّ من خلال مجموع كلماته وإنْ لم يكن سبيل إلى توصيفها.
وقد تمسّك بهذا المعنى ابن أبي الحديد المعتزلي (ت ٦٥٦هـ) في شرحه على نهج البلاغة(٢٠) في إبطال دعوى كون ما ورد فيه مختلقاً ومجعولاً على الإمام علي g ضارباً لذلك أمثلة عديدة من خلال قصائد الشّعراء، بل القرآن الكريم نفسه.
١١. عدم كفاية التّدقيق النّظري عن الذّوق الأدبيّ.
يلاحظ أنَّ التّدقيق النّظري لا يكفي عن الذّوق الأدبيّ في استكشاف مزايا الكلمة والكلام حتّى فيما كانت المزيّة تقبل التّحليل والبيان؛ وذلك لأنَّ التّدقيق وإنْ كان يؤدي إلى استكشاف المزيّة أحياناً، إلّا أنَّه لا يؤدي إلى ذلك دائماً. مضافاً إلى أنَّه طريق غير مأمون، إذْ ربّما تكون النّكتة المستنبطة نكتة مبذولة لا قيمة لها ذوقاً، أو تكون منتقضة بموارد أخرى لم يطّلع عليها النّاظر، وسيأتي لذلك أمثلة في الفصل الثّالث.
الطريق الثّاني: الضّوابط الأدبيّة.
الطّريق الثّاني للاهتداء إلى مزايا الكلام الضّوابط الأدبيّة الّتي هي تحليلات عامّة لجوانب من مدركات الذّوق الأدبيّ، وقد تعرّض لها أو لطرف منها في علم البلاغة
ـ لاسيّما قسم البديع منها ـ :
١. انقسام المزايا إلى ما يقبل الضّابط وما لا يقبله.
تنقسم المزايا اللّفظيّة والمعنويّة جميعاً إلى قسمين، قسم يقبل الضّابط، وقسم لا يقبله.
أمَّا المزايا اللّفظيّة فممّا لا يقبل الضّابط منها ما يتعلّق بالجمال الذّاتي للفظ بمفرده أو بموقعه في الجملة كما تقدّم. وممّا يقبل الضّابط: مزايا عدّة مذكورة في قسم المحسّنات اللّفظيّة من علم البديع كالسّجع والموازنة.
وأمَّا المزايا المعنويّة فما لا يقبل الضّابط منها هو النّكات الجزئيّة المختلفة بحسب خصوصيات الموارد من قبيل ترجيح التّعبير بـ(أهون) على التّعبير بـ(أضعف) في قوله تعالى: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ)(٢١). وما يقبل الضّابط منها جهات مذكورة في المحسّنات المعنويّة من علم البديع كالطباق(٢٢).
ومن ذلك يظهر أنَّ علم البديع هو المتكفّل للمزايا النّوعيّة المعنويّة واللّفظيّة، إلّا أنَّهم لم ينبّهوا فيها على وجود مزايا أخرى جزئيّة للكلام، بل لم أجد التّنبيه على وجود مزايا لفظيّة من حيث اختلاف الألفاظ الفصيحة في مستوى الجمال حتّى في كلماتهم المتفرّقة في غضون كتب التّفسير ونحوها.
٢. بعض المزايا المعنويّة واللّفظيّة العامّة.
ذكر علماء البديع طائفة من المزايا المعنويّة واللفظيّة، إلّا أنَّ جملة منها لا يخلو عن ملاحظات كالإرصاد والإدماج والجمع(٢٣) كما أنَّ جملة منها وإنْ كانت لا تخلو عن نكتة إلّا أنَّه ممّا لا يليق بالكلام القرآني من قبيل التّورية والتوجيه(٢٤)، بل الظّاهر أنَّه لا تعلّق لشيء من المحسّنات المعنويّة بظاهرة اختيار بعض الكلمات على بعض ـ الّتي نحن بصدد تفسيرها ـ .
وأمَّا المحسّنات اللّفظيّة فأهمها:
١. الجناس اللّفظي: وهو تشابه اللّفظين: إمّا تماماً بالاتفاق في نوع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها، أو في بعض ذلك، مع الاشتراك في أكثر من حرفين، ومن أمثلته (دوام الحال من المحال) و(الهوى مطيّة الهوان) وغير ذلك.
٢. السّجع وهو توافق الفاصلتين من النّثر في الحرف الأخير.
والظّاهر أنَّه يعتبر فيه مضافاً إلى ذلك تماثل وزن آخر الكلمتين أو تقاربه بتماثل الحرفين أو الحروف الثّلاثة الأخيرة في حركاتها وسكناتها، أو تقاربها في ذلك، وينقسم إلى قسمين:
الأوَّل: السّجع المطرف: وهو أنْ تختلف الفاصلتان في الوّزن والتّقفية مثل: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)(٢٥).
والآخر: السّجع المتوازي: وهو أنْ تتّفق الفاصلتان في الوزن والتّقفية جميعاً كـ (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ)(٢٦).
٣. الموازنة: وهي تساوي الفاصلتين في الوزن دون التّقفية نحو (وَنَمَارِقُمَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)(٢٧).
٤. تناسب فقر الكلام (أي أوزان مجموع الجملتين) إمّا بأنْ تكون متساوية طولاً وقصراً نحو (فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ)(٢٨)، أو بأن تكون الثّانية أطول من الأولى نحو (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّصَاحِبُكُمْ وَمَاغَوَى)(٢٩) ولا يحسن عكس ذلك.
٥. تماثل سائر الألفاظ في الفقر المتساوية أو تقاربها من حيث الوزن، أو من حيث الحرف الأخير، أو من الجهتين معاً من قبيل: (وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٣٠) و(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(٣١) وقول القائل: (هو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ويقرع الأسماع بزواجر وعظه).
وقد ذكر المزيّتين الأخيرتين علماء البلاغة في ضمن تقسيمات السّجع والموازنة، مع أنَّه لا تعلّق لهما بذلك؛ لأنَّ السّجع والموازنة إنَّما هما من شؤون فواصل الجمل وأواخرها فتناسب صدورها مزيّة مستقلة ولا يوجب جمالاً في نفس السّجع أو الموازنة كما هو ظاهر.
٣. عدم استيعاب علماء البلاغة للمزايا اللّفظيّة.
ويلاحظ أنَّ هناك مزايا لم يشر إليها علماء البلاغة، من قبيل تناسب الوصف والموصوف، أو المعطوف والمعطوف عليه في الوزن، أو الحرف الأخير، وإنْ كان المتعاطفان جزءاً من جملة واحدة وليسا جملتين مستقلتين.
الطريق الثّالث: بعض العلامات الخارجية.
الطريق الثّالث للاهتداء إلى وجود مزيّة في الكلمة تشكّل علامة خارجيّة هي: ثبوت التزام المتكلّم البليغ باستعمال كلمة ما بين بديلاتها ما لم يوجد مرجّح مقدّم عليه، فهذه الحالة تعبّر عن وجود مزيّة ما في الكلمة إنْ لم تكن معنوية فلفظيّة.
ثُمَّ في هذه الحالة: تكون الدّلالة على مراتب تبعاً لعدد استعمال الكلمة في موارد مختلفة، فكلّما تعدّدت استعمالات الكلمة كانت الدّلالة أقوى، وهي ترجع إلى مرتبتين:
الأُولى: الدّلالة النّاقصة أو (الإشعار): وهي أنْ يكون عدد موارد استعمال الكلمة على بديلاتها بحدٍّ يستشعر معه وجود مزيّة في الكلمة من غير أنْ يجزم بذلك، لاحتمال أنْ يكون ذلك على سبيل الاتفاق أو شبهه، وهي ذات مراحل متعدّدة.
وربّما لا يبلغ استعمال الكلمة في نفسه حدّاً يوجب الجزم، ولكنَّه يكون منبّهاً للإنسان على مزيّة خفيّة في بادئ النّظر فينتقل الباحث إلى تلك المزية تفصيلاً.
والأخرى: الدّلالة التّامّة: وهي أنْ يبلغ عدد موارد اختيار الكلمة حدّاً يمثّل الالتزام به في التّعبير عن المعنى فلا ينفكّ عن مزيّة بمقتضى الحكمة.
الفصل الثّالث
في تفسير ظاهرة استعمال جموع تكسير مختلفة لمفرد واحد في القرآن الكريم.
تمهيد في ذكر أمور عديدة..
الأمر الأوَّل: انتساب هذه الظّاهرة.
قد عرفت فيما تقدم أنَّ هذه الظّاهرة تنتسب إلى ظاهرةٍ قرآنيةٍ كبرى في اختيار بعض الألفاظ المترادفة أو المتقاربة على بعض، ولهذه الظّاهرة فروع عدة باعتبارات متعددة:
(منها): أنَّها تارة: تكون تلك الألفاظ من موادّ مختلفة، وأخرى: تكون من مادّة لغويّة واحدة مع الاختلاف في الهيئة، كأثيم وآثم، وصبور وصابر.
(ومنها): أنَّها تارة: تكون من أنواع متعدّدة كالمفرد والجمع، أو الجمع واسم الجمع، أو المصدر والوصف، وأخرى: تكون من نوع واحد مع اختلاف الهيئة وحينئذ: فتارة: تكون مصادر متعدّدة كمغفرة وغفران، ورحم ورحمة، وأُخرى: أوصافاً متعدّدة كشكور وشاكر، وعليم وعالم، وثالثهً: أفعالاً متعدّدة ولو بأنْ يكون بعضها من الثّلاثي المجرّد، وبعضها من المزيد مع اتحاد معناهما أو قربه، ورابعةً: تكون أسماء أجناس متعدّدة، وخامسةً: تكون جموعاً متعدّدة لمفردات متقاربة أو لمفرد واحد.
وفي الحالة الأخيرة قد تكون تلك الجموع جميعاً جمعاً سالماً كاختيار (قانتين) على(قانتات) في قوله تعالى: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)(٣٢)، وقد يكون بعضها جمعاً سالماً،
وبعض آخر جمع تكسير(٣٣)، وقد تكون جميعاً جمع تكسير، وهو موضوع هذه الرّسالة.
والبحث عن تفسير هذه الظّاهرة محاولة لاكتناه النّواحي الفنيّة والبلاغيّة في القرآن الكريم واستكشاف البُعد البلاغي لاختيار ألفاظ خاصة حيث ثبت تميّز القرآن الكريم على الكلام البشري بالبلاغة المعجزة.
الأمر الثّاني: أمثلة هذه الظّاهرة.
ولا بُدَّ من ذكر أمثلة هذه الظّاهرة ليتسنّى للباحث مطالعتها والتّأمّل في نكات الاختيار القرآني وعلّة ترجيح بعض الجموع على بعض, وقد سطرناها في الجدول أدناه على ما استقرأناهُ بمعونة المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم, وقد أشرنا إلى موضع ذكر الكلمات فيه ليسهل على الباحث ملاحظة الآيات الّتي حوتها كما ذكرنا عدد موارد استعمال كلّ جمع.
| العدد | المفرد | الجمع المستعمل في القرآن | المعجم المفهرس |
| ١ | أسير | أسرى /٢ - أُسارى /١ | ٣٣ |
| ٢ | ألف | أُلوف/١ - آلاف /٢ | ٣٦ |
| ٣ | الّتي | اللاتي/١٠-اللائي(٣٤)/٤ | ٣٦ |
| ٤ | أَخ | إخوة/٧ – إخوان/٢٥ | ٢٤ |
| ٥ | خليفة | خلفاء/٣ - خلائف(٣٥)/٤ | ٢٤٠ |
| ٦ | ذكر | ذكور/٢ – ذكران/١ | ٢٧٥ |
| ٧ | ساجد | سجود/٢ – سُجَّد | ٣٤٥ |
| ٨ | سِوار | أسورة/١ – أساور/٤ | ٣٧٠ |
| ٩ | شديد | شداد/٣ - أشدّاء/١ | ٣٧٧ |
| ١٠ | شاهد | شهود/٣ – أشهاد /٢ | ٣٨٩ |
| ١١ | شهر | شهور/١ – أشهر/٦ | ٣٩٠ |
| ١٢ | شيعة | شِيَع/٥ – أشياع /٢ | ٣٩٨ |
| ١٣ | ضعيف | ضعفاء/٤ – ضعاف/١ | ٤٢١ |
| ١٤ | عبد | عبيد/٥ – عباد/١١٦ | ٤٤٣ |
| ١٥ | فاجر | فجّار/٣ – فجرة/١ | ٥١٣ |
| ١٦ | كافر | كفّار/٢١(٣٦)- كفرة /١ | ٦١٢ |
| ١٧ | ميْت | أموات/٥ – موتى /١٧ | ٦٧٩ |
| ١٨ | نصيب(٣٧) | نُصُب/٢ – أنصاب/١ | ٧٠١ |
| ١٩ | نعمة | نِعَم/١ – أنعُم / ١ | ٧٠٨ |
| ٢٠ | نفس | نفوس/٢– أنفس/١٥٣ | ٧١٣ |
وربَّما يظن مثل ذلك في موارد أخرى لا تصحّ بحسب الدّقة، كما في (صحف وصحاف) فإنَّ (صحف) جمع (صحيفة) و(صحاف) جمع (صفحة) بمعنى (القصعة).
الأمر الثّالث: ملاحظات على كلام السّائل.
ويلاحظ أنَّ كلام السّائل لم يخلُ عن ملاحظات يحسن إلفات النّظر إليها لإنارة الموضوع، وذلك أنَّه سأل عن سرّ استعمال جموع تكسير مختلفة لمفردة واحدة في القرآن الكريم من النّاحية البلاغية ممثّلاً لذلك بأمثلة ثلاثة وهي: (أبرار) و(بررة) في جمع (بارّ) و(أشهاد وشهود وشهداء) في جمع (شاهد) و(أنعام و أنعُم و نِعَم).
وهذه الملاحظات كما يلي:
الملاحظةالأُولى:من حيث تحديد موضوع السّؤالبـ (جموع تكسيرمختلفة لمفرد واحد).
وهذا التّحديد ينحلّ إلى تحديدين:
أ. كون الجموع كُلّاَ ًمن قبيل جموع التّكسير.
ب. كون الجموع جميعاً مستعملة في القرآن الكريم.ولعلّ السّائل لاحظ في التّحديد الأوَّل تأكّد السّؤال في هذه الحالة، لأنَّه كلّما كان أحد اللّفظين أقرب إلى الآخر كان اختيار أحدهما على الآخر أحوج إلى تفسيره ممّا إذا كانا متباعدين. وعليه فَرَضَكون الجمعين من نوع واحد ـ هو جمع اتكسير ـ تحقيقاً لتقارب الكلمتين.
ويلاحظ بشأنه (أوَّلاً): إنَّ هذا التّقارب بين جموع التّكسير تقارب لفظي محضّ من حيث عدم انكسار وزن الكلمة بجمعها, ولا تأثير لمثل ذلك في تشديد حاجة الظّاهرة إلى التّفسير، فكما يرد السّؤال عن وجه اختيار (سجود وسجّد) أو (شهود وأشهاد) أو (كفّار وكفرة) كذلك يرد مثله في اختيار (ساجدين وشاهدين وكافرين).
(وثانياً): إنَّه لو قدّر وجود فرق معنويّ بين نوعي الجمع لم يوجب ذلك أيضاً خفة السّؤال حول ذلك, لأنَّ السّؤال إنَّما اتّجه على أساس وجود حكمة في الانتقاء القرآني للمفردات على بديلاتها، ولا فرق فيه مع وجود فارق معنوي طفيف ومع عدم وجوده.
وأمَّا التّحديد الثّاني ـ وهو استعمال الجموع في القرآن ـ فلعلّه لاحظ فيه أيضاً تأثيره في تأكّد السّؤال، لأنَّ في استعمال الجموع في القرآن دلالة على بلوغها مستوى المفرد القرآني في الفصاحة, وهذا بخلاف ما لم يستعمل بعضها فيه فإنَّه يحتمل كون ذلك باعتبار عدم بلوغ الجمع المتروك إلى هذا المستوى.
وهذا أيضاً محلّ نظر؛ إذْ من الممكن إحراز بلوغ الجمع المتروك نفس المستوى بالذّوق اللّغوي العالي؛ إذْ الفصاحة ليست حالة مجهولة في اللّفظ، بل هي مشهودة بحسب الذّوق الأدبيّ.
وعليه، فلا فرق مهمّ هناك بين كون الجموع جميعاً جموع تكسير أو جموع سلامة أو مختلفة, ولابين كونهاجميعاً مستعملةفي القرآنأو لا.ولكنّا حدّدناموضوع الرّسالة بذلك محافظة على اختصارها، على أنَّه نموذج يظهر بالبحث عنه الحال في الحالات المماثلة.
الملاحظة الثّانية: من حيث تحديد جهة السّؤال بـ (النّاحية البلاغيّة) لهذه الظّاهرة.
فإنَّ هذا التّحديد يوحي بأنَّه لا بُدَّ من سرٍّ بلاغي لها، وهذا غير تامّ.
أمَّا أوَّلاً فلإمكان أنْ يكون السّرّ أو بعض السّرّ في ذلك جهة لغويّة, وذلك باختلاف مداليل الجموع: إمَّا في نوع المعنى، بأنْ يكون بعضها أضيق معنىً من مفرده دون بعض، كما قيل في (الأَعْرَاب) أنَّه يختصّ بأهل البادية دون مفرده وهو (العرب)، أو في استيعاب مراتب الجمع بناءً على انقسام جموع التّكسير إلى قلّة وكثرة كما هو المعروف بين النّحاة, وسيأتي تفصيل ذلك.
وأمَّا ثانياً فلأنَّه على تقدير عدم وجود سرّ لغويّ لهذا الاختيار فبالإمكان أنْ يكون هذا الاختيار على أساس تكافؤ الجموع وتساويها فاختير كلّ واحد منها في موضع أو مواضع تفنّناً، ولا يتعيّن أنْ يكون ذلك على أساس تفاضلها في جهة لفظية أو معنوّية كما سيأتي أيضاً إنْ شاء الله تعالى.
ولذلك حذفنا هذا التّحديد من موضوع الرّسالة.
الملاحظة الثّالثة: من حيث الأمثلة المذكورة.
أ. (أبرار) و(بررة) جمع (بار).
والصّواب في هذا المثال أنَّ (أبرار) جمع (بَرّ) و(بَررة) جمع (بارّ) كما صرّح به جماعة من اللّغويين ـ على ما سيأتي(٣٨) ـ وإنْ ذهب بعضهم إلى عكس هذا القول كالرّاغب.
وتوضيح ذلك: أنَّ كلمة (بارّ) وصف رباعي(٣٩)على وزن (فاعل)، و(برّ) اسم ثلاثي مضاعف.
وصيغة(فاعل) تُجمععلى أوزانعدّة منجملتها هيئة(فَعَلَة) ككاملوكَمَلَة، وساحر وسَحَرَة، وكافر وكَفَرَة، وخازن وخَزَنَة، وصاحب وصَحَبَة، وجاهل وجَهَلَة، وفاجر
وفَجَرَة، وحامل وحَمَلَة، وكاتب وكَتَبَة... إلخ.
و(منها): وزن (فُعّال وفُعّل)، وليس من جملتها هيئة (أفعال) اللّهم إلَّا نادراً كشاهد وأشهاد.
قال المحقّق الرّضي في شرح الشّافية: (اعلم أنَّ الغالب في فاعل الوصف (فُعَّل) كشهَّد وغيَّب ونزَّل وقوَّم وصوَّم... ويكسّر أيضاً على فُعّال كزوّار وغُيّاب، وهما أصلٌ في جمع فاعل الوصف أعني فُعَّلاً وفعَّالاً، ويجيء على (فَعَلَة) أيضاً كثيراً، لكنْ لا كالأوَّلين نحو (عَجَزَة وفَسَقَة وكَفَرَة وبَرَرَة(٤٠)وخَوَنَة وحَوَكَة...)(٤١).
وأمَّا (فعل) المضاعف فهو يُجمع على (أفعال)، فإنَّ (أفعال) تأتي جمعاً للكلمات الثّلاثية(٤٢) كثوب وأثواب، وقول وأقوال.. ولا تأتي في الكلمات الرّباعيّة إلّا ندرةً وشذوذاً. ومن جملة أنواع الكلمات الثّلاثية الّتي يُجمع عليها المضاعف كـ (سرّ وأسرار، ومدّ وأمداد، ومنّ وأمنان, وسنّ وأسنان, وجَدّ وأجداد, وربّ وأرباب, ولفّ وألفاف بل ذكر المحقّق الرّضي في شرح الشّافية: أنَّه (لم يأتِ في قلّة المضاعف ولا كثرتها إلّا أفعال كأمداد وأفنان وألباب)(٤٣) فهو يختصّ بهذا الباب.
وعليهفيتعيّن أنْيكون (بررة)كأخواتها الّتيهي علىوزن (فَعَلَة)جمعاً لـ (فاعل)
وهو لفظ (بار)، و(أبرار) كأخواتها الّتي هي على وزن (أفعال) جمعاً لـ (فعل) وهو كلمة (برّ).
وستأتي مناقشة من ذهب إلى عكس ذلك إنْ شاء الله تعالى.
وعلى ما ذكرنا يختلف مفرد الجمعين فلا يندرج استعمالهما تحت هذه الظّاهرة.
ب. (شهود, أشهاد, شهداء) جمع (شاهد).
والصواب أنَّ (شهداء) جمع (شهيد) كما نصّ عليه اللّغويون من غير خلاف(٤٤) وتقتضيه المقاييس الصّرفية، فإنَّ هيئة (فعلاء) ترد قياساً جمعاً لفعيل بمعنى (فاعل) ـ لا لنفس صيغة (فاعل) ـ ككريم وكرماء، وشريف وشرفاء، وحليم وحلماء، وعليم وعلماء، ورحيم ورحماء.
وأمَّا (شهود وأشهاد) فللغويين فيهما قولان(٤٥):
الأوَّل: إنَّهما جمع (شَهْد).
والآخر: إنَّهما جمع (شاهد).
وسرّ الخلاف: أنَّ (فعول وأفعال) يردان جمعاً لكل من (فعل) و(أفعال)، وقد استعمل كل منهما في هذه المادّة.
وأمَّا ما قيل من (أنَّ الشّهداء اسم للجمع عند سيبويه، وجمع عند الأخفش) ـ حكاه في لسان العرب ـ فكأنَّه سهو، وصوابه: (الشَّهْدُ) كما في اللّسان(٤٦)، فإنَّ الخلاف بين العلَمَين في صيغة (فعل) كـ (ركب وصحب) لا في صيغة (فعلاء) كما هو معروف.
ج. (أنعام وأنعم ونعم).
والصواب: أنَّه إنْ كان غرض السّائل أنَّ مفردها (نعمة) فلا يصح ذكر (أنعام)؛ لأنَّه جمع (نِعَم) بمعنى الأبل أو ما يعم البقر والغنم. وإنْ كان غرضه أنَّ مفردها (نَعَم) نفسه، فمن المعلوم أنَّ (نَعَم) و(نِعم) بكسر النّون جمعان لـ (نعمة).
وأمَّا ما قيل من أنَّ (الأنعم والنعم هما من المشتركات ولا تختصّ بالإبل فيكونان جمعاً للنعمة، كما يكونان جمعاً للنعم فيما يظهر) فليس بتامّ، بل هما ذوا معنى واحد جمعاً للنعمة. نعم، النّعمة أعمّ من النِّعَم بمعنى الإبل.
وبهذا تتم المقدمة الّتي أردنا ذكرها، فلنتحدث في أصل الموضوع حول أسباب هذه الظّاهرة.
تفسير هذه الظّاهرة وذكر أسبابها.
إنَّ لهذه الظّاهرة أسباباً عديدة نذكرها تباعاً، وقد ينطبق أكثر من سبب في مورد واحد فيتكرر ذكره في تلك الأسباب بهذا الاعتبار(٤٧).
السّبب الأوَّل: تكافؤ الألفاظ معنىً ولفظاً.
قد يُظنّ أنَّ اختيار أحد اللّفظين المؤدّيين للمعنى على الآخر في القرآن الكريم لا بُدَّ أنْ يبتني على امتياز له على الآخر في جهة لغويّة أو بلاغيّة لفظاً أو معنىً, وقد يظهر هذا الانطباع من كلمات كثير من علماء البلاغة حيث يتعرّضون لبيان وجه اختيار أحد اللّفظين على الآخر كالزّمخشري في الكشّاف وغيره, وقد جرى عليه السّائل كما تقدّم.
ولكن الصّحيح أنَّ تكافؤ اللّفظين من النّواحي اللّفظيّة ِوالمعنويّة يصلح أساساً لانتخاب أحدهما خاصّة, مع اختيار الآخر في موضع آخر تفنّناً أو بدون ذلك, إذْ لا محيص للمتكلّم في هذه الحالة عن اختيار أحدهما، ومن ذلك يظهر أنَّ مجرّد اختيار كلمة ما في موضع من القرآن لا يعني بالضّرورة وجود مرجّح لها على بديلاتها.
ولا يخفى أنَّه لا يمكن للإنسان أنْ ينفي وجود أيّة مزيّة بلاغيّة للّفظ المختار على غيره بمجرّد عدم الاطلاع عليه عادة؛ لأنّ هناك نواحياً بلاغيّةً منوطة بالذّوق البالغ في الدّقّة والصفاء ممّا لا يملكه إلّا ثلّة قليلة من أبناء اللّغة العربيّة.
نعم، لا يصلح تفسير اختيار أحد اللّفظين على الآخر بالتكافؤ في عدّة حالات: وهي (الالتزام) و(التّخصيص) و(العدول)، وقد مرّ شرحها في الفصل الأوَّل.
من أمثلة هذه الحالة:
ولعلَّ من أمثلة تكافؤ اللّفظين هو:
١) اختيار كلمة (اللاتي) في جمع (الّتي) على (اللائي) وبالعكس في عدّة مواضع نذكرها ليتّضح للباحث قرب ملابسات استعمالهما أحياناً ويتسنّى له التّأمّل فيها.
(اللائي):
١. (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ)(٤٨).
٢. (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ)(٤٩).
٣. (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ)(٥٠).
٤. (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ)(٥١).
(اللاتي):
١. (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ)(٥٢).
٢. (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ)(٥٣).
٣. (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ)(٥٤).
٤. (مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)(٥٥).
٥. (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ)(٥٦).
٦. (فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ)(٥٧).
٧. (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)(٥٨).
٨. (وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً)(٥٩).
٩. (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)(٦٠).
١٠. (وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ)(٦١).
٢) اختياركلمة (خلفاء)في جمع(خليفة) على(خلائف) وبالعكسفي مواضع نذكرها لنفس النّكتة.
(خلائف):
١. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ)(٦٢).
٢. (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(٦٣).
٣. (وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)(٦٤).
٤. (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)(٦٥).
(خلفاء):
١. (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)(٦٦)
٢. (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ)(٦٧)
٣. (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ)(٦٨).
وتشابه بل تماثل الملابسات في الطّائفتين ظاهر.
السّبب الثّاني: اختلاف الجمعين في نوع المعنى مع اتّحاد معنى المفرد.
إنَّ هيئة الجمع وإنْ لم تقتضِ إلّا الدّلالة على تعدّد معنى مفرده إلّا أنَّه قد يطرأ عليه بالاستعمالات تغيّر دلاليّ, ولذلك أمثلة متعدّدة في اللّغة..
منها: الفرق بين الأَعْرَاب والعرب، فإنَّ الأوَّل جمع الثّاني على الصّحيح، ولكنَّهما مختلفان معنىً، ففي اللّسان (فَمَن نَزَل البادية، أَو جاوَرَ البَادِينَ وظعَنَ بظَعْنِهم، وانْتَوَى بانْتِوائهِم: فهم أَعْرابٌ، ومَن نَزَلَ بلادَ الرِّيفِ واسْتَوْطَنَ المُدُنَ والقُرى العَربيةَ وغيرها ممّن يَنْتمِي إِلى العَرَب: فهم عَرَب، وإِنْ لم يكونوا فُصَحاءَ. وقول الله a: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)(٦٩) فهؤلاء قوم من بوادي العرب قدموا على النّبيّ e المدينة طمعاً في الصّدقات لا رغبةً في الإسلام فسمّاهم الله تعالى الأَعْرَاب ومثلهم الّذين ذكرهم الله في سورة التّوبة، فقال: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً)(٧٠) الآية. قال الأَزهري: والذي لا يَفْرِقُ بين العَرَبِ والأَعْراب والعَرَبيِّ والأَعْرابيِّ، ربما تَحامَلَ على العَرَب بما يتأَوّله في هذه الآية، وهو لا يميّز بين العَرَبِ والأَعْراب، ولا يجوز أَنْ يقال للمهاجرين والأَنصار أَعْرابٌ، إِنّما هم عَرَبٌ لأَنَّهم اسْتَوطَنُوا القُرَى العَرَبية، وسَكَنُوا المُدُنَ، وسواء منهم النّاشئ بالبَدْوِ ثُمَّ اسْتَوْطَنَ القُرَى والنَّاشِىءُ بمكة ثم هاجر إِلى المدينة، فإِنْ لَحِقَتْ طائفةٌ منهم بأَهل البَدْوِ بعد هجرتهم، واقْتَنَوْا نَعَماً، ورَعَوْا مَسَاقِطَ الغَيْث بعد ما كانوا حاضِرَةً أَو مُهاجِرَةً ، قيل: قد تَعَرَّبوا أَي صاروا أَعْراباً، بعد ما كانوا عَرَباً. وفي الحديث: تَمَثَّل في خُطْبتِه مُهاجِرٌ ليس بِأَعْرابيّ، جعل المُهاجِرَ ضِدَّ الأَعْرابيِّ..)(٧١).
وربّما ادّعى بعض اللّغويين أنَّ الأَعْراب مفرده (الأَعْرابي) وليس (العرب) بملاحظة الفارق المذكور، وهو غير متّجه، إذْ لا استبعاد في حصول الفرق بالتّطور، والأَعْرابي نسبة إلى الأَعْراب وليس مفرده لفظاً كما نسب إلى الصّحابة فقيل (صحابي) والجمع إذا أصبح رمزاً لقوم خاصّين صار بمثابة اسم الجمع وصحّت النّسبة إليه بلفظه كما في (أنصار) و(أنصاري).
(ومنها): بيوتات وأبابيت، وهما فيما قيل جمع (بيوت) و(أبيات) اللّذين هما جمع (بيت).
وقد قيل باختصاص الأوَّلين بالأشراف(٧٢) مع أنَّ مفردهما ومفرده عامّ.
(ومنها): حكّامفي جمع(حاكم)، فإنَّهاترد بمعنىالقضاة بينالنّاس ـفي وجهـ ولكن (حاكم) مطلق مَنْ حَكَمَ بشيء، ويجمع على (حاكمين) بهذا المعنى. قال الله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)(٧٣), وقال تعالى: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)(٧٤).
وربّما وجّه ذلك في كلام بعض اللّغويين بأنَّ الحاكم معنى أخصّ وهو القاضي فيجمع على الحكّام بهذا المعنى. ولا يبعد ذلك، ولكنَّ الغرض من ذكر هذه الأمثلة الاستئناس لأصل الفكرة فحسب.
من أمثلة هذه الحالة..
ولعلّ من أمثلة هذه الحالة هو:
١) عباد وعبيد في جمع (عبد) فإنَّ الأوَّل يطلق على العباد العابدين أو المخلَصين منهم، ويطلق أيضاً على مطلق النّاس بعناية مملوكيتهم لله تعالى فيساوق العبيد.
فالعباد بالإطلاق الأوَّل أخصّ من العبد والعبيد، قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)(٧٥), أو (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ﲺ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً)(٧٦).
ولو قيل مكانه (العبيد) لم يعطِ نفس المعنى كما هو ظاهر، وهذا يدلّ على أنَّ استفادة معنى العبادة لم يكن بمجرّد الإضافة.
ومن العباد بالإطلاق الثّاني ـ وهو الأكثر ــ: (وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)(٧٧), (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٧٨), (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ)(٧٩), (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)(٨٠).
ومن إطلاق العبيد: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)(٨١).
وقد تنبّه إلى هذا الفرق الرّاغب في المفردات فقال: (وجمع العبد الّذي هو مسترق عبيد, وقيل عِبّداً, وجمع العبد الّذي هو العابد عباد, فالعبيد إذا أُضيف إلى الله أعمّ من العباد، ولهذا قال: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فنبّه أنَّه لا يظلم من يختصّ بعبادته ومن انتسب إلى غيره من الّذين تسمّوا بعبد الشّمس وعبد اللّات ونحو ذلك)(٨٢).
ولكن هنا ملاحظتان:
الأُولى: أنَّه لم ينتبه إلى الإطلاق الثّاني لـ (عباد) الّذي يساوق العبيد وبنى عليه تعيّن استعمال (العبيد) في مورد إرادة الأعمّ، بل عليه يتّضح وجه استعمال (عباد) في سائر مواطن استعماله، فإنَّه يكون بعناية تفهيم الدّلالة على العبادة، لكنّه غير تامّ. وعليه فورود (عباد) بمعنى العابدين إنَّما يوجّه اختياره في خصوص مواطن إرادة الدّلالة على العبادة واستعماله في غير ذلك فيستند إلى بعض الأسباب الآتية كجماله اللّفظي, وإنَّما وجه استعمال العبيد في الآية ونحوها فهو مراعاة السّجع.
والأخرى: أنَّه جعل للعباد المتضمّن لمعنى العبادة مفرداً, ولو تمّ هذا لخرج عن هذا السّبب واندرج في السّبب الرّابع الآتي، لأنَّه يتعدّد مفرد الجمعين بالدقّة معنىً, وإنَّما البحث في وجه استعمال جموع متعدّدة مع وحدة مفردها بحسب المعنى، ولكني لا أحسّ بوجود هذا المعنى لمفرده(٨٣).وقد يؤيّد ذلك قوله تعالى: (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ)(٨٤), فإنَّ جملة (مِنْ عِبَادِنَا) مستغنى عنها لو استفيد معنى العبادة من المثنّى (عَبْدَيْنِ) لإمكان أنْ يقول (عبدين لنا) كما في قوله: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)(٨٥)، إلّا أنْ يدّعى ثقل هذا التّركيب مع التّثنية والمفرد ونظير الآية قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)(٨٦).
فإنْ قيل: إنَّه إذا أُريد بقوله (من عبادنا) تمثيل صفة العبادة استغنى عن قوله: (صالِحَيْن)(٨٧).
قيل: إنَّ الشّهادة بالصّلاح من الله تعالى أرفع من مجرّد العبادة ولذا تكرّر توصيف الأنبياء به أو ذكر مسألتهم الله تعالى أنْ يجعلهم من الصّالحين، قال تعالى عن يحيى: (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ)(٨٨), وعن عيسى: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ)(٨٩). وقال عن جملة من أنبيائه: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ)(٩٠). وعن يوسف: (أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(٩١). وعن إبراهيم: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(٩٢). وعن يونس: (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٩٣). وعن إسحاق: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ)(٩٤). وعن سليمان: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)(٩٥). وقال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)(٩٦) إلى غيرها من الآيات(٩٧).
٢) اختيار (شداد) على (أشدّاء) في مقام التّعبير عن الشّدّة الطّبيعيّة، فإنَّ الّذي أراه بحسب الوجدان اللّغوي أنَّ (أشدّاء) يختصّ بالشّدّة المتعمّدة كشدّة الإنسان المؤمن على الكافر ولا يطلق على الشّدّة الطّبيعيّة، فلا يقال (سنة شديدة وسنين أشدّاء)، أو (سواد شديد) و(ألوان أشدّاء)، أو (كلمات أشدّاء). وشداد يعمّ الأمرين قال تعالى: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ)(٩٨), و(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً)(٩٩) و(مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ)(١٠٠) وقال: (مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)(١٠١). ولم نجد من نبّه على هذا الفرق من اللّغويين.
٣) اختيار (إخوة) على (إخوان) في مقام التّعبير عن الإخوّة النَسبيّة حيث اعترف اللّغويون ـ كماسيأتي فيالسّبب الخامس ـ بأنَّهلم يُستعملفي مقامالتّعبير عنعلاقة الصّداقة ونحوها. ويساعد على ذلك تتبّع الاستعمالات، ولا شكّ أنَّ الالتزام بعدم الاستعمال ينعكس على اللّفظ فيوجب نحو اختصاص دلاليّ له بذلك وإنْ كان يظهر من بعض كلمات اللّغويين ادّعاء أنَّه مجرّد عدم استعمال.
فإنْ قيل: إنَّ معنى الإخوّة حقيقة ليس إلّا الإخوّة النّسبيّة فإطلاقها في سائر العلائق الحميمة مجاز وتنزيل، ولا فرق في ذلك بين (إخوان) و(إخوة)، ومعه يتعيّن أنْ يكون عدم استعمال (إخوة) في التّعبير عن سائر العلائق مجرّد التزام خارجي لا يرتبط بمدلول اللّفظ.
قلنا: فيه نظر، بل قد يكون استعمال (إخوان) في سائر العلائق قد صار حقيقة بالتّطوّرفصار معناهأعمّ منالإخوّة الحقيقيّةوالتّنزيليّة, ولذلك كان قوله:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)(١٠٢) أبلَغ دلالة على عمق علاقة الإيمان وكونها بمثابة علاقة الإخوّة، ولو قيل (إخوان) لم يدلّ على ذلك. (لاحظ ما يأتي في السّبب الخامس).
٤) اختيار نفوس وأنفس في جمع (نفس)، فإنَّ النّفس تستعمل تارة: لمجرّد الدّلالة على الذّات كقولك (أعلم ما في نفسك). وأُخرى: في مقام التّركيز عليه كقولك (جاء زيد نفسه إلى البيت).
وقد أشار إلى هذا الفرق بعض اللّغويين ففي اللّسان: (قال أبو إسحاق: النَّفْس في كلام العرب يجري على ضربين: أَحدهما: قولك خَرَجَتْ نَفْس فلان أَي رُوحُه، وفي نفس فلان أَنْ يفعل كذا وكذا، أَي في رُوعِه، والضَّرْب الآخر: مَعْنى النَّفْس فيه مَعْنى جُمْلَةِ الشّيء وحقيقته، تقول: قتَل فلانٌ نَفْسَه وأَهلك نفسه، أَي أَوْقَعَ الإِهْلاك بذاته كلِّها وحقيقتِه)(١٠٣).
وقد يقال: إنّ هذين ليسا معنيين مستقلين لها فتكون الكلمة مشتركة بينهما اشتراكاً لفظيّاً، بل معناه هو الذّات دائماً، ولكن قد تستعمل في مقام التّركيز عليه كسائر الألفاظ المستعملة في التّوكيد اللّفظي المذكورة في باب التّأكيد ـ في علم العربية ـ كـ(عين, وكلّ, وجميع, وعامّة..).
وأمَّا(نفوس) و(أنفس) فالّذي أراه ـ بحسب الوجدان اللّغوي ـ أنَّ (النّفوس) تستعمل في مقام التّعبيرعن مجرّدالذّات فلايصحّ أنْيقال:
(جاءالقوم نفوسهم)بل يقال (أنفسهم).
وأمَّا (أنفس) فهي تستعمل في كلا المقامين: الدّلالة على الذّات والتّركيز عليه.
وعليه فيتعيّن اختيار (أنْفس) على (نفوس) في مقام إرادة التّركيز على الذّات بصيغة الجمع.
نعم، صرّح بخلاف ما ذكرناه أبو إسحاق (المازني) في آخر كلامه السّابق حيث قال: (والجمع من كلّ ذلك: أنفس ونفوس). ولكن لا يبعد أنَّه جرى على القاعدة في مساوقة معنى الجمع لمعنى المفرد.
ويؤيّد ما ذكرنا أنَّ النّحاة في ذكر ألفاظ التّوكيد اللّفظي في باب التّوابع لم يذكروا إلّا (أنفس) رغم أنَّه يظهر منهم كونهم في مقام حصر تلك الألفاظ.
قال ابن الحاجب في الكافية (و ـ التّوكيد ـ المعنوي بألفاظ محصورة وهي نفسه وعينه وكلاهما وكلّه وأجمع وأكتع وأبتع وأبصع فالأوَّلان يعمّان باختلاف صيغتهما وضميرهما تقول: نفسه ونفسها وأنفسهما وأنفسهم وأنفسهن).
ولم يستدرك عليه الرّضي في شرحها(١٠٤).
وقال ابن مالك في الألفيّة:
بالنفس أو بالعين الاسم أكدّا مـع ضمـير طــابـق الـمــؤكّـــدا
واجــمــعهـمـا بأفـعــل إنْ تـبـعـا ما ليس واحداً تكـن متـبـعا(١٠٥)
وإنْ كان هذا الحصر غير صحيح بالنسبة إلى (عين) فإنَّه يجمع بمعنى نفس الشّيء على أعيان قطعاً، بل أنكر بعض اللّغويين جمعه على عيون وأعين بالمعنى المذكور ففي اللّسان: (وعَيْنُ الشّيء: نفسه وشخصه وأَصله، والجمع أَعْيانٌ... ويقال: هو هو عَيناً، وهو هو بِعَيْنِه، وهذه أَعْيانُ دراهمِك ودراهِمُك بأَعْيانِها، عن اللّحياني، ولا يقال فيها أَعْيُنٌ ولا عيُون. ويقال: لا أَقبل إِلا درهمي بعَيْنِه، وهؤلاء إِخوتك بأَعيانهم، ولا يقال فيه بأَعينهم ولا عُيونهم)(١٠٦).
ولكنْ فيما ذكره من عدم استعمال (أعين) بهذا المعنى نظر. نعم، الظّاهر عدم جمعه على عيون.
ويؤكد ما ذكرناه تتبع الاستعمالات اللّغوية لكلمتي (نفوس) و(أنفس) في القرآن الكريم ونهج البلاغة وغيرهما.
١. فالنّفوس إنَّما استعملت في مقام التّعبير عن الذّات من غير تركيز، قال تعالى: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)(١٠٧) و (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ)(١٠٨)، ولم تستعمل في القرآن في غير هاتين الآيتين، وفي نهج البلاغة استعملت في خمسة عشر موضعاً كلّها في ذاك المعنى: (ونستعينه على هذه النفوس البطاء عمّا أمرت به)(١٠٩)، (أيّها النّفوس المختلفة والقلوب المتشتّتة)(١١٠)، (شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ)(١١١)، (فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ)(١١٢)، ومن ذلك أيضاً: (فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها)(١١٣).
٢. والأنفس استعمل على وجهين:
أ. فتارة في مورد التّعبير عن الذّات من غير تركيز عليه كالنفوس، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ)(١١٤), (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ)(١١٥)، (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ)(١١٦), (أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَّسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَّفْسِهِ)(١١٧)، (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)(١١٨), (لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً)(١١٩) إلى غير ذلك.
ب. وأخرى في مورد التّعبير عن الذّات مع التّركيز عليها وهو الغالب، كقوله: (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١٢٠)، وغيره (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا)(١٢١)، و(قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)(١٢٢)، (وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ)(١٢٣).
هذا، ولكنَّ الأظهر أنَّ مفرد (نفوس) و(أنفس) مختلف بحسب المعنى؛ لأنَّ نفس ليس بمعنى الذّات بل يرد (تارة): بمعنى (روح) فيقال (خرجت نفسه)، إذْ لا معنى لأنْ يقال: (خرج ذاته). (وأخرى): بمعنى ذات الشّيء، والتّركيز خارج عن مدلوله اللّفظي وإنَّما يستفاد باقتضاء المقام كما في غيره من ألفاظ التّأكيد كـ(كلا) و(كلتا) كما أشار إليه بعض اللّغويين في كلامه المتقدّم. وعليه فيندرج في السّبب الرّابع الآتي من اختلاف الجمعين في معنى المفرد (بالدّقة).
السّبب الثّالث: اختلاف الجمعين في الدّلالة على مراتب الجمع، بكون أحدهما جمع قلّة والآخر جمع كثرة.
بناءً على القاعدة النّحويّة المعروفة(١٢٤) في تقسيم الجموع إلى أقسام ثلاثة: قلَّة وكثرة ومشترك بينهما، فجمع القلّة ما يدل على إرادة الثّلاثة إلى العشرة، وجمع الكثرة ما يدلّ على إرادة العشرة فما فوق، والمشترك بينهما ما يدلّ على إرادة الثّلاثة فما فوق.
وقد عُدّ الجمع السّالم مشتركاً بين القسمين، وقُسّمت جموع التّكسير إلى قسمين: قلّة وكثرة.
وذُكر أنَّ جمع القلّة هو أربعة أوزان، وهي: وزن (أفعْال) و(أفعلة) و(أفْعُل) و(فِعْلة)، وما عداها فجموع الكثرة, وقد يستعمل أحدهما مكان الآخر تجوّزاً.
وجموع القلّة في الأمثلة السّابقة (آلاف) و(إخوة) و(أسورة) و(أشهاد) و(أشهر) و(أشياع) و(أموات) و(أنصاب) و(أنعم) و(أنفس) فهي تمثّل أحد الجمعين في عشرة من الأمثلة العشرين السّابقة، والباقي هي جموع كثرة. كما أنَّ كلمة (أبرار) و(أنعام) ممّا ذكره السّائل جمع قلّة، والباقي كـ(بررة) و(شهداء) جمع كثرة.
فعلى هذه القاعدة: قد يبرر اختيار بعض جموع الكلمة على بعض في الأمثلة العشرة بالفارق المعنوي بينها فإنْ كان معنى الجمع مراداً ـ بأنْ أُريد القلّة بجمع القلّة والكثرة بجمع الكثرة ـ فتكون نكتة اختيار بعضها المعيّن لغويّة, وإنْ لم يرد معنى الجمع ـ بأنْ استُعمل جمع القلّة في موضع إرادة الكثرة أو العكس ـ كانت نكتة هذا الاختيار نكتة بلاغيّة حيث يكون هذا الاستعمال مجازياً، والمجاز يزيد الكلام رونقاً وجمالاً.
ويُلاحَظ أنَّ هذا هو الفارق الوحيد الّذي اطلعنا عليه بين معاني الجموع في كلمات علماء اللّغة وإنْ كان هناك جمعٌ منهم ينكرون ظاهرة التّرادف في لغة واحدة ممّا يقتضي تفريقهم بين الجموع المتعدّدة لمفردٍ واحد ـ فيما لم تختلف في القلّة والكثرة ـ لأنَّ إنكارهم لها يشمل الهيئات العامّة كما يشمل الموادّ، بل الهيئات أوْلى بذلك وفق انطباعهم من كون وضع عدّة ألفاظ لمعنى مخالفاً للحكمة؛ لأنَّها تولّد كلمات مترادفة كثيرة، إلّا أنَّا لم نعثر على تفسير لهم للفرق بين مثل هذه الجموع بما لاحظناه من كتبهم, ككتاب الفروق لأبي هلال العسكري، وكذا بما اطلعنا عليه في مطاوي الكتب اللّغويّة, ولعلّ الباحث يجد بعض ما يُشير إلى ذلك بالتّتبع الزّائد إنْ لم يكونوا قد غفلوا عن هذه النّاحية من ظاهرة التّرادف الّتي هي من أهم نواحيها.
ولكن في أصل تماميّة تلك القاعدة، ثُمَّ في صلاحيتها لتفسير هذه الظّاهرة من النّاحية اللّغويّة والبلاغيّة نظر ومناقشة.
إنكار انقسام الجمع إلى قلّة وكثرة.
النّاحية الأُولى ـ وهي فيما يتعلّق بأصل القاعدة ـ : الصّحيح أنَّ أوزان الجموع جميعاً إنَّما تعبّر عن معنى الاجتماع أو الاجتماع الثّلاثي فما فوق(١٢٥) فحسب، ولا دلالة لشيءٍ منها على التّحديد المذكور على ما يقضي به الوجدان اللّغوي، إذْ لا ينساق من شيءٍ منها مفهوم العشرة كي تدلّ على كونها نهاية للجمع أو بداية له كما هو ظاهر.
ولذلك لا نجد في إطلاق ما يسمّى بجمع القلّة على أكثر من عشرة، أو ما يسمّى بجمع الكثرة على أقلّ منها أيّة عناية، مع أنَّ إطلاق الكلمة على غير معناها بحاجة إلى عناية محسوسة،من قبيلإطلاق الشّمسعلى الوجهالحسن، أوالأسد على الرّجل الشّجاع وغير ذلك.
ويؤكد ذلك أمور:
الأمر الأوَّل: إنَّه لو صحّ ذلك لم يجز استعمال جمع القلّة في أكثر من عشرة، ولا جمع الكثرة في أقلّ منها ـ ولو تجوّزاً ــ، مع أنَّه لا شكّ في صحّة استعمالهما كذلك، كما هو واقع بكثرة في الاستعمالات القرآنية وغيرها، وقد اعترف به النّحاة صريحاً.
والوجه في ذلك: أنَّ صحّة التّجوّز مبني على وجود علاقة مصحّحة للمجاز، وليس هناك شيء من العلائق المذكورة في علم البلاغة في المورد, مع عدم صحّة أكثرها
في نفسها.
ولذلك تجد أنَّه لا يصحّ إطلاق بعض الأعداد وإرادة عدد آخر لغةً بأنْ تقول (جاء عشرة) وأنت تريد (ألفاً) أو تريد (ثلاثة)، ومن المعلوم أنَّ استعمال جموع القلّة والكثرة بعضها مكان بعض من قبيل استعمال بعض الأعداد مكان بعض، لأنَّها على القاعدة المذكورة تستبطن التّحديد بعدد معيّن.
الأمر الثّاني: على تقدير صحّة هذا التّجوز ـ بوجود العلاقة المصحّحة ـ فلا تفسير له من النّاحية البلاغيّة؛ لأنَّ هذا التّجوّز ممّا لا يتضمّن خيالاً وإثارة، ولا يزيد الكلام رونقاً وبهاءً حسب شهادة الذّوق الأدبيّ. ومن المعلوم أنَّه لا بُدَّ في حسن استعمال المجاز من قبل الحكيم من وجود مصحّح بلاغيّ موجب لاختياره على الحقيقة ـ مضافاً إلى المصحّح اللّغويّ(١٢٦) ــ، لأنَّ العدول عن التّعبير الحقيقي وإنْ كان يصحّ لغةً من دون نكتةٍ بعد وجود العلاقة، إلّا أنَّه ربّما كان مقتضى البلاغة اختيار التّعبير الصّريح في أداء المعنى ما لم يوجد دافع لاستعمال التّعبير المجازيّ.
الأمر الثّالث: إنَّه لو كان الأمر كذلك لكان المناسب أنْ توضع في اللّغة صيغتان، لكلّ مفرد صيغة قلّة وصيغة كثرة للحاجة الاستعماليّة الماسّة إلى التّعبير عن معنى الجمع بلفظٍ في جميع مراتبه في كلّ مادّة من الموّاد، لكن الّذي تقضي به ملاحظة مفردات هيئات الجموع ـ الّتي ذكرت في علم الصّرف ـ عدم وضع جمعين مطّردين لكلّ هيئة، بل لغالب الهيئات جمع واحد: إمَّا قلّة، أو كثرة(١٢٧).
ولذلك ادّعى النّحاة أنَّه قد يستغنى بوضع أحد الجمعين في بعض المفردات عن وضع الآخر, ولكن ليس هناك من داعٍ إلى وضع اللّفظ لمعنىً محدود مع ضرورة إهمال الحدّ في مرحلة الاستعمال باستعماله في غير موضع تواجد الحدّ, بل هذا تكلّف لا يليق ولا يقع عادة في اللّغة ـ الّتي هي ظاهرة من الظّواهر الطّبيعيّة للتجمّع البشري ـ.
الأمر الرّابع: إنَّا لا نجد أي تقيّد في استعمالات جموع التّكسير في اللّغة ـ بما لا نشهد مثله في أي استعمال مجازي آخر ـ بمعنى أنَّه يستعمل كلّ منهما في مكان الآخر مع توفّره من غير علّة ظاهرة.
ويكفي مثلاً على ذلك: أنَّك لو لاحظت الأمثلة التّسعة المتعلّقة بهذه الظّاهرة الّتي كان أحد جمْعَيها جمع قلّة، والآخر جمع كثرة، وجدتَ أنَّ انتخاب أحد الجمعين على الآخر، أو على سائر جموع الكلمة إنَّما يدور مدار مزيّة لفظيّة أو معنويّة من غير اكتراث بكون الجمع قلّةأو كثرة(١٢٨)، وهذا أمريُدرك بالذّوقال أدبيّ إجمالاًويتضح تفصيله بعض الشّيء منخلال الأسباب الآتية. وكذا الحال فيسائر تلكالأمثلة بالنّسبة إلى جموع القلّة لمفرداتها الّتي لم تستعمل في القرآن الكريم, بل وكذا سائر الأمثلة الّتي لم يستعمل لها في القرآن إلّا جمعٌ واحدٌ إمَّا قلّة أو كثرة ولعلّها تنوف على مائة لفظة, وهذا الأمر بحاجة إلى وضع جداول للمفردات وجموعها في القرآن كي يتسنّى للباحث مطالعة استعمالاتها،إلّا أنَّالوقت لايتّسع لذلك.على أنَّيلا أظنّحاجة إلىذلك في إبطال هذه الفكرة.
هذا، وقد بلغ من شيوع استعمال أحد الجمعين مكان الآخر أنْ اعترف به النّحاة والصرفيون رغم أنَّه ليس من عادتهم التّعرّض للاستعمالات المجازيّة.
الأمر الخامس: لو قيل: إنَّه لو فرض انقسام الجمع في اللّغة إلى قسمين ابتداءً إلّا أنَّها أصبحت للقلّة والكثرة جميعاً بالتطوّر الحاصل بالاستعمالات الهائلة لم يكن ذلك غلوّاً ومجازفةً, بل مثل هذا الانقسام ممّا يستحيل عادةً أنْ يبقى ظاهرة دائمة في اللّغة بعد أنْ لم يكن يوافق حاجةً استعماليةً كما لم نشهد مثله في شيءٍ من اللّغات الأخرى.
الأمر السّادس: اختلافهم في حدّ الجمع في كلٍّ من القسمين وكذا في مصاديقهما اختلافاً معتدّاً به من غير حسمٍ للنزاع بحجّة، إلّا ما يدلّ على فساد أصل المبنى ككلّ.
أمَّا من جهة حدّ الجمع فالمعروف بين النّحاة أنَّ جمع الكثرة يبتدئ بالعشرة، وربّما سمّي بهذا الاعتبار بجمع الكثرة، ولكن عن السّعد التّفتازاني أنَّه يبتدئ من ثلاثة(١٢٩) فيكون الفرق بينهما من ناحية النّهاية فقط, ولعلّ قوله هذا يوافق كلمات الأصوليين الّذين بحثوا في أنَّ أقلّ الجمع اثنان أو ثلاثة من غير تفريق بين الجموع في ذلك.
وأمَّا من جهة مصاديق القسمين فالمعروف ـ كما تقدّم ـ انحصار جمع القلّة في أربعة أوزانمن جموعالتّكسير, ولكنْأضاف بعضهمالجمع السّالمفقال إنَّهمن قبيلجمع القلّة(١٣٠).
وأنكر الزّجّاج ذلك محتجّاً بمثل قوله تعالى: (وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)(١٣١), وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)(١٣٢).
لكنَّه قال: إنَّ القليل أغلب عليه لشبهه بالتّثنية(١٣٣)، إلّا أنَّ مثل هذه الحجّة قائمة في جموع التّكسير، بل لا يحرز فيها غلبة استعمالها في القليل الّذي اعترف به في الجمع السّالم.
وأضاف آخرون عدّة أوزان أخرى من جموع التّكسير وهي (فُعَل) كـ (سُرَر) و(فَعَلة) كـ (بَرَرة) و(أفعلاء) كـ (أصدقاء) و(فِعَل) كـ (نِحَل) وبذلك يكون المجموع مع جمعي السّالم عشرة.
فما هو المقياس في تشخيص حقّ هذه الأقوال وباطلها!
الأمر السّابع: إنَّ لازم ما ذكروه أنْ يكون هناك جموع لا تطلق على أقلّ من ثلاثين أو مائة، وذلك فيما إذا جمع كثرة على جمع قلّة أو مشترك بين القلّة والكثرة كـ (بيوت) على (بيوتات) فإنَّ مفرده لا يطلق على أقلّ من عشرة، وحيث إنَّ أقلّ الجمع على المعروف ثلاثة فيكون أقلّ الجمع ثلاثين، وإذا جُمع جمع الكثرة على جمع كثرة كان أقلّه مائة؛ لأنَّ أقل ما يطلق عليه مفرده عشرة، كما أنَّ العدد الّذي يقتضيه هو عشرة وضرب عشرة في مثلها يساوق مائة، وهذا ظاهر الفساد بحسب أي وجدان لغويّ.
لكن قاعدة (جمع الجمع) عندنا غير تامّة في نفسها(١٣٤).
فظهر بذلك: أنَّ الصّحيح اشتراك جميع الجموع بين القلّة والكثرة.
ويلاحظ أنّالم نطّلعإلّا علىأمرين ممّايمكن أنْيكون منشألقول النّحاةبهذا التّقييم:
(الأوَّل): تناسب بعض الجموع للدلالة على القلّة، كوزن (أفعلة)، أو الكثرة كوزن (أفاعل) ـ كما يأتي مثال ذلك في السّبب الخامس ـ لكن مجرّد التّناسب لا يوجب اختلاف المعنى اللّغوي ـ كما سيأتي ـ بل يكون استعمال كلٍّ فيما هو أنسب ضرباً من الجمال المعنوي للكلام فحسب.
(والآخر): قضيّة تنقل عن الخنساء تتضمّن اعتبارها الجمع المؤنّث السّالم وبعض جموع التّكسير جموع قلّة، ففيها أنَّها قالت لحسّان ـ في قصّة محكيّة ــ (ما أجود بيت في قصيدتك الّتي عرضتها آنفاً؟
قال: قولي:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى وأسـيـافـنـا يقـطــرن مـن نـجـدة دمـا
فقالت: ضَعَّفتَ افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع في بيتك هذا.
قال: وكيف؟
قالت:
١. قلتَ (الجفنات) والجفنات ما دون العشر، ولو قلتَ (الجفان) لكان أكثر.
٢. وقلتَ (الغرّ) و(الغرّة) بياض يكون في الجبهة، ولو قلتَ (البيض) لكان أكثر اتّساعاً.
٣. وقلتَ (يلمعن) واللّمع شيء يأتي بعد شيء مضى، ولو قلتَ (يشرقن) لكان أكثر؛ لأنَّ الإشراق أدوم من اللّمعان.
٤. وقلتَ (بالضّحى)، ولو قلتَ (بالدّجى) لكان أكثر إشراقاً.
٥. وقلتَ (وأسيافنا) والأسياف ما دون العشر، ولو قلتَ (سيوفنا) كان أكثر.
٦. وقلتَ (يقطرن)، ولو قلتَ (يسلن) كان أكثر.
٧. وقلتَ (من نجدة)، والنّجدة باللام أكثر.
٨. وقلتَ (دماً)، والدماء أكثر من الدم. فلم يحر جواباً)(١٣٥).
ولكن الظّاهر أنَّ الخبر من وَضْعِ بعض الأدباء المولعين بمثل هذه الحكايات الأدبيّة كما نقل عن الزّجّاج(١٣٦) إنكاره له قائلاً إنَّه موضوع, ومضمونه كافٍ في الحكم بوضعه ، لضعف الانتقادات المذكورة، بلوضوح ضعف بعضها جدّاًبما يطول توضيحه،
ولو لم يكنفيها إلّاإثبات كونالجمع المؤنث السّالم وصيغة(أسياف) جمع كثرة لكفى بعد مخالفته للوجدان اللّغويّ.
عدم جدوى التّقسيم المذكور لتفسير هذه الظّاهرة.
(النّاحية الأخرى): عدم جدوى التّقسيم المذكور في حلّ هذه الظّاهرة، لا في حالة استعمال جمع القلّة في القلّة والكثرة في الكثرة كنكتةٍ لغويّة، ولا في حالة العكس كنكتةٍ بلاغيّةٍ.
أمَّا في الحالة الثّانية فلِما تقدَّم من أنَّ هذا المجاز لا يوجب زيادة الكلام رونقاً وجمالاً من النّاحية المعنويّة ليصح تفسيراً لاختياره على الحقيقة، فيكون استعماله بنفسه بحاجة إلى تفسير بلاغيّ, أو أنَّه يزيد الحاجة إلى ذلك.
وأمَّا في الحالة الأُولى فلأنَّ استعمال جمع القلّة في موضع جمع الكثرة وبالعكس إذا كان مجازاً يزيد رونق الكلام كما فرض في توجيه الحالة الثّانية فيتّجه السّؤال عن سّر عدم اختياره في موارد استعمال كلّ ِقسم في موضعه ليزداد الكلام بلاغةً وبهاءً، فلا بُدَّ هناك من تفسير للتفكيك بين الموارد في استعمال هذا المجاز وعدمه.
فظهر بذلك كلّه: عدم صلاح تقسيم الجمع إلى قلّة وكثرة في تفسير هذه الظّاهرة.
السّبب الرّابع: اختلاف معنى الجمعين من جهة اختلاف معنى مفردهما بالدّقة.
فإنَّه قد يكون لمفردٍ ما معنيان يجمع كليهما على وزنٍ، ويختصّ أحدهما بوزن آخر، فيتعيّن استعمال الوزن الأوَّلفي التّعبيرعن المعنى الّذي يختصّجمعه به،فيجمع كل واحد بهيئة غير ما يجمع عليه الآخر، مثل جمع (عين) بمعنى الباصرة على (أعين)، ويجمع على (عيون) بكل من معنييها (العين الباصرة والجارية).
ومن أمثلة ذلك:
١) كلمة (كافر) حيث تطلق على الكافر في مقابل المؤمن، وعلى الزّرّاع، ويُجمع بكلا المعنيين على الكفّار، ولكنْ لم يأتِ جمعه بمعنى الزّرّاع على (كفرة)، فيختصّ به المعنى الأوَّل فمتى أُريد التّعبير عن جمع الزّرّاع تعيّن استعمال الكفّار، كما في قوله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً)(١٣٧), وهذا على أحد الاحتمالين قال الرّاغب: (قيل: عنى بالكفّار الزّرّاع؛ لأنَّهم يغطّون البذر في التّراب. ستر الكفّار حقّ الله تعالى بدلالة قوله (يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفّار) ولأنَّ الكافر لا اختصاص له بذلك. وقيل: بل عنى الكفّار، وخصّهم بكونهم معجبين بالدّنيا وزخارفها وراكنين إليها)(١٣٨).
والاحتمال الأوَّل أظهر، فإنَّه لا تناسب في تلك الآية لإرادة الكفّار في مقابل المؤمنين كما يشهد لذلك ما في الآية الثّانية (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ)(١٣٩), وإنْ كان الاجتناب عن التّعبير بالكفّار فيها أمكن أنْ يكون كراهة له بعد وقوع التّعبير في الآية بالكفّار مرّتين بما يقابل المؤمنين وإنْ عدّ مثل ذلك في علم البديع من المحسنات البديعيّة وسُمّي طباقاً، إلّا أنَّ حسنه في كلّ حالٍ غير واضح.
وقد ورد الكفّار في اللّغة بمعنى الزّرّاع ففي اللّسان: (وكل من ستر شيئاً، فقد كَفَرَه وكَفَّره. والكافر الزّرَّاعُ لستره البذرَ بالتراب. والكُفَّارُ: الزُّرَّاعُ. وتقول العرب للزَّرَّاعِ:
كافر؛ لأَنَّه يَكْفُر البَذْر المَبْذورَ بتراب الأَرض المُثارة إِذا أَمَرّ عليها مالَقَه)(١٤٠).
نعم، لو لم يرد إطلاق الكافر والكفّار على الزّرّاع لغةً وإنَّما كان مجرّد تخريج على معناه العامّ (أي السّتر والتّغطية) ربّما رجح الاحتمال الثّاني، وكأنَّ هذا الاحتمال (الثّاني) نشأ عن الأُنس الشديد للغويّين والمفسّرين بالمفاهيم الدّينيّة حتّى بالغوا في تفسير الألفاظ بها ولو أُريدت بها معانٍ لغويّة أخرى.
٢) نفوسوأنفس فيجمع (نفس)،بناءً علىما مضىفي السّببالأوَّل منأنَّ النّفس بمعنى الذّات يجمع على (أنفس)، وبمعنى الرّوح يجمع على (النّفوس) و(الأنفس)(١٤١). وقد مضى توضيح شواهد ذلك هناك. وعليه فيتعيّن استعمال (الأنفس) في التّعبير عن الذّات. وما ذكره بعض اللّغوييّن من استعمال النّفوس جمعاً لنفس بمعنى الذّات لا شاهد عليه كما مّر.
وإنَّما يتّجه اندراجه في السّبب الأوَّل بناءً على أنَّ مفرده ذو معنىً واحد: إمَّا بمعنى الرّوح كما قد يستفاد من كلام الرّاغب(١٤٢) حيث لم يذكر غيره، وإنْ لم يمثّل له بما يناسب الذّات. أو بناءً على أنَّه بمعنى الذّات مطلقاً. وكلاهما باطل كما يظهر ممّا مرّ.
٣) عباد وعبيد في جمع (عبد)، بناءً على ما مرّ عن الرّاغب في السّبب الأوَّل من كون مفرد الأوَّل العبد العابد، وفي الثّاني العبد بمعنى مطلق المملوك إذا ضمّ إلى ما ذكرناه من مجيئ العباد جمعاً للعبد بمعنى مطلق المملوك، فإذا أُريد التّعبير عن العباد العابدون جمعاً تعيّن التّعبير بالعباد، وقد سبق ما يتعلّق بذلك.
٤) أشياع وشِيَع جمعاً لـ (شيعة) فإنَّه يظهر من بعض اللّغويين كونهما بمعنى واحد, قال الرّاغب: (والشيعة من يتقوّى بهم الإنسان وينتشرون عنه، ومنه قيل للشجاع مشيع، يقال (شيعة وشيع وأشياع)(١٤٣). ثمّ ساق الآيات الّتي تضمنت استعمال الجمعين.
ولكن قد يقال بالفرق بينهما على ضوء كلمات بعض اللّغويين ولو في الاستعمال القرآني، فإنَّ (شِيَع) لم يرد فيها إلّا بمعنى الفِرَق جمعاً للشيعة بمعنى الفرقة، وذلك في آيات خمسة يشهد سياقها بذلك، أو يتعيّن ذلك فيها لا محالة، وهي: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)(١٤٤), (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(١٤٥), (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ)(١٤٦)، (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(١٤٧)، وكذا في (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ)(١٤٨)، فإنَّ إرادة الأنصار ونحوه بعيد فيه، وإنَّما الأقرب أنْ يراد (فرق الأوَّلين).
وأمَّا الأشياع فقد استعمل في موردين يناسب إرادة الأمثال كما فُسِّر به في كلمات المفسرين واللغويين(١٤٩)، وهما: (وَلَـقَـدْ أَهْـلَكـْنَا أَشْـيـَاعَـكُـمْ فَـهَـلْ مِنْ مُـدَّكِـرٍ)(١٥٠)، (وَحِـيـلَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ)(١٥١)، وإرادة الأنصار فيها بعيد(١٥٢)، بل الظّاهر أنَّه جمع (شيع) بمعنى المثل ففي اللّسان: (يقال: هذا شَيْعُ هذا. أَي مِثْله)(١٥٣)، أو جمع شيعة بمعنى (قوم يَرَوْنَ رأْيَ غيرهم) كما عدّه في معانيها(١٥٤).
نعم، ذكر اللّغويون أنَّ (شيع وأشياع) يأتي جمعاً لـ(شيعة)(١٥٥) معاً بمعنى الأنصار، ولكنَّه غير مراد، ولم يذكروا مجيء أشياع بمعنى الفِرَق، ولا الشيع بمعنى الأمثال، فلاحظ(١٥٦).
٥) ويلحق بذلك صيغتا (أبرار) و(بررة) بناءً على تعليل ذكره الرّاغب،
فإنَّ مفرد اللّفظين وإنْ كان مختلفاً ـ كما مرّ ـ فيخرج بذلك عن هذه الظّاهرة، إلَّا أنَّه ناسب التّعرض لهما من جهة ذكرهما في كلام السّائل.
ويلاحظ: أنَّ صيغتي (بررة) وردت في مورد واحد وهو قوله تعالى في وصف الملائكة:
(كِرَامٍ بَرَرَةٍ)(١٥٧)،وكلمة (أبرار)وردت وصفاًللناس المؤمنينفي ستةمواضع:
١. (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)(١٥٨).
٢. (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ)(١٥٩).
٣. (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا)(١٦٠).
٤. (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(١٦١).
٥. (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)(١٦٢).
٦. (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)(١٦٣).
والسّبب الأقرب في هذه التّفرقة عندي هو أنَّ كلمة (أبرار) أجمل من كلمة (بررة) ذاتاً فاختيرت عليها إلَّا في تلك الآية مراعاة فيها للسجع، أو الموازنة(١٦٤).
كما يأتي نظيره في السّبب السّادس من الأسباب الآتية: وقد أكّد اختيار (أبرار) في الآيتين الأوليتين تحقيقه فيهما للسجع والموازنة(١٦٥) أيضاً.
ولكنْ علّل هذه التّفرقة الرّاغب الأصفهاني بما يشبه السّبب المذكور، فقال: (وجمع البارّ أبرار وبررة، قال تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) وقال: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)، وقال في صفة الملائكة: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ) فبَرَرَة خصّ بها الملائكة في القرآن من حيث إنَّه أبلغ من (أبرار) فإنَّه جمع (برّ)، و(أبرار) جمع (بارّ)، و(برّ) أبلغ من (بارّ)، كما أنَّ عدلاً أبلغ من عادل)(١٦٦).
وقد تبعه على ذلك الفيروز آبادي صاحب القاموس في كتابه البصائر على ما نقله فيتاج العروس(١٦٧)حيث حكىعنه أنَّهقال: (وخُصَّالمَلائِكَةُ بالبَرَرَةِ،من حيثُإنَّه أبلغُ من الأبرار...) إلى آخر عبارة الرّاغب، ولم يعلّق الزبيدي على ذلك.
وهذا التّعليل يبتني على دعائم أربعة، لا يتمّ شيء منها:
الأُولى: دعامة قرآنيّة، وهي تخصيص الملائكة في القرآن بلفظ (بَرَرَة)، والنّاس بلفظ (الأبرار).
الثّانية: دعامة لغويّة، وهي كون (برّ) أبلغ من (بارّ) بحسب المعنى.
الثّالثة: دعامة صرفيّة، وهي كون (بَرَرَة) جمع (برّ) و(أبرار) جمع (بار).
الرابعة: دعامة بلاغيّة، وهي أنَّ مقتضى البلاغة التّعبير عن الملائكة بـ (البَرَرَة) وعن النّاس بـ (الأبرار) لفضيلة الملائكة على النّاس.
أمَّا الدّعامة الأُولى (القرآنية) ـ وهي تخصيص كلٌّ من النّاس والملائكة بلفظ ـ فهي لو تمّت لاقتضت ضرورة وجود نكتة معنويّة مستدعية للتفريق بين الصّنفين في التّعبير، كما مرّ ذلك في البحث عن السّبب الأوَّل، وهذا بدوره يقوّي احتمال مراعاة النّكتة المعنويّة الّتي ذكرت كدعامة بلاغيّة.
ولكنَّ الصّحيح عدم تماميّة ذلك لعدّة جهات:
الجهة الأُولى: إنَّ بالإمكان أنْ يكون التّعبير بـ (البَرَرَة) في المورد المذكور لا من جهة وقوعه وصفاً للملائكة، بل مراعاة لمزيّة لفظيّة وهي تماثل الآية مع طرفيها على نحو السّجع أو الموازنة ـ كما مرّ بيان ذلك ـ وقيام هذا الاحتمال كافٍ في عدم صحّة ادعاء التّخصيص كما تقدّم.
الجهة الثّانية: وقوع التّعبير بـ (البَرّ) ـ المفرد ـ عن الإنسان ولكن مخصّصا ًبـ (الأبوين) في قوله تعالى عن (يحيى): (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّا)(١٦٨), وبالأُم في قوله عن (قول عيسى): (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً)(١٦٩).
والبرّ بالأبوين جزء من الإيمان وخصلة من خصاله، فالتعبير به عن الإنسان ينفي تخصيص الملائكة بوصف (البَرَرَة)، إذْ لا فرق بين المفرد والجمع.
الجهـة الثّالثـة: وكــذلـك يـنـفـي ذلك مـا ورد مـن التّـعبـيـر بـ (البِرّ) ـ بكسر الباء ـ عن النّاس؛ إذْ لا فرق بينه وبين (البَرّ) بالفتح، إذْ كون (البَرّ) بالفتح أبلغ من البارّ إنْ كان من جهة كونه مصدراً، والتوصيف بالمصدر أبلغ من التّوصيف بالوصف فالبِرّ بالكسر مصدر أيضاً دون إشكال. وإنْ كان من جهة كونه وصفاً مصوغاً للمبالغة فلا يقصر التَّوصيف بالمصدر عنه في ذلك.
وقد ورد التّعبير بالبِرّ ـ بالكسر ـ عن المؤمنين في موضعين من القرآن الكريم، قال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ)(١٧٠). وقال: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)(١٧١).
الجهة الرّابعة: مع غضّ النّظر عن ذلك، فإنَّ تخصيص الملائكة بلفظ (البَرَرَة) إنَّما يتحقّق فيما لو كانت موارد التّعبير عنهم بذلك متعدّدة حتّى لا يحتمل أنْ يكون على سبيل التّفنّن في اختيار الألفاظ المتماثلة المعنى، فلا يكفي وقوع التّعبير عنهم بذلك في مورد واحد.
وأمَّا الدعامة الثّانية (اللّغويّة) ـ وهي كون (بَرّ) أبلغ من (بارّ) بحسب المعنى ـ فيلاحَظ عليه: أنَّ ذلك إنْ كان على أساس كون صيغة (البَرّ) صيغة مبالغة فهو مردود بوضوح، فإنَّه لم يعدّ أحد من النّحاة صيغة (فعل) من أوزان المبالغة.
وإنْ كان على أساس قياسه بـ (عدل) كما أشار إليه، فهو محلّ نظر من عدّة جهات:
الجهة الأولى: إنَّ (عدل) إنَّما كان أبلغ من (عادل) على ما صرّح به اللّغويونوالنحاة(١٧٢) حيث يكون مصدراً؛ لأنَّه يقتضي تجسّد العدالة في الموصوف بمعنى أنَّه كلّه عدالة، وأمَّا (البَرّ) ـ بالفتح ـ بمعنى الإحسان فلم يذكر أحدٌ من اللّغويين ولا الرّاغب وروده مصدراً. نعم، يرد مصدراً من (بَرّ يمينه) إذا صدقها ووفى بها، وهو غير مراد في الآيات.
الجهة الثّانية: إنَّه لو قدّر وروده مصدراً فلا دليل على اختصاصه بالمعنى المصدريّ، بل من الجائز اشتراكه ـ ولو بالتّطوّر(١٧٣)ــ بين المعنى المصدريّ والوصفيّ، كما لا يبعد الالتزام به في عدّة ألفاظ كـ (ضيف) و(عدل) و(خصم) ونحو ذلك، وعليه فحيث إنَّ إرادة المعنى المصدريّ يكون تجوّزاً ولا قرينة عليه فيُحمل على إرادة المعنى الوصفيّ.
الجهة الثّالثة: إنَّ نفس جمع (برّ) قد يكون قرينة على أنَّ المراد به المعنى الوصفيّ دون المصدريّ، فإنَّ الجمع منه لا يستعمل حيث يراد به المصدر حقيقة ـ كما اعترف به اللّغويون في أمثاله كعدل ـ لكنْ يظهر من كلماتهم دعوى صحّة استعماله فيما لو أُطلق المصدر على الذّات مبالغةً فيقال (عدلان) و(عدول)، إلّا أنَّ الأظهر عدم تماميّة ما ذكروه ـ لاسيّما على القول بأنَّ المجاز ليس استعمالاً للّفظ في غير معناه، وإنَّما ينزّل غير المعنى منزلة المعنى فإذا قيل: (جاء الأسد) وأُريد الرّجل الشّجاع لم يستعمل الأسد في الرّجل الشّجاع كمعنى للّفظ، وإنَّما استعمل في نفس الحيوان المفترس، ولكن نزّل الرّجل الشّجاع منزلة الأسد كما عليه السّكّاكي (ت ٦٢٦هـ) ـ وعلى هذا القول تكون هناك ملازمة واضحة بين صحّة جمع المصدر حيث يراد به المصدر حقيقة وحيث يراد به الذّات مجازاً, فالصحيح فيما يعدّ جمعاً للمصدر كـ(عدول) و(ضيوف) و(أضياف) و(خصوم) أنَّه جمع للمعنى الوصفيّ بما أنَّه معنى حقيقي للكلمة، كما يشهد به الوجدان اللّغويّ.
نعم، هناك فرق بين مدلول (بارّ) و(برّ) لغة فيما نراه، فإنَّ مدلول (برّ) صفة ثابتة في الشّخص، فلا يطلق على الشّخص بمجرّد صدور البرّ منه مرة واحدة، وأمَّا (البارّ) فهو ذو وجهين: فتارة يستعمل كذلك، وأخرى يستعمل للدّلالة على فعل حادث للشخص فيقال: (إنَّي بارّ بك غداً) كما تقول: (إنَّي سأبرّك غداً) ولعلَّ إلى هذا الفرق أشار الخليل (ت ١٧٥هـ) أو تلميذه اللّيث في العين بقوله: (تقول: ليس ببرّ وهو بارّ غداً)(١٧٤)، أي يصدق نفي صفة البرّ عمّن سوف يبرّ غداً حيث يكون برّه هذا حالة مفردة أو شبه مفردة لا حالة عامّة. وأمَّا سائر اللّغويين فجعلوا اللّفظين ككلمتين مترادفتين.
وأمَّا الدّعامة الثّالثة ـ وهي كون (بررة) جمع (برّ)، و(أبرار) جمع (بارّ) ـ فيلاحظ عليها أمور:
الأمر الأوَّل: إنَّ الصّحيح في الموضوع هو العكس بمعنى أنَّ (أبرار) جمع (برّ) و(بررة) جمع (بارّ) ـ فإنَّه مقتضى المقاييس العامّة المذكورة في علم الصّرف بملاحظة الفارق اللّفظي بين الكلمتين، ولا حجّة في قول اللّغويين على خلافها ـ ولو فُرض اتفاقهم على ذلك ــ؛ لأنَّ الموضوع أربط بتطبيق القواعد العامّة المبنيّة على تتبع الأمثلة واستقرائها من مداليل لغويّة خاصّة يُعتمد فيها على أقوال آحاد اللّغويين.
وتوضيح ذلك: أنَّ كلمة (بارّ) وصف رباعي على وزن (فاعل) و(برّ) اسم ثلاثي مضاعف.
وصيغة (فاعل) تُجمع على أوزان عدّة من جملتها هيئة (فَعَلَة) كـ (كامل وكملة، وساحر وسحرة، وكافر وكفرة، وصاحب وصحبة، وجاهل وجهلة، وحامل وحملة، وحافظ وحفظة، وكاتب وكتبة).
(ومنها): وزن فُعّال وفُعّل، وليس من جملتها هيئة (أفعال).
قال المحقّق الرّضي في شرح الشّافية: (اعلم أنَّ الغالب في فاعل الوصف فُعّل كشُهّد وغُيّب ونُزّل وقُوّم وصُوّم... ويُكسّر أيضاً على فُعّال كزُوّار وغيّاب. وهما أصل في جمع فاعل الوصف أعني فُعَّلاً وفعّالاً. ويجيء على فعلة أيضاً كثيراً لكنْ لا كالأوَّلي نحو عجزة وفسقة وكفرة وبررة وخونة وحركة...)(١٧٥).
وقد صرّح في كلامه بكون (بررة) جمع (بارّ) كما ترى.
وأمَّا (فعل) المضاعف فهو يُجمع على (أفْعال)، فإنَّ (أفعال) تأتي جمعاً للكلمات الثّلاثية(١٧٦) كـ(ثوب) و(أثواب) و(قول) و(أقوال).. ولا تأتي في الكلمات الرّباعية إلّا ندرة وشذوذاً كشاهد وأشهاد. ومن جملة أنواع الكلمات الثّلاثية الّتي يُجمع عليها المضاعف كـ(سرّ وأسرار، ومدّ وأمداد، ومنّ وأمنان، وسنّ وأسنان، وجدّ وأجداد، وربّ وأرباب... الخ)، بل ذكر المحقّق الرّضي في شرح الشّافية(١٧٧) أنَّه (لم يأتِ في قلّة المضاعف ولا كثرته إلّا أفعال كأمداد وأفنان وألباب) فهو يختصّ بهذا الباب.
وعليه فيتعيّن أنْ يكون (بررة) كأخواتها الّتي هي على وزن (فعلة) جمعاً لـ (فاعل)
ـ وهو كلمة (بارّ) ـ . و(أبرار) كأخواتها الّتي هي على وزن أفعال جمعاً لـ (فعل) ـ وهو كلمة (برّ) ـ .
وقد يؤيّد ذلك: بانعكاس الفرق المعنوي السّابق بين المفردين في هذين الجمعين حسب ما يشهد به الوجدان اللّغوي الدّقيق.
الأمر الثّاني: إنَّه لو قُدّر أنَّ قول اللّغوي حجّة في الموضوع كان قول الرّاغب والفيروزآبادي في ذلك معارَضاً بقول جماعة أُخرى من اللّغويين حيث صرّحوا بما ذكرناه، كما في مواضع متعددة من لسان العرب(١٧٨):
١. ففي موضع: (ورجل برّ من قوم أبرار، وبارّ من قوم بررة).
٢. وفي موضع ثانٍ: (وجمع البرّ الأبرار، وجمع البارّ البررة).
٣. وفي موضع ثالث (وجمع البرّ الأبرار).
ومثل هذا التّكرار الواقع في اللّسان كثيراً ينشأ عن أنَّه جَمعَ عدّة كتب لغوية على ما ذكره في مقدّمته(١٧٩) من غير حذف مكرّراتها، وعليه فهو يُمثّل بتكراره قول عدّة من اللّغويين. والظّاهر أنّ العبارة المتوسطة هي لابن الأثير في النّهاية(١٨٠)، ولا يبعد أنْ يكون الباقي للجوهري (ت ٣٩٣هـ) في الصِّحاح، أو الأزهري (ت ٣٧٠هـ) في تهذيب اللّغة.
وقول هؤلاء أرجح لأنَّهم أكثر عدداً، ولأنَّ قولهم أقرب إلى الاسترسال من قول الرّاغب والفيروزآبادي؛ لأنَّهم كانوا في صدد تشخيص الموضوع بنحو طبيعي، وأمَّا العلمان فهما أقرب إلى الانحياز إلى جهة معيّنة، حيث كانا بصدد تبرير ما ظنّاه من تخصيص الملائكة بلفظ البررة في القرآن الكريم.
ويلاحظ أنَّ هناك قسماً آخر من كلمات اللّغويين مجملة المعنى فلا يمكن استظهار ما اُعتبر جمعاً لـ (برّ) و(بارّ) من اللّفظين استظهاراً جازماً(١٨١).
الأمر الثّالث: إنَّ قول الرّاغب في ذلك متناقض صدراً وذيلاً فبينا صرّح في صدر كلامه بكون اللّفظين جمعاً لـ (بارّ) إذا به فرّق بينهما في ذيله فجعل (البررة) جمعاً لـ (برّ). إلّا أنْ يكون هناك نقصٌ في النّسخة المطبوعة، والصواب: (وجمع البارّ والبَرّ: أبرار وبررة)، أو تكون هذه الجملة برمتها زيادةً لكونها تكراراً لما ذكر بعدها في مقام بيان النّكتة البلاغية، أو يكون هناك تحريف على وجه آخر كما لا يخلو المطبوع من الكتاب عن بعض التّحريفات الغريبة(١٨٢).
الأمر الرّابع: إنَّ الوجدان اللّغوي لا يشهد بوجود فارق معنويّ بين الجمعين على وفق ما ادُّعي في المفردين من كون (برّ) أبلغ من (بارّ)، مع أنَّ الفرق المعنوي بين المفردين ينعكس على جمعهما لا محالة طبيعة.
الأمر الخامس: لو قُدّر أنَّه ليس هناك أيّ فارق لفظيّ أو معنويّ أو حجّة أُخرى على كون أحد اللّفظين جمعاً لإحدى الكلمتين بخصوصها تساوت الاحتمالات الموجودة في ذلك وهي خمسة:
١. أنْ يكون (أبرار) جمع (برّ) و(بررة) جمع (بارّ) كما اخترناه.
٢. أنْ يكون الأمر بالعكس كما اختاره الرّاغب.
٣. أنْ يكونا جميعاً جمعاً لـ (بارّ) كما ذكره السّائل.
٤. أو لـ (برّ) فيكونوا قد استغنوا بجمع إحدى الكلمتين عن جمع الأُخرى، كما رُبّما يقع الاستغناء في اللّغة ببناء هيئة من كلمة ببنائها من أُخرى.
٥. أو يكونا جمعاً للفظين معاً كما قد تُجمع الكلمة الواحدة بلغاتها المتعددة على وزن واحد كاسمٍ ـ بلغاته الخمس ـ على (أسماء)، ولا يمتنع أنْ يُجمع لفظين على هيئة واحدة.
بل قد يكون هذا الاحتمال الأخير هو المتعيّن بعد فرض فقدان أيّة مزيّة معنويّة أو لفظيّة تُعيِّن أحد الجمعين لإحدى الكلمتين. نعم، لا يبعد أنَّ الواضع لأحد الجمعين أو كليهما قد لاحظ (برّ) أو (بارّ) بخصوصه، إلّا أنَّ مجرّد لحاظ الواضع لا تأثير له في تعيين ذلك ما لم ينعكس ذلك على المدلول الوضعيّ للكلمة، كما هو ظاهر.
والحاصل: أنَّا لم نجد أيُّ وجه لما ذهب إليه الرّاغب في ما ذكره في جمع الكلمتين.
والذي نظنّه أنَّه تأثّر في ذلك بما رآه من تشابه لفظة (بارّ) و(أبرار) في احتوائهما على الألف، وتماثل لفظة (برّ) و(بررة) في خلّوهما عنها مع قربهما من جمع المضاعف في مثل (حجّة وحجج) و(صرّة وصرر).
وإذا صدق هذا الظّنّ ـ من ناحية عدم وجود أيّة قاعدة صرفيّة أو جهة معنويّة تقتضي ما ذكره ـ فإنَّه قد أخطأ في ذلك:
أوَّلاً: بعدم تفطّنه؛ لأنَّ ألف (أبرار) إنَّما هو ألف جمع لا ألف مفرد، ويختلف عنه بأنَّه بعد الرّاء (عين الفعل) وألف المفرد بعد الباء (فاء الفعل)، فلو جمع (فاعل) على (أفعال) كما في (شاهد) و(أشهاد) ـ على رأي ـ وجب الالتزام بحذف ألفه.
وثانياً: بأنَّ سُنّة لغة العرب لم تجرِ على جعل الجمع أقرب إلى المفرد مهما أمكن، بل أنَّها جرت في مثل هذه الجموع المكسّرة على بُعد الجمع عن المفرد، فترى أنَّ (أفعالاً) جمعٌ مطّردٌ في الثّلاثي (الخالي عن الألف) عادةً. مثل (فُعّل) و(فعلة) جمع لـ (فاعل) المقتضي لحذف ألفه.
وأيّاً كان: فعلى ما ذكر ينهدم أساس النّكتة المذكورة، بل تنقلب إلى نكتة سلبية مؤكِّدة للتساؤل السّابق، فإنَّه إذا كان التّعبير بـ (البرّ) عن الملائكة أنسب فلماذا عبّر عنهم بلفظة (بررة) الّتي هي جمع (بارّ) ـ على ما ظهر ـ واستعمل في التّعبير عن النّاس لفظة (الأبرار) الذي هو جمع (برّ) مع أنَّ مقتضى التّناسب هو العكس!
وأمَّا الدّعامّة الرّابعة ـ وهي أنَّ مقتضى البلاغة التّعبير عن النّاس الأحياء بلفظ (الأبرار)، وعن الملائكة بلفظ (البررة) الّتي هي أبلغ من الأبرار؛ نظراً إلى كون الملائكة أفضل من النّاس ـ فهو غير تامّ أيضاً.
فإنَّ الآيات الّتي تضمّنت كلمة (أبرار) على صنفين:
أ. ما كان بصدد توصيفه تعالى لمنزلة الأبرار وجزائهم، وهي آيات خمسة:
١. (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ)(١٨٣).
٢. (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا)(١٨٤).
٣. (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(١٨٥).
٤.(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)(١٨٦).
٥. (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ)(١٨٧).
ب. ما ورد فيه استخدام هذه الكلمة في سياق طلب المؤمنين أنْ يجعلهم تعالى مع الأبرار وهو قوله تعالى: ـ (في ذكره دعاء أولي الألباب) ــ: (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)(١٨٨).
والنّكتة المذكورة غير تامّة في شيء من الصّنفين لجهات مشتركة ومختصّة:
الجهة الأُولى: إنَّ هذه النّكتة لا تنسجم مع التّعبير بـ (البِرّ) ـ بالكسر ـ عن المؤمنين في بعض الآيات ـ كما تقدّم ــ؛ إذْ مقتضاها التّعبير عنهم فيها بـ (البارّ) بدلاً عن ذلك، كما لا ينسجم مع التّعبير بـ (البَرّ) ـ بالفتح ـ بالنسبة إلى الوالدين ـ في بعضها الآخر ـ وقد تقدّم أيضاً، إذْ البرّ بالأبوين خصلة من خصال الإيمان، فإذا ناسب التّعبير عن المؤمن بلحاظ هذا الجزء كان التّعبير به بلحاظ مجموع إحسانه وإيمانه أشدّ مناسبة وأوْلى فلا تكون تلك النّكتة مطّردة.
الجهة الثّانية: إنَّه على تقدير كون البرّ أبلغ كان تناسب التّعبير به في الصّنف الأوَّل محفوظاً؛ لأنَّ مضمونها إشادة بمقام الأبرار عند الله تعالى بنحو عامّ، فلو عبّر بالبرّ لدلّ ذلك على اعتبار مزيد الإحسان والتقوى في الكرامة عند الله تعالى ونيل ثوابه.
فتُخرَّج بذلك مخرَج سائر الآيات الّتي جعلت الكرامة لأبلغ مراتب التّقوى والصلاح الّتي يندر تحققّها في النّاس من قبيل قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(١٨٩)، وقوله:(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ)(١٩٠) وقوله: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(١٩١) إلى غير ذلك من الآيات.
الجهة الثّالثة: يضاف إلى ذلك أنَّ قوله تعالى في سورة الإنسان: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا)(١٩٢) وإنْ كان توصيفاً لمنزلة الأبرار بنحو عامّ إلّا أنَّه على ما ورد في شأن نزولها ناظر إلى أهل البيت E، حيث إنَّ علياً وفاطمة H كانا قد نذرا صيام أيام ثلاثة، فصاموها على الماء وقد أعطوا فطورهم فيها لمسكين ويتيم وأسير فوردت في شأنهم هذه السّورة(١٩٣). وأهل البيت على الرّأي المعروف للشيعة الإماميّة أفضل من الملائكة ـ كما ذكر ذلك في علم الكلام ــ.
وعليه فكان بالإمكان استعمال كلمة (الأبرار) لمكان النّظر إليهم في المورد وإنْ كان لسان الآية لساناً عامّاً، كما رُبّما وقع مثله في مواضع أخرى من القرآن الكريم.
الجهة الرّابعة: على تقدير تماميّة تلك النّكتة في الآيات الخمسة الّتي كانت في مقام الإشادة بمقام الأبرار عند الله تعالى، إلّا أنَّه لا يتم في الآية السّادسة الّتي وردت فيها في سياق طلب المؤمنين أنْ يجعلهم الله تعالى مع الأبرار، وهو قوله: (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)(١٩٤)، بل ربّما كان الأوْلى في هذا المقام أنْ يسأل الإنسان أنْ يحشره الله تعالى مع البررة.
فظهر عدم تماميّة التّعليل الّذي ذكره الرّاغب من جهات كثيرة تفوق خمس عشرة جهة، وفي ذلك عظة واعتبار للناظر في عدم التّسارع إلى الجزم بما يتراءى له بدواً من التّعليلات في حلّ مثل هذه الظّاهرة، ومذكّر له بمراعاة تقوى الله تعالى مخافة أنْ يكون ممّن افترى على الله كذباً وقد قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)(١٩٥).
السّبب الخامس: أروعيّة تمثيل بعض الجموع ـ من حيث حروفها وهيئاتها ـ لبعض جوانب المعنى.
لا شكّ في تفاوت الألفاظ بخصوصياتها الصّوتيّة في درجة تمثيلها للمعنى وتعبيرها عن بعض ملامحه، فيكون اللّفظ الشّديد أوفى تصويراً للمعنى الشّديد وأوْلى بالاختيار في مقام التّركيز على شدّته، وهكذا اللّفظ السّهل الرّقيق في التّعبير عن المعنى السّهل، واللّفظ الثّقيل المتنافر الحروف في التّعبير عن المعنى القبيح لإيجاد النّفرة عن المعنى, ولعلّه لذلك اختير لفظ (ضيزى) في قوله تعالى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى ﱎ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى)(١٩٦).
بل اعتبر علماء البلاغة تنافر حروف الكلمة حاجزاً دون فصاحتها. ولكنَّ الصّحيح أنَّه لا بُدَّ من قياس اللّفظ على المعنى, وإنَّما يمنع التّنافر من فصاحة الكلمة حيث يقع في لفظ يعبّر عن معنى لا تحدث الحاجة إلى تصويره قبيحاً مستهجناً كلفظ (البعاق) في التّعبير عن (السّحاب)، وأمَّا إذا كان في لفظ يمثّل معنى قبيحاً كان حسناً، وكذا إذا دلّ على معنى قد يتعلّق الغرض بتصوير كونه قبيحاً فإنَّه لا يمنع عن فصاحة الكلمة، لكنْ إذا استعمل في غير مورد تعلّق الغرض بتصوير قبحه فربّما يمنع عن بلاغة الكلام لعدم مطابقته لمقتضى الحال.
وأيّاً كان فقد تنبّه الباحثون المعاصرون إلى (الدّلالة الصّوتيّة)(١٩٧), إلّا أنَّ الأمثلة المذكورة لها لا تخلو غالباً من مناقشة: إمَّا من حيث الإفراط، أو التّفريط.
(فمنها): ما كانت دعوى (الدّلالة الصّوتيّة) مبنيّة على ضرب من الخيال والوهم، بمعنى أنَّ اللّفظ لم يكن هو الّذي يوحي بالمعنى، وإنَّما التّفكر والتعمّق في ذات المعنى وصورته وتجسيده في الذّهن هو الّذي أوجب الانتقال إلى تلك المعاني, وربّما كان الاستغراق في انتزاع تناسب بين اللّفظ والمعنى هو الّذي خيّل تحقّق هذا التّناسب واقعاً كما أنَّ مَنْ أصرّ على رؤية الهلال ربمّا تراءى له ـ كما يحدث ذلك خارجاً كثيراً ـ وهذه الحالة هي الّتي عبّرنا عنها بالإفراط.
ولعلَّ من أمثلة ذلك: ما ذكر عن الفاء العاطفة في كلّ من اختلط وأصبح في قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ)(١٩٨), فقيل إنَّ فيها ترتيباً وتعقيباً يصكّ السّمع في دلالة وقوعالأمر دونحائل وبلافاصل تعبيراً عن الخسران النّهائي والحرمانالمتواصل دفعة واحدة(١٩٩).
والواقع: أنَّه لا تزيد دلالة الفاء في الآية على معناها الوضعي اللّغوي من العطف والتّرتيب, وأروعيّتها بالنّسبة إلى (ثُمّ) إنَّما هي من جهة دلالة (ثُمّ) على الفصل بين الحدثين, وهو يقلّل من بلاغة الكلام وليس من جهة دلالة الفاء على التّعقيب.
(ومنها): ما كانت الدّلالة تستند إلى مادّة اللّفظ، أي طبيعة المعنى ولم تكن لمزيّة صوتيّة محضة, فلم يعرف استناد الدّلالة إلى عمق مفاد اللّفظ وهذه الحالة هي الّتي عبّرنا عنها بـ (التفريط).
ولعلّ من أمثلة ذلك: ما ذكر في ترجيح كلمة (أهون) على كلمة (أضعف) في قوله تعالى: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ)(٢٠٠), حيث قيل إنَّ كلمة (أوهن) تُشعر بالضّعف المتناهي لا بمجرّد الضّعف من ناحية طبيعة حروفها وخواصّها الصّوتيّة.
والواقع أنَّ الوهن ليس مرادفاً للضعف لغة وإنْ كانا متشابهين وإنَّما هو ضدّ الاستحكام فهويتعلّق بانحلالأصل الشّيءوبنيته، والضعفإنَّما يعني الهبوط في مستواه وكيفيّته، ولذلك يوصف البناء والعظم ونحوهما بالوهن دون الضّعف فيقال (بناء موهون) وقال تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)(٢٠١) وتوصيف بيت العنكبوت بالوهن من هذا الباب, فهو إنَّما كان أبلغ من الضّعف؛ لأنَّ انحلال أصل الشّيء أشدّ من مجرّد الضّعف فيه, وليس لإشعاره بالضّعف المتناهي وإلّا لكان الأنسب اختياره في كلّ مورد أُريد التّعبير عن الضّعف البالغ في القرآن الكريم وغيره، ولم يقع ذلك.
ولعلّ لما ذكرنا ذكر الوهن والضّعف معاً في قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا)(٢٠٢) فذكر عدم الوهن أوَّلاً ثُمَّ عطف عليه عدم الضّعف لكون الأوَّل أعمق من الثّاني.
ويلاحظ أنَّ سمة الدّلالة الصّوتيّة أنَّها دلالة ناقصة في مستوى الإشعار، وإنَّما ينتبه إليها الإنسان في حالة جذب المعنى بحسب الملابسات لها ويحتاج إلى نوع تفرّغ وتأمل في الكلام كي يحسّ به الإنسان بما تعنيه نبرات الألفاظ من معانٍ, كما لا بُدَّ فيه من ذوق رهيف وحسٍ أدبي عالٍ.
ومن أمثلته في غير هذه الظّاهرة: أفضلية (بُكيّاً) في جمع (باكٍ) من(بكاة) في قوله تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)(٢٠٣) فإن (بُكيّ) من حيث تشديد الياء فيه أروع تصويراً فيما أرى لحالة البكاء من (بكاة).
ونظير ذلك: أفضليّة (جِثِّي) من (جُثِّي) في جمع (جاثٍ) في قوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا)(٢٠٤)، وقوله تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)(٢٠٥) فإنَّ كسر الجيم يجعل الكلمة أروع تصويراً لحالة الجثو على الرّكبة من ضمّها.
من أمثلة هذه الحالة.
ولعلّ من أمثلة ذلك الموارد التّالية:
المورد الأوَّل: أفضليّة (أُسارى) في جمع (أسير) من (أسرى) في قوله تعالى: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُم)(٢٠٦) فإنَّه من جهة ضمّ أوَّله وزيادة الألف في ثالثه أروع تصويراً لحالة الأسر من (أسرى)، وقد اقتضى السّياق تمثيل تلك الحالة لوقوع الكلمة حالاً. ولكن اختير(أسرى) في موضعين آخرين لم يقتضِ الكلام العناية بذلك ـ لاسيّما أنَّه أخصر من (أسارى) ـ وهما:
١. (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ)(٢٠٧).
٢. (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى)(٢٠٨).
المورد الثّاني: أفضليّة (أساور) من (أسورة) في جمع (سوار) في تمثيله للكثرة، كما يؤيّد ذلك عدّ النّحاة الأوَّل من جموع الكثرة الّتي قيل إنَّ أقلّها عشرة، والثّاني من جموع القلّة الّتي قيل إنَّ أقصاها عشرة كما سبق.
ولعلّه لذلك اختير (أسورة) في بيان ما طلبه المشركون من النّبي e في قوله تعالى:
(فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)(٢٠٩).
واختير (أساور) في مقام بيان حُليّ أهل الجنّة في جميع المواضع الأربعة الّتي تتعلّق بهم، وهي:
١. (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا) (٢١٠).
٢. (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) (٢١١).
٣. (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) (٢١٢).
٤. (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) (٢١٣).
هذا، وكأنّ الرّاغب قد تراءت له نكتة أخرى في هذه التّفرقة فقال: (قال (أسورة من ذهب. أساور من فضّة) واستعمال الأسورة في الذّهب وتخصيصها بقوله (ألقى) واستعمال (أساور) في الفضّة وتخصيصه بقوله: (حلّوا) فائدة تختصّ بغير هذا الكتاب)(٢١٤).
ولكنّه وإنْ لم يذكر النّكتة الّتي تراءت له إلّا أنّه يظهر أنَّ أساسها اختصاص استعمال (أسورة) بالذهب و(أساور) بالفضّة, ولكن قد عرفت استعمال (أساور) في الذّهب في ثلاثة مواضع أخرى فكأنَّه لم يستوعب تلك الآيات. ومثل ذلك يتكرّر في كلماته حيث يذكر نكتة أو تفسيراً يبتني على عدم استيعاب الآيات كما مرّ في تفرقته بين (عباد) و(عبيد) في جمع (عبد) في السّبب الثّاني.
المورد الثّالث: أفضليّة (شهود) من (أشهاد) و(شهداء) في جمع (شاهد) في تمثيل دقّة الشّهادة واستيعابها لخصوصيّات المشهود لتناسب ذلك مع ما يحتوي عليه من ضمتين متتابعتين ومتبوعتين بالواو. ولعلّه لذلك استعمل دونهما في الإشارة إليه تعالى في قوله: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)(٢١٥). واستعمل في موضعين آخرين يأتي تحليلهما في الأسباب الآتية.
المورد الرّابع: أفضليّة (أُلوف) من (آلاف) في جمع (ألف) تمثيل الكثرة ـ كما يؤيّده عدّ النّحاة الأوّل جمع كثرة، والثّاني جمع قلّة ـ وذلك من جهة تناسبه مع الكثرة بضمتين متتابعتين ومتبوعتين بالواو.
ولعلّه لذلك اختير (أُلوف) حيث لم يذكر تحديد للعدد في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)(٢١٦)كما اختير (آلاف) حيث ذكر العدد في موضعين هما:
١. (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ)(٢١٧).
٢. (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)(٢١٨).
المورد الخامس: أفضليّة (إخوان) من (إخوة) في جمع (أخ) في تمثيل الأُخوّة بما اشتمل عليه من فخامة بالألف والنون, ولذلك يستعمل (إخوان) غالباً في علاقة الصّداقة ونحوها ويستعمل (الإخوة) في تمثيل العلاقة النّسبيّة حتى قال أبو حاتم: (قال أَهلُ البَصْرة أَجمعون: الإِخْوة في النّسَب، والإِخْوان في الصداقة. تقول: قال رجل من إِخواني وأَصْدِقائي، فإِذا كان أَخاه في النّسَب قالوا إِخْوَتي)(٢١٩).
ولكنّه خطأ كما ذكر الأزهري, حيث قال: (يقال للأَصْدِقاء وغير الأَصْدِقاء إِخْوة وإِخْوان. قال الله a: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(٢٢٠)، ولم يعنِ النّسب، وقال: (أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ)(٢٢١)، وهذا في النّسَب، وقال: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ)(٢٢٢)(٢٢٣).
وفي لسان العرب: (وقولهم: إِخْوان العَزاء وإِخْوان العَمل وما أَشبه ذلك إِنَّما يريدون أَصحابه ومُلازِمِيه، وقد يجوز أَنْ يَعْنوا به أَنَّهم إِخْوانه أَي إِخْوَتُه الّذين وُلِدُوا معه، وإِنْ لم يُولَد العَزاء ولا العمَل ولا غير ذلك من الأَغْراض، غير أَنَّا لم نسمعهم يقولون إِخْوة العَزاء ولا إِخْوة العمَل ولا غيرهما، إِنَّما هو إِخْوان، ولو قالوه لجَاز، وكل ذلك على المثَل، قال لبيد: (إِنَّما يَنْجَحُ إِخْوان العَمَلْ) يعني مَنْ دَأَبَ وتحرَّك ولم يُقِمْ، قال الرّاعي: (على الشَّوْقِ إِخْوان العَزاء هَيُوجُ) أَي الّذين يَصْبِرُون فلا يَجْزَعون ولا يَخْشعون والذين هم أَشِقَّاء العمَل والعَزاء. وقالوا: الرُّمْح أَخوك وربّما خانَك. وأَكثرُ ما يستعمل الإِخْوانُ في الأَصْدِقاء والإِخْوةُ في الوِلادة)(٢٢٤).
ويؤكّد ما ذكرنا عدم استعمال جمع (أخ) على إخوة في القرآن لتمثيل علاقة معنويّة بل استعمل إخوان دائماً، قال تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)(٢٢٥)، (وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ)(٢٢٦)، (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)(٢٢٧)، (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)(٢٢٨)، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)(٢٢٩)، (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ)(٢٣٠)، (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)(٢٣١)، (وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ)(٢٣٢)، (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ)(٢٣٣)، (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا)(٢٣٤)، (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٢٣٥).
نعم، ورد في مورد واحد استعمال الإخوة لنكتة معنوية وهو قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)(٢٣٦). وتلك النّكتة هي تنزيل علاقة الإيمان منزلة علاقةالإخوة النّسبية؛ لأنّ (إخوة) إنّما يتعارف استعماله في النّسب ـ كما مرّ عن اللّسان ـ فهو دالّ على ذلك طبعاً.
نعم، استعمل (إخوان) في مقام بيان العلاقة النّسبيّة في عدة آيات مراعاة لتوازنه مع المعطوف والمعطوف عليه ونحو ذلك ممّا يأتي في السّبب التّاسع، ولم يستعمل (إخوة) في القرآن إلّا لبيان العلاقة النّسبيّة، إلّا في آية الحجرات المتقدّمة على سبيل المبالغة في تمثيل عمق علاقة الإيمان.
هذا، ولكن لا يبعد القول بعموم إخوان لسائر العلائق الحميمة الّتي يصحّ تنزيلها منزلة علاقة الإخوة النّسبيّة لما مرّ في السّبب الأوّل. وعليه فيندرج هذا المثال في السّبب الرّابع من اختلاف معنى المفردين بالدّقة إذا التزمنا بأنّ لـ (إخوان) مفرداً بمعناه، وإنْ خصصنا (أخ) المفرد بعلاقة الإخوّة النّسبيّة كان مرجعه إلى كون إخوان أعمّ معنى من مفرده وهو ضرب من السّبب الأوّل غير الأمثلة المذكورة فيه، فإنّ تلك الأمثلة كانت من صيرورة أحد الجمعين أخصّ معنىً من مفرده، فلاحظ وتأملّ.
المورد السّادس: أفضلية (ضعاف) في الدّلالة على شدّة الضّعف من (ضعفاء)
باعتبار الانسجام الصّوتي مع كسرة الضّاد, ولعلّه لذلك اختير في قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ)(٢٣٧) حيث كان الموضوع يقتضي التّركيز على حالة الضّعف بخلاف المواضع الثّلاثة الّتي استعملت.
حقيقة ما يدعى من الدّلالة الاجتماعية والإيحائية.
ذكر بعض المُحْدَثين(٢٣٨) ضربين آخرين من الدّلالة للألفاظ..
الضرب الأوَّل: الدّلالة الاجتماعية. وفسّرت بالدّلالة الّتي تستقل بها الكلمة عمّا سواها بما توحيه من فهم معيّن خاصّ بها.
الضرب الآخر: الدّلالة الإيحائية. وفسّرت بالدّلالة الّتي يوحي بها اللّفظ بالأصداء والمؤثّرات في النّفس فيكون له وقع خاصّ يسيطر على النّفس, لا يوحيه لفظ يوازيه لغة, فهو مجال الانفعالات النّفسيّة والتّأثّر الدّاخلي للإنسان.
ولكن لا تتضمّن هذه الكلمات ونحوها ممّا قيل في بيانهما ذكراً لمنبع هاتين الدّلالتين، فإنْ كان هو اللّفظ أو الصّوت رجعتا إلى الدّلالة الوضعيّة أو الصّوتية, وإلّا فما هو؟ والأمثلة المذكورة لهما على أقسام: بين ما لا دلالة مضافة للّفظ فيه أصلاً, أو الدّلالة صوتية، أو وضعيّة، أو هناك نكتة معنويّة اقتضتها.
ونحن نذكر بعض أمثلة هاتين الدّلالتين ليتّضح للباحث حال أصل الدّلالة وحال الباقي.
فمن أمثلة الدّلالة الاجتماعية..
١. اختيار كلمة (ظمآن) في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ)(٢٣٩) فإنّها ذات دلالة خاصّة لا تفي بها كلمة (الرائي) في ذلك. قال أبو هلال العسكري: (فلو قال يحسبه الرّائي ماءً لم يقع موقع قوله (الظمآن)؛ لأنّ الظّمآن أشدّ فاقة إليه وأعظم حرصاً عليه).
أقول: إنّ في تخصيص (الظمآن) بالذّكر ـ وهو بمعنى الّذي عطش عطشاً شديداً ـ والعدول عن التّعبير بـ(العطشان) و(الرائي) نكتتين معنويتين:
الأُولى: إنَّ السّراب إنَّما يحسبه ماء مَنْ اشتدّ به العطش، فكان حرصه على الماء حاجزاً عن الحدس بواقع كونه سراباً؛ لأنَّ الإنسان إذا حرص على شيء ربّما تراءى له وصدّق بوجوده، كمن بالغ في طلب الهلال في ناحية من السّماء فإنّه يراه ويصدّق بوجوده ولو كان في غير مكانه كما يتّفق ذلك خارجاً.
الأخرى: إنّه ربّما كان الغرض من الآية ـ مضافاً إلى تشبيه أعمال الكفّار بالسّراب ـ تشبيه حالة نفس الكفّار يوم القيامة بالظمآن حيث يعلّقون أملاً كبيراً على أعمالهم الّتي يظنّونها حسنة كالصّدقات الّتي منع جحودهم وكفرهم من قبولها فإذا حضر الحساب لم يجدوها شيئاً ووجدوا الله عنده.. فلو جيء بلفظ (الرّائي) لم تتضمّن الآية هذا التّشبيه، كما أنَّه لو جيء بلفظ (العطشان) لم يكن له بلاغة لفظة (الظمآن) الّتي بدلالتها على شدّة العطش تشير إلى عظيم الفقر والحاجة. والكلام السّابق عن أبي هلال لا يتضمّن ذكر النّكتة الّتي اقتضت تمثيل شدّة الفاقة وعظيم الفقر.
٢. استعمال كلمة (امرأة) بدل (زوج) بالنسبة لامرأتي نوح ولوط وهما زوجتان لهما, وبالنسبة لامرأة فرعون وهي زوجته دون ريب في كلٍّ من قوله تعالى: (اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَلُوطٍ)(٢٤٠) وقوله: (اِمْرَأتَ فِرْعَوْنَ)(٢٤١) فهذا الاستعمال الدّقيق ذو دلالة اجتماعية رائعة، وهي أنّ كلمة (زوج) تأتي حيث تكون الزّوجة هي مناط الموقف حكمة وآية، أو تشريعاً وحكماً (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(٢٤٢) فاذا تعطّلت آيتها من السّكن والمودّة والرّحمة بخيانة أو تباين في العقيدة فامرأة لا زوج، فبالخيانة الدّينيّة الّتي أحدثتها امرأتا نوح ولوط قد انفصلت عرى الزّوجيّة وعاد كلّ زوج منهما امرأة فحسب، كما تعطّلت آية الزّوجيّة في امرأة فرعون بكفره وإيمانها فعادا حقيقتين مختلفتين لا تربطهما رابطة من سكن ولا صلة من مودّة فعادت زوجته امرأة.
(أقول): هذا التّعليل خاطئ جدّاً من جهات..
الجهة الأُولى: إنَّ في الآية ما يقتضي العناية بتفهيم معنى الزّوجيّة؛ لأنَّ الغرض منها بيان أنّ مصير المرأة الخائنة لا يتأثر بصلاح زوجها كما يظهر بملاحظة جميع الآية، قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأتَ نُوحٍ وَاِمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٢٤٣).
ويؤكّد ذلك أنَّ في طيّ هذين التّمثيلين ـ كما قال الزّمخشري(٢٤٤)ــ تعريضاً بزوجتي النّبي e المذكورتين في أوّل السّورة (عائشة وحفصة) وما فرط منهما من التّظاهر على رسول الله e بما كرهه وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه.. وأنْ لا تتكّلا على أنّهما زوجا رسول الله, فإنَّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلّا مع كونهما مخلصتين, قال: (وأسرار التّنزيل ورموزه في كلّ باب بالغة من اللّطف والخفاء حدّاً يدقّ عن تفطّن العالم ويزلّ عن تبصره).
الجهة الثّانية: إنّ علاقة الزّوجيّة مفادة في الآية الأولى بقوله: (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا) وفي الآية الثّانية بعطفها على الأولى فاستغنى فيها عن أنْ يقال (..كانت تحت كافر مستكبر..)، بل الظّاهر أنَّ نفس إضافة (امرأة) إلى رجل تستبطن علاقة الزّوجيّة بينهما وتدلّ عليها، كما أنَّ إضافة الرّجل إلى المرأة كذلك, وهذه العلاقة لا تنشأ عن مجرّد الإضافة، إذ يكفي في الإضافة أدنى ملابسة فيصحّ إطلاق (امرأة الرّجل) على غير زوجته ممّن له بها علاقة كأُخته وأُمّه، ولكن الدّلالة على الزّوجيّة هنا معنى تستبطنه الكلمة ذاتها لا لمجردّ الإضافة.
الجهة الثّالثة: إنَّا لم نجد ملاحظة هذه النّكتة في الاستعمالات القرآنية: فعبّر بـ(زوج) مع فرض خيانة ونحوها كما في قوله تعالى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)(٢٤٥), ورُبّما يعدّ من ذلك قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ)(٢٤٦), وقوله: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)(٢٤٧), بناءً على كون (من) بيانيّة.
الجهة الرّابعة: إنّه قد جاء التّعبير بـ(امرأة) في مواضع لا تقتضي تلك النّكتة اعتبار الزّوجيّة كأنْ لم تكن، كما في امرأة أبي لهب (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)(٢٤٨) وامرأة زكريا (وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)(٢٤٩) ونحوها (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيّاً)(٢٥٠)، وامرأة العزيز (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ)(٢٥١), ونحوها قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)(٢٥٢)، وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِّصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ)(٢٥٣)، وأيضاً قوله تعالى: (وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً)(٢٥٤) إلى غير ذلك.
والحقّ: أنّ سرّ اختيار التّعبير بـ (امرأة) على (زوجة) أجمليتها منها لفظاً على ما يدرك بالذوق الأدبيّ، وسيأتي بيان الجمال اللّفظي في السّبب السّادس.
ومن أمثلة الدّلالة الإيحائيّة ـ فيما قيل ـ :
١. (كلمة (أشدّاء) في قوله تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)(٢٥٥) فإنّها تحمل إلى الذّهن كلّ معاني الغلظة والثّبات والمجاهدة، وتوحي بأبعاد الصبر واليقظة والحذر، لا الشّدّة في مقابل الضّعف فحسب، بل تذهب إلى أكثر من هذا فتشير إيحائياً لتحرّك النّفوس وتهزّ الضّمائر إلى التّفاني في ذات الله وإلى التّشدّد في أحكام الله وإلى التّنفيذ لأوامر الله، فلا لومة لائم ولا غضب عاتب).
والحقّ أنّه لا دلالة لكلمة (أشدّاء) إلّا على معنى الغلظة والشّدّة. وباقي المعاني إنّما استفيد بالإغراق في التّأمّل في المعنى وشؤونه ولا تعلّق لذلك باللّفظ.
٢. كلمة (القانتين) في قوله تعالى عن مريم: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)(٢٥٦) قيل: أفاد منها الزّركشي دلالة ايحائيّة برفع مستوى مريم فيها إلى مصافّ الرّجال ممّن وصفوا بالجدّ والصبر والمثابرة على أسمى مراتب العبادة (إيذاناً بأنّ وضعها في العباد جدّاً واجتهاداً وعلماً وتبصّراً ورفعة من الله لدرجاتها في أوصاف الرّجال القانتين وطريقهم)(٢٥٧).
والحقّ أنّ هذه الدّلالة موهومة، فإنّ صيغة الجمع المذكر تطلق على المذكر والمؤنث مختلطين كما تطلق على المذكر خاصة. ولا يبعد أنْ تكون كلمة (المؤمنين) ونحوها في القرآن الكريم شاملةً لهما ما لم يذكر معها الجمع المؤنث كـ (المؤمنات)، واختيار هذه الصيغة في هذه الآية مراعاة للسجع لا غير.
وعلى تقدير صحّة تلك النّكتة فمرجعها إلى التّشبيه والتّنزيل، فهل موارد التّشبيه جميعاً مندرجة في الدّلالة الإيحائيّة؟!
وإنّما ذكرنا هاتين الدّلالتين هنا لكي يكون الباحث على بصيرة من ذلك عسى أنْ يجد لهما تفسيراً ومعنى ويتمكّن من تفسير جانب من هذه الظّاهرة لهما كما احتملنا تفسير جانب منها بالدّلالة الصّوتيّة.
السّبب السّادس: أروعيّة بعض الجموع من بعض من حيث جمالها الذّاتي.
لا شكّ عند مَنْ ملك الذّوق الأدبي في أنّ بعض الألفاظ أجمل من بعض في حدّ ذاتها وإنْ تساوت مداليلها الوضعيّة والصّوتيّة, ولكن هذه النّقطة من أدق النّقاط الّتي لا ينتبه لها إلّا بالحسّ المرهف والذّوق العالي, ولعلّ من هذه الجهة لم نجد من نبّه عليها من علماء البلاغة واللّغة من قدامى ومُحدَثين.
نعم، تعرّض علماء البلاغة لكون الألفاظ مختلفة بحسب حروفها من حيث الفصاحة وعدمها، ولكن هذا الاختلاف راجع إلى تفاوتها في أصل الحسن والقبح،
وهذا غير تفاوت الألفاظ الفصيحة الحسنة في درجة الجمال الذّاتي فهما مستويان مختلفان.
والظّاهر أنّهلا سبيلإلى إعطاءضابط معيّنلجمال الكلمةمن حيثحروفها وحركاتها؛ لأنّه وليد مدى تناسب وانسجام الأصوات المجتمعة وكيفياتها من المدّ والسّكون والحركة مقاسةً بالمعنى، وهذا التّناسب في كلّ كلمة أو كلام وليد حالة جزئيّة خاصّة لا جامع بينها وبين غيرها.
كما قد استقرّ رأي المحقّقين من علماء البلاغة على عدم ضابط لفصاحة الكلمة وعدمها وإنْ كان قد تناول بعضهم إعطاء ضابط لها, فعن ابن الأثير من كلام له حول تنافر الحروف الّذي عدّ من الأمور المخلّة بفصاحة الكلمة ـ مشيراً إلى بعض تلك المحاولات وتفنيدها ـ : (ليس التّنافر بسبب بُعد المخارج وأنَّ الانتقال من أحدهما إلى الآخر كالطفرة، ولا بسبب قربها وأنَّ الانتقال من أحدهما إلى الآخر كالمشي في القيد لما نجد غير متنافر من قريب المخرج كالجيش والشجيّ, وفي التّنزيل (أَلَمْ أَعْهَدْ)، ومن البعيدة ما هو بخلافه كــ (ملع) (أي أسرع في السّير) بخلاف (علم). وليس ذلك بسبب أنّ الإخراج عن الحلق إلى الشّفة أيسر من إدخاله من الشّفة إلى الحلق لما نجد من حُسن (غلب, وبلغ) و(حلم, وملح)، بل هذا أمر ذوقيّ، فكلّ ما عدّه الذّوق الصّحيح ثقيلاً متعسّر النّطق فهو متنافر سواء كان من قُرب المخارج أو بُعدها أو غير ذلك) (٢٥٨).
وإذا كان الأمر كذلك في الفصاحة فهو بعينه الحال في الجمال اللّفظي؛ لأنَّهما مستويان من حقيقة واحدة وإنْ كان مستوى الجمال أدقّ وأعلى(٢٥٩).
فالمناط في تشخيص كل منهما الذّوق الأدبيّ العالي, وقد تقدّم في المقدّمة أنَّ ضرباً من المزايا اللّفظيّة ممّا يدرك ولا يوصف.
إلّا أنَّ علماء البلاغة جعلوا الذّوق على مرتبتين: سليم يدرك تنافر حروف الكلمة ويحسّ بأوصافها ثقلاً وخفّةً، وسقيم لا يحسّ بذلك.
ولكن الصّحيح أنّ الذّوق الأدبيّ ذو مراتب متعدّدة تختلف في السّلامة والصّفاء,
وقلَّ مَنْ يخلو عن مرتبة منها كما يقلّ من أبناء اللّغة العربيّة في العصور المتأخّرة.
من أمثلة هذه الحالة:
ولا يبعد أنْ تندرج جملة من أمثلة هذه الظّاهرة تحت تلك الحالة: فيرجح أحدالجمعين على الآخر لأجمليته منه لفظاً، إلّا فيما اقتضت مزيّة أوْلى بالمراعاة كالسّجع
والموازنة انتخاب ذاك الآخر, لأنّ السّجع ونحوه ممّا يرجع إلى جمال الكلام ككلّ وهو أوْلى بالمراعاة من جمال كلمة في حدّ ذاتها. فمن ذلك:
١) أجمليّة كلمة (سجّد) في جمع (ساجد) من السّجود من جهة تكرّر الجيم فيه، والجيم حرف جميل في حدّ ذاته.
ولعلّه لذلك اختير (سُجّد) في جمعه كلّما وقع في أثناء الآية وهو أحد عشر موضعاً(٢٦٠)، وإنّما اختير (سجود) في آيتين مراعاة لآخر الآية، وهما:
١. (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(٢٦١).
٢.(وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(٢٦٢).
ووجه أولويّة السّجود بآخر الآية..
أوَّلاً: يحقّق انحداراً طبيعيّاً لما قبلها إلى آخرها كأنَّه تنزّل من الأعلى إلى الأدنى، فتأمّل جيداً في الآيتين تجد روعة ذكر الجمعين المتضمّنين للألف أوَّلاً ثم ذكر (الرّكّع) ثُمَّ (السّجود). ولو جيء بـ(السّجّد) المماثل لـ (الرّكّع) في الوزن لم يتحقّق هذا الانحدار.
وثانياً: أنَّه يوجب تقارب آخر الآيتين مع آخر باقي الآيات في الوزن فأواخر ما بعد الآية الأولى: (المصير, الرّحيم, الحكيم, الصّالحين)، وأواخر طرفي الآية الثّانية من أوّل السّورة (عظيم, شديد, مريد, السّعير, بهيج, قدير, القبور, منير, الحريق, العبيد, المبين, البعيد, العشير, يريد, يغيظ, يريد, شهيد, (يشاء), الحميم, الجلود, حديد, الحريق, حرير, الحميد, أليم, السّجود, عميق, الفقير, العتيق ..) وهكذا إلى آخر السّورة.
بل في رأيي أنَّ كلمة (سجّد) أجمل من (ساجدين) الّذي هو جمع سالم كما لم يرد اختياره إلّا في أواخر الآيات مراعاة لها في تسعة مواضع(٢٦٣)، وفي موضع آخر رعاية لما عطف عليه من الطّرفين(٢٦٤).
٢) أجمليّة (عباد) في جمع (عبد) من (عبيد) ـ في حالة تساويهما في المعنى ـ ولذلك اختير في ١١٦مورداً أُريد بمعظمها ما يساوق العبيد وببعضها ما يتضمّن معنى العبادة كما مرّ في السّبب الثّاني, ولم يرد اختيار العبيد إلّا في خمسة مواضع في أواخر الآيات من قبيل قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)(٢٦٥)، (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٢٦٦)، (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٢٦٧)، وقريب منها (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)(٢٦٨)، (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٢٦٩).
وقد مرّ في السّبب الثّاني ذكر أنَّ الرّاغب علّل اختيار العبيد بكونه أعمّ من العباد لتضمّنها معنى العبادة، لكنْ ذكرنا أنَّ لـ (عباد) إطلاقين أحدهما ـ وهو الغالب ـ لا يتضمّن هذا المعنى.
٣) أجمليّة (فجّار) في جمع (فاجر) من (فجرة). ولعلّه لذلك اختير في أثناء الآيات وأواخرها في مواضع ثلاثة:
١. (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)(٢٧٠).
٢. (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(٢٧١).
٣. (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)(٢٧٢).
واختير (فجرة) في موضع واحد مراعاة لآخِر الآية حيث قال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ *ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ﳊ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﳏ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﳖ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ )(٢٧٣) فكلمة (الفجرة) في الآية الأخيرة تحقّق لها مع الآيات الأربعة سجعاً لطيفاً, كما تحقّق لها مع ما قبلها من الآيات قرباً وتشابهاً, ولو جيء بدلها بكلمة (الفجّار) لم يكن لها وَقع.
٤) أجمليّة (كفّار) في جمع (كافر) من (كفرة)، ولذلك اختير في عشرين موضعاً(٢٧٤) وقع فيها في أثناء الكلام من غير تناسب مُلزِم، ولم يقع (كفرة) إلّا في موضعٍ واحدٍ وهو قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)(٢٧٥) رعاية لتماثلها في الوزن مع الوصف الثّاني لموصوفه وهو لفظ (الفجرة)، فلو قيل بدله (الكفّار الفجرة) لم يكن مناسباً.
٥) ولعلّ من ذلك كلمة (أنفُس) في جمع نفس بالنسبة إلى (نفوس) بناءً على تماثلها في المعنى، فإنّه لا يبعد أجمليتها منه، ولذلك اختيرت عليه في ١٥٣مورداً(٢٧٦) ولم يرد استعمال (نفوس) إلّا في موردين:
١. (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)(٢٧٧).
٢. (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ)(٢٧٨).
ولعلّ هناك مزيّة أوْلى بالمراعاة في الموردين اقتضت ترجيح كلمة (نفوس) ـ من المزايا الآتية في الأسباب اللّاحقة ـ وإلّا يبعد اختيار (أنفس) عليه في ذاك العدد الكثير مع مختلف الملابسات من غير مزيّة؛ لأنَّه نوع من الالتزام بالكلمة فلاحظ. هذا فيما يتعلّق بأمثلة هذه الظّاهرة.
٦) ويُلحق بها كلمة (أبرار) جمع (بِرّ) بالنسبة إلى كلمة (بررة) جمع بارّ ـ وهو مثال ذكره السّائل ـ فإنّهما وإنْ كانا متقاربين لفظاً، لكنّ الأُولى أجمل من الأخرى؛ ولذلك اختيرت عليها في أثناء الكلام وأواخره في مواضع شتى من القرآن الكريم ولم تُختر صيغة (بررة) إلّا في آية واحدة مراعاةً للسجع كما مرّ تفصيل ذلك في السّبب الرّابع، كما مرّ هناك أنَّ الرّاغب علّل التّفرقة بين الجمعين بما يرجع إلى تأثير اختلاف معنى مفرديهما في ذلك، وتعرّضنا لنقده تفصيلاً.
٧) وقد يُلحق بها كلمة (شهداء) جمع (شهيد) بالنسبة إلى صيغتي شهود وأشهاد
حيث اختيرت عليهما في عشرين مورداً(٢٧٩) مع مختلف الملابسات واختير (شهود) في مواضع ثلاثة وَقعَ في اثنين(٢٨٠) منها في آخر الآية لحفظ تناسبها مع ما اقترن بها من الآيات، ووقع الثّالث في قوله تعالى: (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)(٢٨١), وقد سبق في السّبب الخامس احتمال استناد اختياره فيها إلى أروعيّة تصويره لدقّة الشّهادةفي المورد,واختير (أشهاد)في موضعينوقع فيأحدهما فيآخر الآية(٢٨٢)، ورُبّما كاناختياره فيالموضع الآخر(٢٨٣) لنكتةما أوْلىبالمراعاة منقبيل مايأتي في السّبب السّابع.
ولكن في ذلك نظر وتأمّل؛ لاحتمال استناد اختياره في تلك المواضع إلى السّبب العاشر الآتي.
السّبب السّابع: أولويّة بعض الجمع من بعضٍ في آخر الجملة لتحقيق سجع، أو موازنة ونحو ذلك.
لا شكّ في أنَّ تقارب آخر الجملتين زينة للكلام يزداد به رونقاً وجمالاً، وقد تنبّه إلى أصل هذا المعنى علماء البلاغة حيث عَدّوا من جملة المحسِّنات اللّفظيّة في علم البديع السّجع والموازنة:
١. فالسّجع ـ فيما قالوا ـ توافق الفاصلتين من النّثر في الحرف الأخير. والصحيح أنَّه يعتبر فيه أو في حسنه نحو تماثل بينهما ـ في الحرفين أو الحروف الثّلاثة الأخيرة ـ في الوزن على النّحو التّالي:
أ. فإنْ كان ما قبل الحرف الأخير حرف علة(٢٨٤): فإنْ كان ألفاً وجب تماثلهما في ذلك فلا يحسُن (فِعال) مع (فعول) أو (فعيل). وإنْ كان واواً أو ياءً كان تماثلها أوْلى كـ(بعيد) و(شهيد) و(شهود) و(سجود)، وإنْ جاز أنْ يكون أحدهما واواً والآخر ياءً كـ(شهيد) و(شهود)؛ وذلك لتقارب الواو والياء وبُعدهما عن الألف.
ب. وإنْ كان ما قبل الحرف الأخير غير حروف العلة: فإنْ كان أحدهما ساكناً وجب أنْ يكون الآخر كذلك، فلا يحسُن (فَعْل) مع (فعل) بالحركات الثّلاثة في عينها كـ(عدل) مع (بطل) و(مُقُل).
وإنْ كان متحركاً كان التّماثل في نوع الحركة أوْلى، ولكن يجوز الاختلاف فيها، ومع الاختلاف يكون الاختلاف بالفتح والكسر أو بالفتح والضمّ أوْلى من الاختلاف بالكسر والضمّ؛ لأنَّ الفتحة أقرب إلى الضّمّة والكسرة من إحداهما إلى الأخرى.
ج. وإنْ كان ما قبل الحرف الأخير في أحدهما حرف علّة لم يجز أنْ يكون في الآخر حرفاً صحيحاً فلا يحسُن (بالَ) أو (فول) أو (فيل) مع (عدل).
د. وإنْ كان هناك حرف علّة قبل حرفين من الأخير في إحدى الفاصلتين لم يحسن أنْ يكون في الآخر حرف صحيح كـ(عادل) و(بطل)، بل إنْ كان ألفاً وجب كون الآخر كذلك كـ(عادل) و(فاضل). وإنْ كان واواً أو ياءً كان التّماثل أوْلى وإنْ جاز الاختلاف.
ثُمّ تقارب الكلمتين في السّجع يكون على مستويين:
الأوَّل: أنْ تكونا مختلفتين في الوزن نظير قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)(٢٨٥) ويسمى ذلك بالسّجع المطرّف.
والآخر: أنْ تكون متفقتين في الوزن تماماً نظير قوله تعالى: (فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ)(٢٨٦) ويسمى ذلك بـ (السّجع المتوازي).
وأضاف علماء البلاغة قسماً ثالثاً لاحظوا فيه توافق مجموع كلمات الجملتين وسموه بـ(السّجع المرصّع) نظير قول القائل: (هو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه)(٢٨٧). ولكن توافق سائر كلمات الجملتين ـ غير الكلمة الأخيرة ـ في الحقيقة مزيّة مستقلة لا تعلّق لها بالسّجع؛ فإنَّه من أوصاف أواخر الجمل، ولا تأثير لتماثل صدر الجملتين في زيادة جمال أواخرهما كما هو ظاهر.
وهناك نكتةٌ أُخرى في الموضوع هي: أنَّه قد يفرض اختلاف وزن الكلمتين في السّجع المطرّف إلّا أنَّ للاختلاف درجاتٍ ومراتب وكلما كان الاختلاف أقلّ والأوزان أقرب كان السّجع أكثر جمالاً، فليس الاختلاف الجزئي في الوزن مانعاً عن حسن الكلام بمزيد القُرب.
كما أنّه متى ما كانت حروف الكلمتين متساوية كان السّجع أكثر جمالاً من حالة اختلافهما بالزيادة والنقصان.
وهذا كلّه ممّا يشهد به الذّوق الأدبيّ.
٢. وأمَّا الموازنة فهي فيما قالوا: تساوي الفاصلتين في الوزن دون التّقفية نحو (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)(٢٨٨)، ورُبّما قسّموها إلى قسمين بلحاظ مدى تماثل أو تقارب مجموع كلمات الجملتين كما في قوله تعالى: (وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٢٨٩). ولكن هذا خلط بين مزيّتين؛ لأنَّ تماثل باقي أجزاء الجملتين مزيّة أُخرى كما مضى مثل ذلك في السّجع.
فهاتان مزيّتان تتعلقان بآخر الجمل المتعاطفة قد ذكرها علماء البلاغة.
٣. ويُضاف إلى ذلك: تقارب الفاصلتين في الوزن، فإنّه مزيّة بلاغيّة وإنْ لم تتساويا فيه على ما اعتبروه في الموازنة.
وهذه الحالة كثيرة التّحقّق في القرآن الكريم، ففي سورة الحجّ مثلاً جاء في آخر الآيات (٧-٢٣) هكذا (القبور, منير, الحريق, العبيد, المبين, البعيد, العشير, يريد, يغيظ, يريد, شهيد, يشاء, الحميم, الجلود, حديد, الحريق)، ومن المعلوم وجود نحو انسجام بينها وإنْ اختلف (المبين) وزناً مع طرفيه وكذلك (يريد)، إلّا أنّهما أوْلى ممّا لو كان بديلهما (الجبار) أو (السجّد) أو نحو ذلك.
والواقع أنَّ هذا ضربٌ من الموازنة لم يتنبّهوا له، ولكنّها موازنة ناقصة.
وبذلك تكون الموازنة مطلق تقارب الفاصلتين في الوزن، ولكنّها على مرتبتين: تامّة، وناقصة. والناقصة منها على درجات ووجوه، لكنْ يعتبر فيها ما اعتبرناه في السّجع من التّقارب في الحرفين الأخيرين، أو الحروف الثّلاثة الأخيرة, بل هي أوْلى بذلك؛ لأنَّ حسنها يرتكز على الوزن فحسب دون الاشتراك في الحرف الأخير كما كان في السّجع.
وليس الغرض في المقام استكناه المزايا البلاغيّة ولكنْ بيان هذا المقدار ممّا اقتضاه الموضوع.
من أمثلة هذه الحالة.
ولهذه الحالة موارد كثيرة في أمثلة هذه الظّاهرة اقتضى مراعاة السّجع أو الموازنة اختيار أحد الجمعين, ورُبّما كان هناك عامل أو عوامل أُخرى أيضاً موجبة لاختيار هذا الجمع, كما رُبّما كان مراعاة السّجع أو الموازنة تقديماً لهما على مزيّة أخرى.
ويمكن تقسيم تلك الأمثلة(٢٩٠) إلى قسمين:
القسم الأوَّل: الجموع الّتي لم ترد إلّا في آخر الآية، وفي هذا القسم لم نستبعد أنْ يكون اختيار تلك الجموع مراعاةً للسّجع أو الموازنة؛ تقديماً لها على مزيّة أُخرى ـ كالجمال اللّفظيّ ـ وهي ثلاثة:
٢. (عبيد) في جمع (عبد) ورد في خمسة مواضع واختير (عباد) في (١١٦) مورداً آخر كما مَرّ هناك, وتوقف السّجع والموازنة على صيغة (عبيد) ممّا يظهر بمراجعة تلك الآيات وطرفيها.
٣. (فجرة) في جمع (فاجر) ورد في مورد واحد واختير عليه (فجّار) في ثلاثة مواضع كما مَرّ تفصيل القول فيه هناك أيضاً.
ويلحق بها اختيار (بررة) على (أبرار) في موضع واحد، وقد اختير (أبرار) في ستة مواضع كما سبقت الإشارة إليه هناك، ومضى تفصيل القول فيه في أوّل السّبب الرّابع.
القسم الآخر: الجموع الّتي وردت في آخر الآية تارة، وفي أثنائها أخرى، والغالب فيها وجود مزيّة أُخرى مقتضية لترجيحها على بديلاتها, إلّا ما احتملناه في (أشهاد) و(شهود) ـ في آخر البحث عن السّبب السّادس ـ و هي كما يلي:
١. (الذّكور) في جمع (ذكر) ورد في موضعين:
أحدهما: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)(٢٩٢).
والآخر: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا)(٢٩٣).
وهو في الموضع الأوّل يناسب جميع آيات تلك السّورة عدا ست آيات هي: الآية (٢٥ و٣٦ـ ٤٠)(٢٩٤) وأواخرها من رقم (٤١) إلى آخر السّورة (سبيل, أليم, الأمور, سبيل, مقيم, سبيل, نكير, كفور, الذّكور, قدير, حكيم, مستقيم, الأمور) فهذه الكلمة تحقّق للآية سجعاً وموازنة بالنسبة إلى سائر تلك الآيات ـ على اختلاف مستوياتهما ـ.
وأمّا في الموضع الآخر فرُبّما كان اختياره مستنداً إلى السّبب العاشر الآتي.
وقد اختير عليه كلمة ذكران في موضعين(٢٩٥) في الأثناء، كما سيأتي ما يحتمل في وجهه في السّببين التّاسع والعاشر.
٢. (شهود) في جمع (شاهد) ورد في مواضع ثلاثة اثنان منها في آخر الآية..
الأوّل: (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ)(٢٩٦).
وأواخر آيات السّورة: (البروج, الموعود, مشهود, الأخدود, الوقود, قعود, (شهود), الحميد, شهيد, الحريق, الكبير, لشديد, يعيد, الودود, المجيد, يريد, الجنود, ثمود, تكذيب, محيط, مجيد, محفوظ).
الثّاني: (وَبَنِينَ شُهُوداً)(٢٩٧).
وأواخر بعض طرفيها من الآيات: (النّاقور, عسير, يسير, وحيداً, ممدوداً, شهوداً, تمهيداً, أَزِيد, عنيداً, صعوداً).
الثّالث: (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)(٢٩٨).
فاختيار (شهود) في الموضعين الأوَّلين ممّا يتوقّف عليه السّجع والموازنة وإنْ كان مشتركاً مع (أشهاد) في الحرف الأخير؛ لأنَّهما لا يتحقّقان إلَّا بين ما يكون قبل آخره ألفاً وبين ما كان قبل آخره واواً، أو ياءً كما تقدّم.
وأمَّا في الموضع الثّالث فقد سبق ما يحتمل في وجهه في السّبب الخامس.
٣. وورد (أشهاد) في جمع (شاهد) في موردين:
الأوَّل: (وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ)(٢٩٩).
الآخر: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)(٣٠٠). وأواخر بعض طرفيها من الآيات (النّار, الغفار, النّار, العباد, العذاب, العذاب, النّار, العباد, العذاب, ضلال, الأشهاد, الدّار, الكتاب, الألباب, الإبكار) فهو في الآية الثّانية يحقّق لها موازنة وسجعاً بالنسبة إلى طرفيها ولا تحقّق ذلك كلمة (شهود) لما تقدّم.
وأمَّا اختياره في الموضع الأوّل فرُبّما كان مستنداً إلى السّبب العاشر الآتي.
٤. (أموات) في جمع (ميت) ورد في خمسة مواضع(٣٠١) وقع في أحدها في آخر الآية وهو قوله تعالى: (أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً)(٣٠٢) وطرفيها (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً)(٣٠٣) و(وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً)(٣٠٤)، ولو اختير (موتى) لم يتحقّق السّجع في ذلك.
وأمَّا اختياره في سائر المواضع فرُبّما كان مستنداً إلى بعض الأسباب الآتية.
٥. واختير (موتى) في (١٧) موضعاً كان في أحدها في آخر الآية, وهو قوله تعالى في آخر سورة القيامة: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)(٣٠٥), وأواخر ما قبلها (صلّى, تولّى, يتمطّى, فأوْلى, فأوْلى, سدى, يمنى, فسوّى, الأنثى) فلو اختير (أموات) لم يتحقّق التّماثل بين أواخر الآيات.
وأمَّا اختياره في سائر المواضع فقد يستند إلى بعض الأسباب الآتية.
٦. (عباد) في جمع (عبد) ورد في (١١٦) موضعاً وقع في ثمانية مواضع في آخر الآية(٣٠٦). وقد تقدَّم وجه اختياره على (عبيد) في السّبب الأوّل والسّادس.
٧. (شداد) في جمع (شديد) فإنّه ورد في مواضع ثلاثة: وقع في أحدها(٣٠٧) في آخر الآية وهو قوله تعالى: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً)(٣٠٨)، وهو قريب من سائر الكلمات الواقعة في أواخر آيات السّورة فمن طرفيها (مهاداً, أوتاداً, أزواجاً, سباتاً, لباساً, معاشاً, (شداداً) وهّاجاً, ثجّاجاً).
٨. ويلحق بها (أبرار) في جمع (برّ) فإنَّه ورد في ستّة مواضع وقع في اثنين منها في آخر الآية، كما تقدّم في البحث عن السّبب الرّابع.
السّبب الثّامن: أولويّة بعض الجموع من بعض في أثناء الجملة لتحقيق توازن لها مع جملة أخرى.
لا شك في أنّ تماثل وزن الجملتين المتعاطفتين أو تقارب وزنهما مزيّةٌ لفظيّةٌ في الكلام. وقد تنبّه لذلك علماء البلاغة إلّا أنّهم لم يذكروا ذلك كمزيّة مستقلّة وإنّما ذكروها في أقسام السّجع والموازنة.
الأوَّل: أنْ تكون الفاصلتان متساويتين كقوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﲊ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)(٣١٠).
الثّاني: أنْ يكون الثّاني أطول من الأوّل، لا طولاً يخرجه عن الاعتدال كثيراً، وإلّا كان قبيحاً.
الثّالث: أنْ يكون الآخر أقصر من الأوّل وهو عندي عيب فاحش؛ لأنّ السّمع قد استوفى أمده في الأوّل بطوله فإذا جاء الثّاني قصيراً يبقى الإنسان عند سماعه كمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثر دونها.
٢. وذكر بعضهم في أقسام الموازنة تماثل جميع ألفاظ الجملتين(٣١١) أو تقاربها من حيث الوزن من غير اختصاص بالكلمة الأخيرة من قبيل قوله: (وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٣١٢).
وقد سبق أنّ هذه المزيّة مزيّة مستقلّة لا تعلّق لها بالسّجع والموازنة.
وأيّاً كان فقد يخرّج على هذا السّبب بعض موارد الأمثلة السّابقة, منها:
١. اختيار (النّفوس) على (الأنفس) في قوله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﱾ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ)(٣١٣).
فإنّ (نفوس) هو المناسب مع (النجوم) و(الوحوش)، بل مع (البحار) و(الجبال) لكون ما قبل الآخر في كلّ منهما حرف علّة وإنْ كان أحدهما واواً والآخر ألفاً، إلّا أنّ أحدهما إلى الآخر أقرب منهما إلى الحرف الصّحيح.
ويلاحظ: أنّه لا يمكن أنْ يعلّل بهذا السّبب ما أمكن فيه تغيير الجملة المعطوفة على وجه يتناسبان حتّى مع الجمع الآخر وزناً كما في قوله تعالى:(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(٣١٤)، فإنّه لا يصحّ تعليل اختيار (الأبرار) على (البررة) بوجود (الفجّار)، أو تعليل اختيار (الفجّار) على (الفجرة) بالّتناسب مع (الأبرار) لإمكان تغييرهما معاً فيقال: (إنَّ البررة لفي نعيم. وإنَّ الفجرة لفي جحيم).
وممّا قد يُفسّر بهذا السّبب اختيار كلمة (أبرار) على (بررة) في قوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ)(٣١٥)؛ لأنّها تجعل صدر الآية الأولى كالثانية محتوياً على الألف.
ملاحظة: قد ذكر علماء البديع طائفةً من المزايا المعنويّة واللّفظيّة في الكلام إلّا أنّ جملة منها لاتخلو في أصلها عن ملاحظات كمايسمّى بالإرصادوالإدماج والجمع(٣١٦).
كما أنّ جملة أخرى منها وإنْ لم تخلُ عن نكتة إلّا أنّه ممّا لا يليق بالكلام القرآني من قبيل التّورية والتّوجيه(٣١٧). ولم نجد في باقيها ما يمكن أنْ يُفسّر به جانب من هذه الظّاهرة ـ عدا السّجع والموازنة الّذين سبقا في السّبب السّابع ـ فلاحظ.
السّبب التّاسع: أولويّة بعض الجموع من بعض لتحقيق تماثل أو توازن مع كلمة أخرى في نفس الجملة.
وهذه أيضاً مزيّة لفظيّة ظاهرة بالذّوق الأدبيّ, بل هي في داخل الجملة كالسّجع والموازنة في آخرها، وإنْ لم نطّلع على ذكر علماء البلاغة لها, وهي تكون على أنحاء..
النّحو الأوَّل: أنْ يكون لتناسب الموصوف والوصف، والمقصود بهما ما يعمّ الوصف في المصطلح النّحوي فيعمّ الحال والخبر ونحو ذلك, ومن أمثلة ذلك في غير هذه الظّاهرة اختيار (الباقيات) على (البواقي) في جمع (باقية) في قوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)(٣١٨)، (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا)(٣١٩)، ولم أطّلع على مثال لهذا النّحو في هذه الظّاهرة.
النّحو الثّاني: أنْ يكون لتناسب وصفين لموصوف واحد، ومن ذلك..
١، ٢. اختيار (أشدّاء) دون (شداد) في جمع (شديد) لتناسبه مع (رحماء) في قوله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)(٣٢٠). وعكس ذلك لتناسب (شداد) مع غلاظ في (مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ)(٣٢١).
٤. اختيار (أموات) على (موتى) في جمع (ميّت) لتناسبه مع الأحياء في قوله: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)(٣٢٥).
ومن أمثلته في غير هذه الظّاهرة اختيار الجمع السّالم لـ (ساجد) و(راكع) على جموع التّكسير في قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ)(٣٢٦).
النّحو الثّالث: أنْ يكون لتناسب المعطوف والمعطوف عليه، ومن أمثلة ذلك..
١. اختيار (إخوان) لِتناسبه مع (آباء) و(أبناء) و(أزواج) و(أمّهات) وغيرها باعتبار احتوائها على الألف، على صيغة (إخوة) في عدة آيات..
(منها): (لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ)(٣٢٧)، (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ)(٣٢٨)، (أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ)(٣٢٩)، (فَإِنْ لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ)(٣٣٠)، (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ)(٣٣١)، (لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ)(٣٣٢).
٢. اختيار (ذُكران) على (ذكور) في جمع (ذَكر) لمماثلته مع (إناث) في احتوائهما على ألف قبل الآخر في قوله تعالى: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً)(٣٣٣).
٣. اختيار (صحاف) على (صُحُف) في جمع (صحيفة) لمماثلته مع (أكواب) في احتواء الألف في الوسط في قوله تعالى (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ)(٣٣٤)، وقد مرّ القول فيهما في السّبب الخامس.
٤. اختيار (عباد) على (عبيد) في جمع (عبد) لمماثلته مع (إماء) وزناً في قوله تعالى: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)(٣٣٥).
٥. اختيار (أموات) على (موتى) في جمع (ميّت) لمناسبته مع الأحياء في (وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ)(٣٣٦)، و(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(٣٣٧)، (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ)(٣٣٨)، (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً ﱤ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً)(٣٣٩).
٦. اختيار (أنفس) على (نفوس) لمناسبته مع (أموال) أو(أهلي) في ابتداء كل منها بالهمزة نحو: (ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(٣٤٠)، (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ)(٣٤١)، (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ)(٣٤٢).
الرابع: أنْ يكون على غير الأنحاء السّابقة, ومن أمثلة ذلك..
١. اختيار (كفّار) على (كفرة) في جمع (كافر) في قوله: (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)(٣٤٣)، لتناسبه مع (الدّار) دون كفرة.
٢. ونظير ذلك قوله تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)(٣٤٤)، لتناسبه مع كلمة (رحماء).
٣. وكذلك قوله: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ)(٣٤٥)، لتناسبه مع (أولئكم).
ومن أمثلته في غير هذه الظّاهرة اختيار لفظ (بريئون) في جمع (بريء) على جموع تكسيره ـ وهي (بِراء وبُراء وأبراء وأبرياء) ـ في قوله تعالى: (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)(٣٤٦)؛ لأنّ لفظ الجمع السّالم أنسب مع (بريء) من جهة انحفاظ هيئة المفرد فيه بخلاف الجمع المكسّر.
هذا، ولا يصحّ تعليل هذه الظّاهرة بهذا السّبب فيما إذا اقترن الجمع المختار بما يناسبه وبما يناسب الجمع الآخر جميعاً من قبيل (إخوان) في قوله تعالى: (وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)(٣٤٧)، إذ لو قيل (إخوتهم) مكانه لناسب (عشيرتهم) كما يناسب (إخوانهم) كلمتي (آبائهم وأبنائهم)، ولعلّ من ذلك اختيار كلمة (أنصاب) على (نُصُب) في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ)(٣٤٨)، فإنّ صيغة (أنصاب) وإنْ ناسبت (الأزلام) لكن (النُصُب) يناسب الخمر والميسر، إلّا أنْ يكون التّناسب المذكور أشدّ من جهة تماثل الأزلام والأنصاب في الوزن تماماً، واختلاف (النصب) مع (الخمر والميسر) اختلافاً تامّاً فلو جيء بـ(نُصُب) كان نمطاً آخر, أو يكون التّناسب بين الأزلام والأنصاب أولى بالمراعاة من جهة انفراد (الأزلام) بحسب وزنه في الجملة. وأمّا (الخمر والميسر) فهما اثنان، وهذا ليس ببعيد وإلّا رُبّما تعيّن اختيار (النُصُب) مراعاة لاختصاره اللّفظي.
وكذلك لا يصحّ تعليلها بذلك مع إمكان تغيير في الجملة بما يناسب الجمع الآخر كاختيار (سُجَّد) في قوله: (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً)(٣٤٩)، فإنّه وإنْ كان مناسباً بتماثله مع (ركّع) دون (سجود) إلّا أنّ بالإمكان تبديل (ركّع) نفسه إلى (ركوع) فإنّه وارد في اللّغة وإنْ لم يستعمل في القرآن الكريم فيتماثلان أيضاً.
السّبب العاشر: أجمليّة الجملة مع أحد الجمعين منها مع الجمع الآخر.
لا تتحقّق الأجملية بحصول تماثل وتوازن بين كلمتين فيها ـ كما مرّ في السّبب التّاسع ـ
وإنّما لحصول نحو آخر من الانسجام بينها. وهذا النّحو ـ في الجملة ـ يماثل الجمال اللّفظي في الكلمة ـ الّذي مضى في السّبب السّادس ـ فكما أنّ ذاك وليد اجتماع حروف خاصّة بكيفيات خاصّة مقاسة بالمعنى، فكذلك حال هذا النّحو في الكلام وليس الفرق بينهما إلّا في أنّ موطن هذا هو الجملة وموطن ذاك هو الكلمة المفردة.
ومن ذلك يظهر أنّ المعيار في تشخيصه هو الذّوق الأدبي الرّفيع ـ كما في الجمال اللّفظي للكلمة ـ ولا سبيل إلى استخراج ضابط له؛ لأنّه في كلّ مورد وليد حالة جزئيّة تختصّ به، فرُبّما كان الموضع في الجملة يتطلّب كلمة قصيرة وأخرى كلمة طويلة, كما قد تتطلّب كلمة تحتوي على ارتفاع بالألف أو نزول بالواو أو هبوط بالياء، وقد تتطلّب كلمة أُدغم أحد حرفيها في الآخر، أو كلمة لم يقع فيها ذلك(٣٥٠) إلى غير ذلك ممّا يدرك بالذّوق الأدبيّ.
وهذه النّقطة أيضاً من أخفى النّواحي الفنية الّتي لم أجد من نبّه عليها من الباحثين من قدامى ومحدَثين رغم أنّها في رأيي من أهمّ العوامل الموجبة لاختيار بعض الكلمات على بعض في الكلام القرآني، ولكنْ قلَّ مَنْ يدركه من أبناء اللّغة العربية في العصور المتأخّرة.
والعامل الّذي يدور عليه هذا النّحو من الجمال هو مدى تناسب وزن الكلمة مع وزن ما يحيط بها في الجملة، فإنّ لأوزان الجملة الواحدة تداخلاً خاصّاً، ومن أمثلة هذه الحالة ـ في غير هذه الظاهرة ـ استعمال كلمة (أبناء) و(بنين) في القرآن الكريم في حالة الإضافة فنجد أنّه كلّما أضيف إلى كلمة (إسرائيل)، كما في (٤١) مورداً استعمل كلمة (بني)، وكذا حيث أضيف إلى (آدم) كما في (٧) موارد، وحيث أضيف إلى (إخوان) في موردين.
نعم، في موارد ثلاثة أضيف (أبناء) إلى (إخوان) مراعاة للتوازن بين المعطوف والمعطوف عليه كما مرّ في السّبب السّابق. وحيث أضيف إلى كلمة (الله والذين) استعمل (أبناء) فكأنّهما يتطلّبان مضافاً طويلاً ولا يناسب مضافاً مختصراً كـ(بني) على ما هو محسوس وجداناً.
وعلى عكس ذلك حيث أضيف إلى الضّمير فإنّه اختير (أبناء) سواء أكان الضّمير (هم) أو (نا) أو (كم) أو (هم) إلّا ياء المتكلّم في مقام النّداء ونحوه فإنّه قيل (بنيّ) لجمالها مع (بني) دون (أبناء)، وهذا المثال ممّا يوضح مدى دقّة الانتقاء القرآني في ملاحظة انسجام أوزان الكلمات كما يبيّن مدى عدم قبول هذا المعنى لضابطة عامّة.
فكثيراً ما يبدو للإنسان اعتبارات يظنها علّة في حسن وقع الكلمة في الجملة فيجد مواضع أخرى توجد فيها نفس العلّة ولا يحسن فيها الكلمة ذاتها ـ كما يظهر بالممارسة والتتبع ـ ومن ذلك أنّه قد يتراءى للإنسان أنّ المضاف كلّما كان أخف كان أولى؛ لأنّ الإضافة تجعل الكلمتين قريبتين من كلمة واحدة فيجتمع ثقلهما، وتخفيف هذا الثّقل مع إمكانه مزيّة بلاغيّة؛ ولذلك عدّ علماء البلاغة تتابع الإضافات مخلّا ً بفصاحة الكلام كقول القائل(٣٥١): (حمامَةَ جَرعا حَوْمَةِ الجَنْدَلِ اسْجَعي)، ولذلك تجد أنّه اختير (بنو) على (أبناء) كلما أضيف إلى (إسرائيل) كما تقدّم.
لكن بالتتبع يظهر أنّ هناك حالات لا يحسن فيها تخفيف المضاف كما عرفت في إضافة (بني) إلى (الله والذين) وما شابههما كـ(الّذي) و(الّتي) و(اللّات) ونحو ذلك. وكذا الحال مع الإضافة إلى الضّمير إلّا في ضمير المتكلم، ولذلك ينبغي أن يكون ذكر العلّة على سبيل التّقريب والتوضيح فقط، لا على سبيل العلّة المنطقية الّتي تمثّل السّبب الواقعي ويكون مطّرداً لا محالة.
ويلاحظ أنّ جانباً كبيراً من إعجاز القرآن في رأيي مدلول لهذا الضّرب من التّناسق الوزني بين الكلمات في الجملة القرآنية فتأمّل جيداً قوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ترى حسناً عظيماً في جمال وزن الجملة حيث ابتدأ بكلمة خالية عن الألف، ثُمَّ بكلمتين تتوسّطهما الألف، ثُمَّ استراح إلى كلمة ما قبل آخرها ياء حتى يخيّل إلى الباحث أنّ اللفظ ينطلق من نقطة فيرتفع ثُمَّ ينحدر ثانياً كالخط التّالي () فإنّ الألف تمثّل حالة ارتفاع، والياء حالة انحدار ونزول، ولو قلبت الكلمات فيها ـ بغض النّظر عن المعنى ـ فقلت (بسم الله الرّحيم الرّحمن) وجدت ارتباك وزن الجملة فإنّ ذكر (الرّحمن) بعد (الرّحيم) قيام بعد استراحة في آخر الجملة. ولو حذفت لفظ (الرّحمن) وجدت قصراً غير مناسب في وزنها، ولو حذفت لفظ (الرّحيم) وجدت الجملة كأنّها مبتورة وزناً في حدّ ذاتها، ومن أمعن النّظر حقّه وأنصف وكان له ذوق في ذلك لوجد منه أمراً عجيباً جدّاً، لاسيّما أنّ هذه المرحلة من مراعاة وزن الجملة وموسيقاه لم يكن عن تنازل عن شيء ممّا يقتضيه المعنى، بل المعاني المختارة إنّما اختيرت أيضاً على أعلى أسس الانتقاء في مراعاة النّكات والتّناسبات، فمن نظر إلى ألفاظ القرآن ومعانيه وجد أنّ كُلّاً منها كأنّه اختير في حالة من الحريّة بالنسبة إلى الآخر للمحافظة على أعلى درجات الانتقاء والاصطفاء في كلتا المرحلتين ممّا مثّل الإعجاز في أوضح معانيه في النّصّ القرآني.
ولذلك ليس من العجيب أنْ تجد اجتماع هذا السّبب مع الأسباب السّابقة في مقتضياتها، بمعنى أنّ الكلمة الّتي اقتضت الأسباب المعنوية واللّفظية اختيارها كانت في نفس الحالة أمراً ضرورياً في وزن الجملة حتى يعجب الباحث في أنّه كيف اجتمعت الخصال المختلفة في تلك الكلمة فكان اختيارها استجابة لجميع المناسبات.
وفي رأيي أنَّ أغلب موارد تلك الأمثلة كان اختيار الجمعين متأثّراً بهذا السّبب ونحن نتعرض لعدة أمثلة مقرّبةً وجه اقتضاء وزن الجملة لأحد الجمعين دون الآخر، ثُمَّ نذكر مثالاً للباقي من غير توضيح.
١. اختيار (ذُكْرَان) على (ذُكُور) في قوله تعالى: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ)(٣٥٢)، فإنّه يحقّق للجملة وزناً مناسباً بطوله، بينما لو بدّل بـ (ذكور) سقط وزن الجملة كما يدركه الذّوق الأدبيّ. ولا شكّ أنّ للجملة في نفسها أوزاناً مناسبة وأوزاناً غير مناسبة وإنْ لم يمكن تحديد ذلك، وأوزان الكلام القرآني ـ الّتي هي ضرب بديع من النّثر لم يسبق إليه ـ أوزان متناسبة وإنْ اختلفت طولاً وقصراً.
فإنْ قيل: إنّه لو استعمل لفظ (الذّكور) لكان وزن الجملة أقصر، وهو لا يوجب إشكالاً.
قلنا: إنّ القصر على نوعين: (فتارة): يكون قصراً في نوع الوزن وذاته، وهو غير قادح، بل غالب الأوزان الحسنة قصيرة؛ لأنّ الوزن أكثر تمثّلاً في الجملة القصيرة منه في الجملة الطّويلة. (وأخرى): يكون قصراً في الجملة عن لحوق الوزن الطّويل أو القصير المناسب، وهو مخلّ ببلاغة الكلام، والفرق بين النّوعين لا يُدرَك إلّا بضرب من الذّوق الأدبيّ الدّقيق.
٢. اختيار (شِيَع) على (أشياع) في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ)(٣٥٣)، فإنّه لمكان قصره أنسب باختياره في مقام الإضافة إلى كلمة طويلة كـ(الأوّلين) وقد اختير (أشياع) في موردين آخرين أُضيف فيها إلى الضّمير؛ نظراً إلى قصر لفظ الضّمير، وهما قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ)(٣٥٤)، وقوله تعالى: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ)(٣٥٥).
وقد يعلّل بمثل هذا السّبب عدّة موارد من غير هذه الظّاهرة ـ فيما يدور الأمر فيه بين اختيار الجمع السّالم أو جمع التّكسير ـ فإنّ الجمع السّالم بحذف نونه في حالة الإضافة يكون أخفّ..
(منها): اختيار (أهلون) على (أهال) و(آهال) في جمع (أهل) في مواضع ستّة من القرآن الكريم أُضيف فيها جميعاً فحذفت نونه كقوله تعالى: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ)(٣٥٦)، ونظيره: (وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(٣٥٧)، (مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)(٣٥٨)، (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا)(٣٥٩), (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ)(٣٦٠)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ)(٣٦١).
(ومنها): اختيار (بنين) على (أبناء) في مواضع كثيرة(٣٦٢) أُضيف فيها فإنّه وإنْ كان أخفّ منه ـ حيث ينقصه بحرف ـ لكنّ حذف النّون بالإضافة يجعل الفصل بينهما أكثر, وقد اختير صيغة (بَنين) في القرآن الكريم كلّما أُضيف جمع (ابن) إلى الظّاهر، فأُضيف إلى (إسرائيل) في (٤١) مورداً وإلى (آدم) في (٧) موارد، وإلى (إخوان) في موردين ممّا يشير إلى أنّ اختياره لطلب الخفّة. ولم يرد (أبناء) مضافاً إلى الظّاهر إلّا إلى كلمات أربعة:
كلمة (الله) في قوله: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)(٣٦٣)، وقد اقتضاه فيها التّناسب مع الأحبّاء. وكلمة (الّذين) في قوله: (قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ)(٣٦٤)، وقد يُفسّر ذلك باقتضائه التّناسب مع (نساء)، لكن يمكن تبديلها بـ (النّسوة) المستعملة في القرآن الكريم. وكلمة (إخْوَانِهِنَّ) و(أخَوَاتِهِنَّ) في موارد ثلاثة(٣٦٥)، ورُبّما أوجب تكافؤ (أبناء) فيها مع (بنين) ذِكرُه من قبله فكان تكراره موجباً لضرب من التّماثل بين الكلمات المتعاطفة. والظاهر أنّ اختيار (أبناء) مع (الله) و(الّذين) من جهة ضرب من أنسبيّته معهما، فإنّ الموضع قد يتطلَّب كلمة طويلة.
وقد اختيرت كلمة (أبناء) كلما أُضيف جمع (ابن) إلى الضّمائر (كم, نا, هن, هم) ممّا يشير إلى أنّ المضاف إلى الضّمير يحسن أنْ يكون طويلاً في الجملة لقصر لفظ الضّمير.
نعم، كلّما أضيف إلى ياء المتكلم اختيرت (بنون) فقيل (بَنيّ) ـ كما في مواضع أربعة ـ ولعلّه لجمالها معهمطلقاً أوفي مقامالنّداء كما فيقوله تعالى:(يا بَنيّ)(٣٦٦)،وعلى الثّاني يكون اختياره في(وَاجْنُبْنِيوَبَنِيَّ)(٣٦٧)،مراعاة للتناسبمع لفظ(اجنبني) الخاليعن الألف.
٣. اختيار كلمة (السُّجود) على (السُّجَّد) في قوله تعالى: (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(٣٦٨)، وقريب منها (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(٣٦٩)، فإنّ كلمة (الرُّكّع) ثُمّ (السُّجود) بعد (العاكفين) تُحقّق انحداراً طبيعياً للكلام من الأعلى إلى الأدنى لترتيبها في الوزن، فكلمة (عاكفين) كانت الأثقل بطولها ومدّها (بالألف)، ثُمّ كلمة (ركّع) بتشديدها, ثُمّ استراح الكلام إلى كلمة (السُّجود) الحاوية في آخرها للمدّ الواويّ. ولو قيل مكان (الرُّكَّع) (الرُّكوع) على وزن (السُّجود) لرُبّما كان الانتقال إليه من (العاكفين) كالسُّقوط من الأعلى، وكان الانتقال منه إلى السُّجود بعد كمال انحدار الوزن انتقالاً لم يقتضه الوزن، ولو اختير مكان (السُّجود) كلمة (السُّجَّد) لم يتحقّق انحداراً من (الرُّكّع) إليه، بل كان الانتقال إليه بعد كمال الوزن، ولكن كلمة (السُّجود) أوجبت انحدارَ الوزن إليه، فإنّ في اختيار الكلمة المحتوية في أواخرها على الواو والياء في آخر الجملة انحداراً طبيعيّاً لها؛ ولذلك كان وقوع مثل هذه الكلمة في آخر الكلام يحقّق له توازناً خاصّاً، كما يكثر ذلك في القرآن الكريم.
وقد مرّت الإشارة إلى هذه النّكتة في السّبب السّادس.
٤. وعلى عكس ذلك اختيار (سُجَّد) على (سجود) في قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداًوَقِيَاماً)(٣٧٠)، فإنّه لثقله بالتشديد كان أوْلى قبل(قياماً)؛ فإنّاللّفظة الّتي تحتوي على الألف من قبيل اللّفظ القائم، والانتقال إليها انتقال إلى ارتفاع ـ بملاحظة طبيعة المدّ الألفيّ ـ ،كما أنّاللّفظة الّتيتحتوي علىالواو قبلآخرها منقبيل اللّفظالقاعد، واللّفظة الّتي تحتوي على الياء من قبيل اللّفظ المضطجع بتناسب طبيعة المدّ الواوي واليائي.
وعليه: فاختيار لفظ (سُجّد) قبل (قياماً) كان يُحقّق الارتفاع الطّبيعي لوزن الجملة ولو اختير لفظ (سجود) كان الارتفاع غير طبيعي؛ لخفّة هذا اللّفظ وتناسبه للاستراحة به، فيكون الارتفاع بعده مخلاً بوزن الجملة. وهذا كلُّه ظاهر بالذّوق الأدبيّ.
وأمّا عدم اختيار (سجود) على (سُجَّد) في قوله تعالى: (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً)(٣٧١)؛ فلأنّه وإنْ كان يحقّق انحداراً للكلام لكن لم يكن بحاجة إليه، لأنّه في وسط الكلام, بل كانت رعاية التّماثل مع رُّكّع ـ بعد اختياره ـ أوْلى.
وأمّا عدم تبديل (رُّكَّع وسُجَّد) جميعاً إلى (ركوع وسجود) في الآية فرُبّما كان من جهة تناسب الموضع مع اللّفظ الثّقيل، فإنّه لا حاجة إلى انحدار الوزن في وسط الجملة, وهذا يُنبّه الباحث على أنّ أيّة مزيّة ليست مزيّة مطلقة، بل لكلٍّ منها موضع، وللتزاحم بينها أحكام.
فهذه أمثلة أربعة أوضحنا خلالها نكات نوعيّة تقريباً.
وفيما يأتي أمثلة أخرى قد يصعب تحليل النّكتة فيها ـ اللهمّ إلّا بمزيد من الممارسة والتتبع ـ وإنّما نذكرها إيكالاً لمعرفة السّبب فيه إلى الذّوق الأدبيّ، فعلى النّاظر أنْ يستبدل أحد الجمعين المستعملفيها إلىالجمع الآخرفيختبر فيهاتفاضل جمالالكلام في الحالين.
١. أفضليّة (إخوة) من (إخوان) بتركيبه الخفيف في أكثر موارد انتخابه (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ)(٣٧٢)، (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ)(٣٧٣)، (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)(٣٧٤)، (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً)(٣٧٥).
٢. أفضليّة (إخوان) بتركيبه الثّقيل في أكثر موارد انتخابه كقوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)(٣٧٦)، (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)(٣٧٧)،(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)(٣٧٨)... الخ.
٣. أفضليّة (أسرى) من (أُسارى) بتركيبه الخفيف في (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ)(٣٧٩)، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِّـمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِّنْ الأَسْرَى)(٣٨٠).
٤. أفضليّة (آلاف) من (ألوف) بتركيبه الممدود بالألف في (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ)(٣٨١), ( يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)(٣٨٢).
٥. وعكس ذلك بأفضليّة (ألوف) بتركيبه الواوي في (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ)(٣٨٣).
٦. أفضليّة (ذكور) بتركيبه الواويّ من (ذُكران) بتركيبه الألفيّ في قوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)(٣٨٤)، ولعلّ وجهه انحدار التّركيب الواويّ بعد تركيب (يشاء) الألفيّ كما قد يظهر ممّا سبق أوّلاً.
٧. وأفضليّته أيضاً في قوله: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا)(٣٨٥) رغم تناسب (أزواجنا) (ذُكراننا)، ولعلّ وجهها تكرّر النّون بالإضافة فيما لو استخدم (ذكران).
٨. أفضليّة (سُجَّد) بتركيبه الثّقيل بالتشديد من (سجود) في أكثر مواضع انتخابه كقوله: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً)(٣٨٦) ، (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً)(٣٨٧).
٩. أفضليّة (شهود) ـ بتركيبه الخفيف ـ في قوله تعالى: (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)(٣٨٨).
١٠. وعكس ذلك في غالب المواضع حيث كان الأفضل كلمة أطول إمّا (أشهاد) أو (شهداء) الممتاز بتركيبه الطّويل الممدود كما في قوله: (وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ)(٣٨٩)، (وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)(٣٩٠)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)(٣٩١)، (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)(٣٩٢).
وليرجع الباحث في ملاحظة باقي الأمثلة إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
السّبب الحادي عشر: أخفيَّة لفظ أحد الجمعين من الآخر.
وهذا الأمر يتمّ بقلّة حروفه فإنّ اختياره حينئذ يكون ضرباً من الإيجاز الّذي تقتضيه الحكمة، لكن هذه النّقطة إنّما توجب اختيار إحدى الكلمتين في حالة التّكافؤ من حيث المزايا اللّفظيّة والمعنويّة, فهي مزيّة حيث لا مزيّة أخرى ـ ولذا ناسب ذكرها في آخرها ـ .
ورُبّما يُناَقش في أصل كونه مزيّة فيقال: بأنّ المتكلّم مختار بين اللّفظين المتكافئين وإنْ اختلفا طولاً وقصراً؛ استناداً إلى وقوع ذلك في الاستعمالات القرآنيّة، فمن ذلك اختيار (أبناء) على (بَني) في قوله تعالى: (لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)(٣٩٣)، والشاهد في المضاف إلى (إخْوَانِهِنَّ وَأخَوَاتِهِنَّ) فإنّه كان يَصحّ أنْ يقال (بني إخوانهن)، كما ورد ذلك في قوله تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)(٣٩٤)، ولفظة (أبناء) في تلك الآية وإنْ كان يحقّق التّناسب مع الجموع السّابقة عليها، ولكنّ رجحان لفظة (بني) من جهة اختصارها أوجب تكافؤهما على أقلّ تقدير ولذلك اختيرت (بني) في الآية الثّانية, فلو كان يجب اختيار اللّفظ الأخصر مع التّكافؤ وجب اختيار (بني) على (أبناء) في آية الأحزاب.
ولكنَّ الصّحيح عدم اتّجاه هذه المناقشة؛ لأنَّ اقتضاء الحكمة والبلاغة لمراعاة الإيجاز أصل محكم لا غبار عليه، كما ذكره علماء البلاغة في علم المعاني, ولا شكّ في أنّ الإيجاز كما يتحقّق بقلّة الكلمات مع كثرة المعنى: إمَّا بدون حذف ـ ويسمى إيجاز القصر ـ كما قيل في قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)(٣٩٥)، وإمَّا مع الحذف لجملة أو لكلمة أو لحرف كما قالوا في (وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً)(٣٩٦)، فإنَّه كذلك يتحقّق مع اختيار اللّفظ الأخصر.
بل هذا ضرب من إيجاز القصر؛ إذْ لا حذف فيه من الكلمة وإنْ كان أشبه بحالة حذف الحرف من إيجاز الحذف؛ لأنّ الإيجاز يحصل فيهما بقلّة الحروف. فإذا كان حذف الحرف الواحد ضرباً من الإيجاز كما ذكره علماء البلاغة فإنّ الإتيان بلفظٍ أقلّ حروفاً أوْلى بذلك, بل يمكن القول بأنّ أخفيّة الكلمة يوجب لها ضرباً من الجمال الزّائد.
وأمّا الأمثلة الّتي قد يتوهم فيها اختيار اللّفظ الأطول في القرآن الكريم فهي ليست من قبيل حالة التّكافؤ بالتّحرّي والدّقّة, ففي المثال المتقدم إنّما اختيرت لفظة (أبناء) مضافة إلى الإخوان والأخوات في آية الأحزاب انسجاماً مع الجموع الثّلاثة الّتي قبلها وهي (آباء) و(أبناء) و(إخوان)، وكلمتي (نساء) و(أيمانهن) بعدها مضافاً إلى لفظتي (إخوان) و(أخوات) المضاف إليهما فهي كلمات سبعة متماثلة، فكان اختيار (أبناء) على (بني) جرياً على القاعدة السّابقة من تقديم كلّ مزيّة على الإيجاز اللّفظي، وهذا من شواهد تلك القاعدة.
وأمّا في آية النّور فإنّما عُدِل عن لفظ (أبناء) إلى (بني) لا لمجرد الاختصار، بل بملاحظة مجموع جهات ثلاثة.
فمن جهةٍ كانت الألفاظ المماثلة فيها كثيرة جداً، فقد سبقت موضع تلك الكلمة جموع خمسة (آباء, آباء, أبناء, أبناء, إخوان) ولحقها جمعان (نساء) و(أيمان) فكان المجموع مضافاً إلى لفظتي (إخوان) و(أخوات) ـ المضاف إليهما ـ ألفاظاً تسعة.
ثُمَّ إنّ كلمة (أبناء) بعينها كانت قد ذكرت مرتين قبل ذكر المضاف إلى (إخوان) و(أخوات) كما أنّ كلمة (آباء) المماثلة معها في الحروف والوزن كانت قد ذكرت مرتين فكان تكرار (أبناء) مرتين أُخريين يوجب الملل من ناحية عدد الجموع المتماثلة؛ إذْ يصبح في حالة اختيار لفظة (أبناء) إحدى عشرة لفظة، ومن ناحية التّماثل التّام أو شبه التّام بين كثير منها إذْ تتكرر لفظة (أبناء) مرات أربعة، وبإضافة لفظ (آباء) المتكرر تكون ستة, فكان اختيار (بني) يقلّل عدد الجموع المتماثلة إلى تسعة ويَنقص من حالة التّماثل التّام كلمتين. مضافاً إلى أنّه كان يوجب تنوّع الكلمات في الجملة الّتي تماثل كثيرٌ من مفرداتها.
ومن جهة ثانية: لم يكن يتوقف تماثل جملة (بَنِي إِخْوَانِهِنَّ وَبَنِي أَخَوَاتِهِنَّ) على استعمال لفظ (الأبناء) لكفاية عجزهما وهو كلمتي (إخوان، أخوات) في إيجاد التّماثل بينها وما عطف عليهما أو عُطفتا عليه.
ومن جهة ثالثة: فإنّ كلمة (بني) كانت ذات مزايا في الموضع؛ لأنّها أخصر في ذاتها، ولأنّها أنسبُ بالإضافة إلى (إخوان وأخوات) لأنّ المضاف كلما خَفّ كان أوْلى كما تقدّم في السّبب السّابق، ولذا اختيرت (بني) على (أبناء) في جميع الموارد الكثيرة الّتي أضيفت فيها إلى اسم ظاهر عدا خمسة موارد تمثّل الآية موردين منها لأسبابٍ خاصّة كما مرّ.
فبملاحظة مجموع هذه الجهات كان اختيار (بني) على (أبناء) أوْلى في هذه الآية, فلا تتماثل الحال في آيتي الأحزاب والنّور حتى كأنْ يكون اختيار (أبناء) في الأُولى دليلاً على جواز انتخاب الأطول مع وجود الأخصر واجداً لنفس المزايا.
وفي الواقع إنّ هذه الآية تضرب مثلاً رائعاً في عمق مستوى التّدقيق في مرحلة الانتقاء القرآني للكلمات, بل تعطي هذا التّعمق رقماً قياسياً لم يحضرني مثيل له فعلاً.
ثُمَّ إنّ هناك نقطة نختلف فيها مع اللّغويين تؤثّر في تشخيص عدد حروف الكلمة وهي حرفيّة الألف, والياء، والواو في مثل (شهيد وسجود) فالمعروف لديهم حرفيّة الثّلاثة وقد عدّوها ساكنة واعتبروا ما قبل الألف مفتوحاً، وما قبل الياء مكسوراً، وما قبل الواو مضموماً.
ولكنّا لا نرى حرفيّتها وإنّما نراها بحسب الوجدان الدّقيق كيفيّات على الحروف الّتي قبلها، فإنّ الفرق بين الحرف وكيفيّته حسبما قد يتراءى من كلمات الأدباء أنّ الحرف ذا جوهر خاصّ، والكيفيّة ـ كالسكون والحركات الثّلاثة ـ أنحاء تشكّل ذاك الجوهر، وكأنّه لأجل ذلك يضعون الحركات على الحروف(٣٩٧). وهذه الثّلاثة لا جوهر لها بحسب الحسّ الوجداني، بل هي كيفيّات مختلفة على الحروف في مقابل السّكون والحركات الثّلاثة، فالألف نحو ارتفاع وامتداد للحروف إلى الأعلى، والياء نحو انخفاض لها، والواو نحو ثالث.
وفي رأيي أنّه يسهل تشخيص ذلك بالتأمّل فيها: لاسيّما في الواو والياء؛ فإنّ صوت (و) و(ي) غير متحقِّق في مثل (شهيد وسجود) بداهة وإنّما يتحقّق في (وعد) و(يسر) والفرق بينهما شاسع, ومن علائم ذلك:
أوَّلاً: إنّا لا نجد حركة على ما قبلها بالدّقّة، فتأمّل (بَ) و(با) فهل تجد في الثّاني فتحة كما في الأوَّل أو امتداداً على الباء؟ ثم تأمّل في (بُ) و(بُو) و(بِ) و(بي) فهل تجد في الثّاني منهما ضمّة وكسرة كما في الأول أو حالة أخرى أشدّ من الحركتين؟
وثانياً: أنّه لو كانت حروفاً فكيف وجبت حركات خاصّة فيما قبلها! فإنّه لا تأثير لحرف في تحقّق حرف آخر، فهذا مُنّبه على أنّها حالات يظن لها نحو تسانخ مع الحركات الثّلاث فاعتبرت تلك الحركات على ما عُدّ قبلها لوضوح عدم قبول ما قبلها لحركات مباينة.
وثالثاً: أنّها لو كانت حروفاً فكيف لزمها السّكون، مع أنّ جوهر الحرف لا يُعيِّن الكيفيّة الّتي يُنطَق عليها، فإنّ أيَّ نوع من الأصوات لا يأبى النُّطق به على أنحاء متعدّدة.
ويؤكد هاتين العلامتين في الواو والياء قبولهما وما قبلهما السّكون والحركات الثّلاثة جميعاً في مثل (ظبي ودلو) ممّا يدلّ على تباين ذاتي بينهما في ذلك، في مثل (شهيد وشهود).
ورابعاً: أنّ كلّ حرف يمكن النّطق به بمفرده على نحو صوت شبه ممدود وهو غير ممكن في هذه الثّلاثة، ولو كانت حروفاً صلحت لذلك ـ حتى لو قُدِّر أنّها ساكنة ـ فإنّ الابتداء بالساكن إنْ كان محالاً في النّطق بحرفين فإنّه لا شكّ في إمكان إيجاد الصوت الحرفيّ من غير حركة. فهذه منبِّهات على أنّ الثّلاثة ليست بحروف.
ولا بُدَّ لتوضيح تأثير هذا السّبب في تفسير تلك الظّاهرة من المقارنة بين الجموع الماضية في أمثلتها في جدول، ثمَّ الإشارة إلى بعض الموارد الّتي يصحّ أو يحتمل استنادها إليه.
وفيما يلي هذا الجدول ـ مع الإشارة فيه إلى الفرق بين رأينا ورأي اللّغويين ـ في حرفيّة الثّلاثة:
|
|
إخوة | أقلّ من |
إخوان |
بحرف على رأي اللّغويين وبحالة(٣٩٨) على رأينا |
|
|
أسرى | أقلّ من |
أُسارى |
بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا |
|
|
أُلوف | أقلّ من |
آلاف |
بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا |
|
|
اللاتي | مساوية |
اللاتي |
في الحروف والحالات |
|
|
خلفاء | مساوية |
خلائف |
في الحروف والحالات |
|
|
ذكور | أقلّ من |
ذُكران |
بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا |
|
|
سجود | أقلّ من |
سُجّد |
بحرف على رأينا وتزيد عليه بحالة. |
|
|
أساور | أقلّ من |
أسورة |
بحرف على رأينا وتزيد عليه بحالة. |
|
|
شداد | أقلّ من |
أشداء |
بحرفين |
|
|
شهود | مساوٍ مع |
أشهاد |
في الحروف والحالات |
|
|
شهور | أقلّ من |
أشهر |
بحرف على رأينا وتزيد عليه بحالة |
|
|
شِيعَ | أقلّ من |
أشياع |
بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا |
|
|
صحف | أقلّ من |
صِحاف |
بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا |
|
|
ضِعاف | أقلّ من |
ضعفاء |
بحرف |
|
|
عبيد | مساوٍ مع |
عباد |
في الحرف والحالات |
|
|
فجرة | أقلّ من |
فجّار |
بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا |
|
|
كفرة | أقلّ من |
كفّار |
بحرف على رأي اللّغويين وبحالة على رأينا |
|
|
موتى | أقلّ من |
أموات |
بحرف |
|
|
نُصب | أقلّ من |
أنصاب |
بحرفين على رأي اللّغويين وبحرف وحالة على رأينا |
|
|
نِعَم | أقلّ من |
أنعم |
بحرف |
|
|
نفوس | أقلّ من |
أنفس |
بحرف على رأينا ويزيد عليه بحالة |
ويلاحظ: أنّ العامل في خفّة الكلمة ليس مجرّد قلّة حروفها، بل لكيفيّاتها تأثير في ذلك، فالحالات الثّلاثة عندنا أثقل من الحركات الثّلاثة، والسكون وإنْ كان ثقلها دون ثقل الحروف. وقد يقال بأنّ الكسرة أثقل من الضّمّة، وهما من الفتحة، والثّلاثة من السّكون، وكذا الياء من الواو، وهما من الألف، بل الحروف ذاتها بعضها أثقل من بعض، ولكن زيادة حروف الكلمة تُعدُّ من أهمّ عوامل الثّقل وأبرزها.
ويلاحظ أنّ خفّة الكلمة يصلح أنْ يكون جزءاً من السّرّ في اختيار الأخفّ من تلك الجموع في جميع موارد أخفيّة أحدها من الآخر، إلّا أنّا نشير إلى أهمّ تلك الموارد:
١. اختيار (إخوة) على (إخوان) في (٧) موارد حيث لم يكن داعٍ لاختيار إخوان من قبيل ما مرّ في السّبب السّادس والتّاسع.
٢. اختيار (أسرى) على (أُسارى) في موردين حيث لم تكن جهة توجب اختياره من قبيل ما مرّ في السّبب السّادس.
٣. اختيار (ذكور) على (ذُكران) في موردين حيث لم تكن جهة توجب اختياره من قبيل ما مرّ في السّبب التّاسع والعاشر.
٤. اختيار (شِداد) على (أشداء) في ثلاثة موارد ـ مع غض النّظر عن الفارق المعنوي ـ حيث لم تكن جهة توجب اختيار (أشداء) من قبيل ما مرّ في السّبب التّاسع.
٥. اختيار (صُحف) على (صِحاف) في ثمانية موارد حيث لم تكن جهة موجبة لاختياره من قبيل ما مرّ في السّبب السّادس.
٦. اختيار (ضِعاف) على (ضعفاء) في مورد حيث لم تكن جهة موجبة لاختياره من قبيل ما مرّ في السّبب العاشر.
٧. اختيار (موتى) على (أموات) في (١٧) مورداً حيث لم تكن جهة لاختياره من قبيل ما مرّ في السّبب التّاسع. وهو من أهمّ موارد تأثير عامل الخفّة في انتخاب أحد الجمعين، أو ربّما كان العامل الوحيد في أكثر تلك الموارد.
٨. اختيار (نُصب) على (أنصاب) في موردين حيث لم تكن جهة لاختياره من قبيل ما مرّ في السّبب العاشر.
حالات التّزاحم بين مزايا مختلفة.
ويلاحظ أنّه قد يحدث تزاحم بين مزايا مختلفة فلا بدَّ من ترجيح الأقوى والأنسب بينها، وقد أشرنا خلال بعض الأسباب الأخيرة إلى بعض تلك الحالات، ونذكر هنا بعضها..
الحالة الأُولى: في حالة تزاحم الإيجاز اللّفظي مع سائر المزايا فإنّه يتعيّن اختيار سائر المزايا عليه، فإنّ الإيجاز اللّفظي إنّما هو مزيّة حيث لا مزيّة أخرى فهو إنّما يوجب اختيار إحدى الكلمتين في حالة التّكافؤ من حيث المزايا اللّفظيّة والمعنويّة، ولذا ناسب ذكرها في آخرها، ويشهد على ذلك أنّك لو لاحظت كثيراً من الآيات القرآنية تأتى لك أنْ تقترح اختصاراً في الآية مع حفظ المعنى وليس السّبب في عدم مراعاة هذا الاختصار إلّا توّفر أسباب أخرى اقتضت العكس، وقد مرّ بعض أمثلة هذه الحالة.
الحالة الثّانية: في حالة تزاحم الجمال اللّفظي للكلمة المفردة مع الجمال اللّفظي للجملة أو الجمل المتعدّدة ككلّ لتحقيق سجع أو موازنة أو غير ذلك ممّا مرّ في السّبب العاشر يترجّح حفظ الجمال النّفسي للجملة ككلّ.
ومن أروع حالات التّزاحم الّتي تمثّل مدى دقة الانتقاء القرآني اختيار (أبناء) على (بني) في قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)(٣٩٩) فاختيرت (أبناء) على بني وإن كان أخصر رعاية لتماثلها مع سائر الجموع المذكورة. واختيار (بني) على (أبناء) في قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)(٤٠٠) رغم تماثله مع الآية الأولى جدّاً. ولكن لمّا كان استعمال (أبناء) يوجب تكرارها أربع مرات متقاربة مع قرب لفظها من (آباء) المتكرر (مرتين). مضافاً إلى تكرر الجموع المتماثلة فيه بعدد أكثر ممّا قد يوجب مجموعه المَلَل من كثرة التّماثل والتكرار، ثُمَّ كان نفس كلمة (إخوان) و(أخوات) المضاف إليهما مناسباً في الوزن مع الجموع المقترنة بالجملتين فكان نحواً من التّماثل حاصلاً بين الجملتين وما عطفتا عليه ولو مع استعمال (بني) فلذلك رجح على (أبناء) في الآية الثّانية.
ونؤكّد هنا على نسبيّة كل مزيّة بحسب الحالات.
ونذكر من أمثلة ذلك: المعروف أنَّ تكرار الكلمة في الجملة غير مستحسن، وبذلك علّل الزّمخشري وغيره استعمال (عام) بدل (سنة) في قوله تعالى: (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عَامًا)(٤٠١) مع أنّك عرفت حسن تكرار (أبناء) في الآية الأولى وكذا تكرار (إخوان) مع إمكان التّحرّز بتبديلهما إلى (بني) و(إخوة)، بل لعلّ من ذلك قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ)(٤٠٢).
كما نؤكّد على أنَّ بعض المزايا البديعية ممّا لا يناسب مستوى الكلام القرآني من قبيل مزيّة الطّباق التّام بمعنى تكرار لفظ بمعنيين، فإنّه وإنْ كان لا يخلو عن نكتة إلّا أنَّ كل نكتة تعجب الإنسان لا يحسن في كل مستوى كما هو معلوم، ولعلّه لذلك اختير لفظ الزّرّاع على لفظ الكفار في قوله تعالى: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)(٤٠٣) لتكرر الكفار بالمعنى المقابل للمؤمنين في الآية مرتين رغم اختيار لفظ الكفار على الزّرّاع في نظيرها وهو قوله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)(٤٠٤).
البحث ومصادره
وقد سأل السّائل عن مصادر البحث، ونحن لم نطلّع على مصدر خاصّ بهذا البحث إلّا ما يظهر بملاحظة كتب اللّغة والتّفسير ونحوها فيما يتعلّق بهذه الظّاهرة أو أخواتها الّتي تشترك معها في أسبابها، إذ أنَّ هذه الظّاهرة فرع من فروع ظاهرة اختيار بعض الألفاظ المترادفة أو المتقاربة في المعنى، وهي ظاهرة عامّة ذات أسباب مشتركة.
وينبغي أنْ ننبّه هنا على أنَّ مبادئ البحث لا تنحصر بالاطلاع على مصادر له, بل تتوقف:
أوَّلاً: على الذّوق الأدبيّ الرّفيع والوجدان اللّغويّ الدّقيق.
وثانياً: على الاطلاع على القواعد الأدبيّة في مختلف علوم الأدب والقدرة على تشخيص تطبيقاتها.
وثالثاً: على الممارسة والتتبّع.
هذا تمام الأسباب الّتي ظهرت لنا في تفسير تلك الظّاهرة بالتأمّل في أمثلتها وموارد استعمالها، وربّما كان هناك سبب أو أسباب لم نطّلع عليها، ولكن ذلك ما خطر بالبال مع ضيق الوقت وتزاحم الأعمال وقلّة المصادر، وقد استغرق ذلك غالب وقتي في أسابيع ثلاثة. وكان تاريخ كتابة هذه السّطور في شهر ربيع الثّاني من عام (١٤١٦هـ).
هذا تمام الرّسالة الّتي كتبتها في حينها. وقد طلب منّي بعض الأعزّة نشر هذا البحث وقد أجبته إلى ذلك، وذلك في العاشر من جمادى الآخرة عام (١٤٣٧هـ) مع عدم تيسّر مراجعتها، فضلاً عن الزّيادة عليها وإغنائها بما تجدّد من أدوات البحث والمتابعة، والله الهادي.
والحمد لله أوَّلاً وآخراً.
المصادر
(١) وقد اختصر المؤلِّف هذه الرسالة في رسالة أخرى أرّخ انتهاءها بـ (١٢ ربيع الأوَّل ١٤١٦هـ)، وقد امتازت بإضافات أوردنا بعضها. لاحظ ص: ٩٣, ١٣٣ ـ ١٣٥.
(٢) الأنعام: ٢١.
(٣) الزّمانة: العاهة. يلاحظ: لسان العرب: ١٣/ ١٩٩.
(٤) الكافي: ١/ ٢٤ــ ٢٥.
(٥) تعرّض له جمع، منهم: الشّريف المرتضى (ت ٤٣٦هـ) في أماليه: ١/ ٨٦.
(٦) سورة النساء: ١٧.
(٧) سورة البقرة: ٢٨٢.
(٨) المفردات في غريب القرآن: ٦.
(٩)المائدة: ٥٥.
(١٠) ليس المراد إنكار وجود نكتة في التّفرقة بين الآيتين، ولكن الغرض عدم لزوم وجود نكتة بمجرد التّماثل.
(١١)النّساء: ١٣٥.
(١٢) المائدة: ٨.
(١٣) الأنعام: ٦١.
(١٤) الانفطار: ١٠.
(١٥) التّوبة: ١١٢.
(١٦) لاحظ ص١٩.
(١٧) كالشّريف المرتضى (ت٤٣٦هـ) وقد ألّف كتاباً سماه بـ (كتاب الصرفة) كما في فهرست الشّيخ الطّوسي ورجال النّجاشي.
(١٨) المطول في شرح تلخيص المفتاح: ١٢.
(١٩) نفس المصدر والموضع.
(٢٠) شرح نهج البلاغة: ١٠/ ١٢٨- ١٢٩.
(٢١) العنكبوت: ٤١.
(٢٢) الطّباق: هو الجمع بين المتضادين أو أي معنيين متقابلين في الجملة. أي يكون بينهما تقابل وتناف ولو في بعض الصور سواء كان التّقابل حقيقياً أو اعتبارياً، وسواء كان تقابل التّضاد أو تقابل الإيجاب والسلب أو تقابل العدم والملكة، أو تقابل التّضاؤف أو ما يشبه شيئاً من ذلك. (مختصر المعاني: ٢٦٥).
(٢٣) الإرصاد: هو في اللّغة نصب الرقيب في الطّريق، ويسميه بعضهم التّسهيم، يقال برد مسهم فيه خطوط مستوية، وهو أنْ يجعل قبل العجز من الفقرة، وهي في النّثر بمنزلة البيت من النّظم.(المصدر السابق: ٢٦٨).
الإدماج: وهو أنْ يُضمّن كلام سيق لمعنى مدحاً كان أو غيره معنى آخر. (المصدر نفسه: ٢٨٥).
الجمع: وهو أنْ يجمع بين متعدد اثنين أو أكثر في حكم واحد، كقوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). (المصدر السابق: ٢٧٣).
(٢٤) التّورية: وتسمى الإيهام أيضاً ، وهو أنْ يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد به البعيد اعتماداً على قرينة خفية. (المصدر نفسه: ٢٧١).
التوجيه: ويسمى محتمل الضّدين، وهو إيراد الكلام محتملاً لوجهين مختلفين، أي متباينين متضادين كالمدح والذم مثلاً، ولا يكفي مجرد احتمال معنيين متغايرين كقول: من قال (لا عور ليت عينيه سواء) يحتمل تمني صحة العين العوراء فيكون دعاء له والعكس فيكون دعاء عليه. قال السّكاكي: (ومن التّوجيه متشابهات القرآن باعتبارٍ وهو احتمالها لوجهين مختلفين وتفارقه باعتبار آخر). (المصدر نفسه: ٢٨٦).
(٢٥) النّبأ: ٦ــ ٧.
(٢٦) الغاشية: ١٣- ١٤.
(٢٧) الغاشية: ١٥- ١٦.
(٢٨) الواقعة: ٢٨- ٣٠.
(٢٩) النّجم: ١- ٢.
(٣٠) الصافات: ١١٧- ١١٨.
(٣١) الانفطار: ١٣- ١٤.
(٣٢) التّحريم: ١٢.
(٣٣) ومن أمثلته من غير استيعاب: ١.أبناء وبنون. ٢. حفظة وحافظون. ٣. حكّام وحاكمون.
٤. خطايا وخطيئات. ٥. ركّع وراكعون. ٦. زرّاع وزارعون. ٧. سُجّد وسُجُود وساجدون.
٨. سحرة وساحرون. ٩. قعود وقاعدون. ١٠. قيام وقائمون. ١١. كفّار وكفرة وكافرون. ١٢. كَلِم ـ على رأي ـ وكلمات. ١٣. أنصار وناصرون. ١٤. ورثة ووارثون. ١٥. أنبياء ونبيّون.
(٣٤) الّلاتي والّلائي في الحقيقة جمع تكسير واحد أضيف فيهما الألف على رابع الكلمة، أو ثالثها كوزن (فعاليل)، ولكنْ بدّل (التّاء) في الثاني إلى الهمزة، ولكن ذكرناهما إلحاقاً بذلك.
(٣٥) ذكر الراغب أنّ (خلفاء) جمع (خليف)، لكن (خليف) لا يستعمل لغةً فيما أظن، بل المستعمل هو (الخليفة) كما في أخواتها كالخليقة والعقيقة والنطيحة.
(٣٦) لكن في أحدها فسَّر بالزرّاع وهو الحديد (٥٧) الآية (٢٠)، فيخرج عن محلّ الكلام.
(٣٧) بمعنى الحجارة الّتي تنصب على الشّيء.
(١) في السّبب الأوَّل من أسباب هذه الظّاهرة ص: ٥٠.
(٣٩) إنَّما جرى هذا التّعبير ونظائره في هذه الرّسالة على مذهب عامّة اللّغويين من عَدِّ الألف في نفسها حرفاً،
وإنْ كان الصواب أنَّه مَدَّة على الحرف الّذي يعدّ قبلها على ما يشهد به الوجدان اللّغوي وقرائن أخرى,
وما ذكروه من أنَّ ما قبلها مفتوح وهي ساكنة غير تامّ بشهادة الوجدان اللّغويّ، فإنَّه يدل على عروض المدّ على نفس الحرف السّابق من غير فتحة عليه على ما يظهر بالتأمل، فالألف حالة على الحرف في قِبال السّكون والحركات الثّلاثة، ولتوضيح ذلك محلّ آخر.
(٤٠) الملحوظ: أنَّه صرّح بكون (بَرَرَة) جمع (بارّ).
(٤١) شرح شافية ابن الحاجب: ٢/ ١٥٦. (ط. بيروت. ١٩٧٥). ط الحجر ص١٠٧.
(٤٢) قالوا: إلّا فيما كان على وزن (فَعْل) بفتح الفاء وكان صحيح العين ولم يكن مضاعفاً فإنَّه يُجمع فيما قالوا على وزن (أفعل) ككلب وأكلُب.
(٤٣) شرح شافية ابن الحاجب: ٢/ ٩٧. (ط. بيروت. ١٩٧٥). و(ط الحجر ص: ٩٦).
(٤٤)لاحظ لسان العرب: ٣/ ٢٤٠.
(٤٥) المصدر السّابق.
(٤٦) لسان العرب: ٣/ ٢٣٩ قال: (والشَّهْدُ: اسم للجمع عند سيبويه، وقال الأَخفش: هو جمع).
(٤٧) نظير (عباد وعبيد) فقد ورد ذكره في السّبب الثّاني وهو (اختلاف الجمعين في نوع المعنى مع اتّحاد معنى المفرد)، وورد ذكرهما أيضاً في السّبب الرّابع وهو (اختلاف معنى الجمعين من جهة اختلاف معنى مفردهما بالدّقة)، وورد ذكرهما كذلك في السّبب السّادس وهو (أروعيّة بعض الجموع من بعض من حيث جمالها الذّاتي)، وورد ذكرهما أيضاً في السّبب السّابع وهو (أولويّة بعض الجمع من بعض في آخر الجملة لتحقيق سجع، أو موازنة ونحو ذلك)، وهكذا الحال في مفردات أُخَر.
(٤٨)الأحزاب: ٤.
(٤٩) المجادلة: ٢.
(٥٠)الطلاق: ٤.
(٥١) الطّلاق: ٤.
(٥٢) النّساء: ١٥.
(٥٣) النّساء: ٢٣.
(٥٤) النّساء: ٢٣.
(٥٥)النّساء: ٢٣.
(٥٦)النّساء: ٣٤.
(٥٧)النّساء: ١٢٧.
(٥٨)يوسف: ٥٠.
(٥٩) النّور: ٦٠.
(٦٠)الأحزاب: ٥٠.
(٦١)الأحزاب: ٥٠.
(٦٢)الأنعام: ١٦٥.
(٦٣) يونس: ١٤.
(٦٤)يونس: ٧٣.
(٦٥)فاطر: ٣٩.
(٦٦)الأعراف: ٦٩.
(٦٧)الأعراف: ٧٤.
(٦٨) النّمل: ٦٢.
(٦٩) الحجرات:١٤
(٧٠) التّوبة: ٩٧
(٧١)لسان العرب: ١/ ٥٨٦ ـ ٥٨٧.
(٧٢) حكاه في المنجد: ٢٤٩.
(٧٣)البقرة: ١٨٨.
(٧٤) هود: ٤٥.
(٧٥) الإسراء: ٦٥.
(٧٦) الفرقان: ٦٣- ٦٤.
(٧٧) النّساء: ١١٨.
(٧٨) المائدة: ١١٨.
(٧٩) الفرقان: ١٧.
(٨٠) الدّخان: ١٨.
(٨١) آل عمران: ١٨٢.
(٨٢) المفردات في غريب القرآن: ٣٣١.
(٨٣) وقد يحتج لذلك بأنَّه المنساق من مثل قوله: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ). (سورة ص: ٤١), (فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ). (القمر: ٩), ونحوه ممّا أضيف فيه إلى الضّمير الرّاجع إليه تعالى هو العبد العابد، ولو كان منشأ ذلك هو الإضافة لاستفيد هذا المعنى من عبيد أيضاً في حالة الإضافة.
(٨٤) التّحريم: ١٠.
(٨٥) الإسراء: ٥.
(٨٦) الكهف: ٦٥.
(٨٧) للزمخشري في الكشاف (٤/٥٧٢.ط. بيروت. ١٤٠٧هـ) في الآية وجه آخر حيث قال: (فإنْ قلت: ما فائدة قوله (مِنْ عِبَادِنَا)؟ قلت: لمّا كان مبنى التّمثيل على وجود الصلاح في الإنسان كائناً مَنْ كان، وأنَّه وحده هو الّذي يبلغ به الفوز وينال ما عند اللّه، قال: (عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ)، فذكر النّبيين المشهورَين العلمَين بأنَّهما عبدان لم يكونا إلّا كسائر عبادنا، من غير تفاوت بينهما وبينهم إلّا بالصلاح وحده إظهاراً وإبانة، لأنَّ عبداً من العباد لا يرجح عنده إلّا بالصلاح لا غير، وأنَّ ما سواه ممّا يرجح به النّاس عند النّاس ليس بسبب للرجحان عنده).
(٨٨) آل عمران: ٣٩.
(٨٩) آل عمران: ٤٦.
(٩٠) الأنعام: ٨٥.
(٩١) يوسف: ١٠١.
(٩٢) الشّعراء: ٨٣.
(٩٣) القلم: ٥٠.
(٩٤) الصّافات: ١١٢.
(٩٥) النّمل: ١٩.
(٩٦) العنكبوت: ٩.
(٩٧) لاحظ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: ٤١١.
(٩٨) يوسف: ٤٨.
(٩٩) النّبأ: ١٢.
(١٠٠) التّحريم: ٦.
(١٠١) الفتح: ٢٩.
(١٠٢) الحجرات: ١٠.
(١٠٣) لسان العرب: ٦/ ٢٣٣.
(١٠٤) لاحظ شرح الرّضي على الكافية: ٢/ ٣٦٣. (ط. طهران. ١٩٧٥)، ط. الحجر ص١٤٣.
(١٠٥) قال ابن عقيل في شرحها (٢/ ٢٠٧): (ثمّ إنْ كان المؤكّد بهما ـ عين ونفس ـ جمعتهما على مثال أفعل فنقول: جاء الزيدان أنفسهما أو أعينهما... الخ).
(١٠٦) لسان العرب: ١٣/ ٣٠٥- ٣٠٦.
(١٠٧) التّكوير: ٧.
(١٠٨) الإسراء: ٢٥.
(١٠٩) نهج البلاغة: خطبة: ١١٤.
(١١٠) المصدر السّابق: خطبة: ١٣١.
(١١١) المصدر السّابق: خطبة: ١٦٢.
(١١٢) المصدر السّابق: كتاب: ٤٥.
(١١٣) المصدر السّابق: خطبة: ١٨٣.
(١١٤) التّوبة: ٢٠.
(١١٥) التّوبة: ٥٥.
(١١٦) التّوبة: ١١١.
(١١٧) التّوبة: ١٢٠.
(١١٨) النّمل: ١٤.
(١١٩) الفرقان: ٢١.
(١٢٠) البقرة: ٥٧.
(١٢١) الأنعام: ١٣٠.
(١٢٢) الأعراف: ٢٣.
(١٢٣) آل عمران: ٦٩.
(١٢٤) وربَّما يقال باتفاق النّحاة عليها. لكنْ ذلك بحاجة إلى التّأكّد من مدى عمقها في تاريخ النّحو العربي وذكرها من قبل قدماء النّحاة.
(١٢٥) على خلاف في أنَّ أقلّ الجمع اثنان أو ثلاثة، والأظهر عندي أنَّ أقلّه الاثنان كما استعمل فيه في القرآن الكريم وغيره كثيراً, فهيئة الجمع لا تدلّ في نفسها إلّا على معنى الاجتماع، ولكن لَمّا اختصت التّثنية بصيغةٍ ـ ولعلّ هذا الاختصاص كان ظاهرة طارئة في اللّغة كظاهرة التّأنيث ـ كان المنساق من الجمع ما فوقها. وعليه فلا يكون الجمع مقيّداً بالثّلاثة فضلاً عن عددٍ آخر غيرها. وتوضيح هذه النّظرية وشواهدها بحاجة إلى تفصيل خارج عن موضوع هذه الرّسالة.
(١٢٦) إنَّ كل اعتبار أدبيّ بحاجة إلى مصحّحين لغويّ وبلاغيّ, فالمصحّح اللّغويّ: هو العلاقة والتّناسب بين المعنى المجازيّ والمعنى الحقيقيّ، والمصحّح البلاغيّ (أو النّكتة البلاغيّة): هو الجهة الّتي توجب أداء المعنى بنحو الاعتبار الأدبيّ دون التّصريح. ويتضح الفرق بين المصحّحين بالمثال الآتي: إذا عبّرنا عن (زيد) بالأسد فالمصحّح اللّغويّ لهذا التّعبير هو التّشابه بينهما في صفة الشّجاعة، ولكن المصحّح البلاغيّ لذلك هو قصد تحقيق نفس الإحساس الموجود تجاه الأسد بالنّسبة إلى زيد. لاحظ قاعدة لا ضرر من تقريرات الأستاذ : ٢٤٣.
(١٢٧) لاحظ بحث جموع التّكسير في الشّافية وشرحها للرضي: (٢/ ٨٩ وما بعدها)، وفي الألفية وشروحها كشرح ابن عقيل (٢/ ٤٥٢)، ويمكن تفصيل هذا المعنى بذكر الهيئات وجموعها، مثلاً: هيئة فعل تجمع جمع... على أفعال... إلخ.
(١٢٨) إلّا في جمع (أسورة) و(ألف) على احتمال.
(١٢٩) حكاه عنه في مقدّمة المنجد.
(١٣٠) حكاه السّيوطي في الأشباه والنظائر: ٢/١٢٦- ١٢٧. ويظهر اختياره من الطّبرسي في مجمع البيان: ٢/ ٢٩٨.
(١٣١) سبأ: ٣٧.
(١٣٢) الذّاريات: ١٥.
(١٣٣) لاحظ التّبيان في تفسير القرآن: ٢/ ١٧٥.
(١٣٤) توضيحه إجمالاً: أنَّ في جمع الجمع كـ (أظفار) على (أظافير) احتمالين:
الأوَّل:أنْ تكونحروف الجمعالأوَّل أُضيفتعلى المفرد أوَّلاًً فصار جمعاً، ثُمَّ أُضيفت حروفالجمع الثّاني فصار جمع الجمع، ففي المثال أُضيف على (ظفر) أوَّلاً حرفي الجمع في (أفعال) وهما الهمزة في أوَّله والألف في ثالثه, ثُمَّ جمع (أظفار) على أظافير بإضافة ألف (أفاعيل) بعد ثانيه، وتبديل ألف (أفعال) ياءً، وعلى هذا الاحتمال بنى النّحاة.
والآخر: أنْ تكون حروف الجمعين أُضيفت في آن واحد على المفرد للدلالة على جمعه فيكون الجمع للمفرد لا للجمع، وهذا هو الّذي يناسبه شهادة الوجدان اللّغويّ بعدم دلالة ما يعدّ جمعاً للجمع على أكثر من ثلاثة وإنْ كان يناسب أكثر منها من جهة التّفخيم الحاصل في اللّفظ، وإلّا لم يصح إطلاقه على أقلّ من تسعة، فلاحظ.
(١٣٥) نقله في الفرائد الغوالي على شواهد الأمالي للسيد المرتضى (٣/ ١٤٣- ١٤٤) عن أنوار الرّبيع في أنواع البديع: ٥٠٦.
(١٣٦) التّبيان في تفسير القرآن: ٢/ ١٧٥.
(١٣٧) الحديد: ٢٠.
(١٣٨) المفردات في غريب القرآن: ٤٣٥، ولاحظ مجمع البيان: ٩/ ٢٣٩ واللّسان: ٥/ ١٤٦- ١٤٧.
(١٣٩) الفتح: ٢٩.
(١٤٠) لسان العرب: ٥/ ١٤٦.
(١٤١) من استعمال الأنفس في القرآن الكريم فيه (وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) الأنعام: ٩٣, (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)، البقرة:٢٣٥, (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ)، هود: ٣١.
(١٤٢) المفردات: ٥٢٢. نعم، فسّره بالنّسبة إليه تعالى بذلك، وهو بيان للمراد الحقيقي عند إطلاقه في حقّه لا على سبيل كونه معنى آخر.
(١٤٣) المفردات في غريب القرآن: ٢٧١.
(١٤٤) الأنعام: ٦٥.
(١٤٥) الأنعام: ١٥٩.
(١٤٦) القصص: ٤.
(١٤٧) الرّوم: ٣٢.
(١٤٨) الحجر: ١٠.
(١٤٩) لاحظ مجمع البيان: ٨/ ٣٩٨، و٩/ ١٩٤، ولسان العرب: ٨/ ١٨٩.
(١٥٠) القمر: ٥١.
(١٥١) سبأ: ٥٤.
(١٥٢) وإنْ ادّعى نظيره الفرّاء في (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) كما في اللّسان: ٨/ ١٨٩.
(١٥٣) لسان العرب: ٨/ ١٨٩.
(١٥٤) المصدر والموضع.
(١٥٥) وربَّما عُدَّ الثّاني جمعاً للأوَّل كما في لسان العرب: ٨/ ١٨٨ جرياً على القياس.
(١٥٦) لاحظ السّبب الخامس في بيان اندراج (إخوة) و(إخوان) تحت هذا السّبب.
(١٥٧) عبس: ١٦.
(١٥٨) آل عمران: ١٩٣.
(١٥٩) آل عمران: ١٩٨.
(١٦٠) الإنسان: ٥.
(١٦١) الانفطار: ١٣- ١٤.
(١٦٢) المطففين: ١٨.
(١٦٣) المطففين: ٢٢.
(١٦٤) فإنَّ أواخر طرفيها من الآيات (تذكرة, ذكره, مكرمة, مطهرة, سفرة, بررة, أكفره, خلقه, فقدّره, يسّره, فأقبره, أنشره, أمره) فكلمة (بررة) في تلك الآية تحقّق لها سجعاً بالنسبة إلى غير آيتين منها لتشابهها مع أواخرها في الوزن والحرف الأخير، وموازنة بالنسبة للآية المختومة بـ (مكرمة) و(خلقه) لتشابهها في الوزن فقط.
(١٦٥) إذْ أواخر الآيات في سورة آل عمران ابتداء من رقم (١٩٠) حتى رقم (١٩٩) كما يلي: (الألباب, النّار, أنصار, الأبرار, الميعاد, الثّواب, البلاد, المهـاد, الأبـرار, الحساب) فاختيـار كـلمـة (أبـرار) يحقّق السّجع بالنّسبة إلى كلمتي (النّار) و(الأنصار) والموازنة بالنسبة إلى ما عداها.
(١٦٦) المفردات في غريب القرآن: ٣٨.
(١٦٧) تاج العروس من جواهر القاموس: ٣/ ٣٧، ٦/ ٧٠.
(١٦٨) مريم: ١٤.
(١٦٩) مريم: ٣٢.
(١٧٠) البقرة: ١٧٧.
(١٧١) البقرة ١٨٩.
(١٧٢) لاحظ لسان العرب مادة (ع د ل): ١٢/ ٤٣٠، وشرح الكافية للرضي: ٢/ ٢٩٥ وغير ذلك.
ولكنْ علّل كونه مبالغة في كلام بعضهم بوجهٍ غير ما ذكرناه، ففي اللّسان (١١/ ٤٣٠) عن ابن جنّي: (فإِذا قيل "رجل عَدْلٌ" فكأَنَّه وصف بجميع الجنس مبالغةً كما تقول: استَوْلى على الفَضْل وحاز جميعَ الرِّياسة والنُّبْل ونحو ذلك ، فوُصِف بالجنس أَجمع تمكيناً لهذا الموضع وتوكيداً).
ولكنَّهخطأ، فإنَّ فيه خلطاً بين(العدل) ـمحلّى بالألفواللّام ـو(عدل) ـ مجرداً عنهما ـ فالأوَّل هو الّذي يقتضي الوصف بجميع الجنس، كما لو قيل: (زيد هو الشّجاع). وأمَّا الثّاني فهو إنَّما يقتضي كون الرّجل عدلاً، لا كونه جميع العدل، كما أنَّه لو قيل (زيد إنسان) لم يقتضِ أنَّه الإنسان فحسب، وإنَّما يقتضي ذلك لو قيل (زيد الإنسان) لمكان (ال) الجنسيّة كما هو ظاهر.
(١٧٣) فإنْ قيل: إنَّه لو قدّر كون المعنى الوصفي ناشئاً بالتطوّر عن المعنى المصدري فإنَّه يحمل سمة المعنى المصدري من إفادة المبالغة.
قيل: إنَّ إفادة المعنى المصدري للمبالغة ينشأ عن طبيعة هذا المعنى؛ لأنَّ مضمونه حدث محضّ دون ذات، فيكون حمله على الذّات تصويراً لتجسدّ الحدث في الذّات، فإذا تغيّر معناه إلى (ذات وحدث) بصيرورته وصفاً فَقَدَ نكتة إفادة المبالغة لا محالة، فلاحظ.
(١٧٤) العين: ٨/ ٢٥٩.
(١٧٥) شرح شافية ابن الحاجب: ١٠٧. (ط. الحجر)، ٢/ ١٥٥ــ ١٥٦. (ط. دار الكتب العلمية).
(١٧٦) إلّا ما كان على وزن (فَعْل) بفتح الفاء وكان صحيح العين ولم يكن مضاعفاً فإنَّه يُجمع فيما قالوا على وزن (أفْعُل) ككلب وأكْلُب.
(١٧٧)شرح شافية ابن الحاجب: ٩٦. (ط الحجر). و٢/ ٩٧.
(١٧٨) مادة (ب ر ر): ٤/ ٥٣، ٥٤.
(١٧٩) وهي تهذيب اللّغة للأزهري، والمحكم لابن سِيده، والصحاح للجوهري، وحواشيها لابن بري والنهاية لابن الأثير.
وقد كان من المناسب أنْ يُخرَّج نصّ كلّ كتاب منها من مصدره في الطّبعة الحديثة لكي يتضح قائلوا الأقوال المنقولة فيغني عن مراجعة تلك المصادر. وقد غفل ابن منظور نفسه عن أهميّة هذه الجهة للناظر فأهملها.
(١٨٠) النّهاية في غريب الحديث والأثر: ١/ ١١٦.
(١٨١) ١. من ذلك ما في العين: ٨/ ٢٥٩ (البَرّ: البارّ بذوي قرابته. وقوم بررة وأبرار. وتقول: ليس ببرّ، وهو بارّ غداً).
٢. وما في اللّسان: ٤/ ٥٢: (ورجلٌ برّ بذي قرابته، وبارّ من قوم بررة وأبرار).
٣. وما في القاموس مع التّاج: ٣/ ٣٧، و٦/ ٧٠. (والبَرُّبالفَتْح: منالأسْماءِ الحُسْنَى.والبَرُّ: الصّادقُ.والبَرُّ: الكَثِيرُالبِرِّ، كالبارّ..ج أبْرارٌ وَبَرَرَةٌ).
٤. وفي المنجد: ص ٢٢٧ (البرّ والبار، ج أبرار وبررة). وضم الباء في (البرّ) فيه خطأ مطبعي ظاهر.
وقد يُستظهر من هذه الأقوال بعض الاحتمالات خاصّة، فيستفاد من كلام العين والقاموس أنَّ اللّفظين جمع (برّ)؛ لأنَّه المذكورأصالة، أويُستفاد منهماوممّا ذكرهفي اللّسانأنَّ (بررة)جمع (بَرّ) و(أبرار) جمع (بارّ)؛ لأنَّه مقتضى اللّف والنشر المرتّب، أو يستفاد ممَّا في اللّسان أنَّهما جمع (بارّ) لذكره أخيراً.
ولكنَّ الحقّ أنَّه لا سبيل إلى استظهار جازم لمعنى ما من هذه الكلمات، بل هي كلمات مجملة يتكرر أمثالها في كتب اللّغة من غير مراعاة النّكات الّتي أشرنا إليها كما في اللّسان (مادة شهد) (٣/ ٢٤٠) (والشاهِدُ والشَّهيد: الحاضر، والجمع شُهَداء وشُهَّدٌ وأَشْهادٌ وشُهودٌ). والمقصود بذلك على ما يظهر بالتأمل كون (شهداء) جمعاً لـ (شهيد) والباقي جمعاً لـ (شاهد) على خلاف اللّف والنشر المرتّب. نعم، لا يبعد إرادة بعض هؤلاء لما احتملناه بحسب التّناسب كما يظهر من الكلام المنقول عن صاحب القاموس في البصائر ـ وقد تقدّم ـ أنَّه يقول إنّ (بررة) جمع (بَرّ) و(أبرار) جمع (بارّ) على ما هو مقتضى اللّف والنشر المرتّب في كلامه.
(١٨٢) فمن ذلك ما ورد في أوَّل حرف الباء من المفردات في غريب القرآن (ص٣١): (وربّما قالوا تكون زائدة نحو (مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا) فبينه وبين قولك (ما أنت مؤمناً لنا) فرق.. ـ ثُمَّ بعد قليل ـ قال الشّيخ: وفيه نظر). وهذا خطأ. صوابه: إضافة هذه الجملة بعد تلك الآية والأصل: (قال الشّيخ: وفيه نظر فبينه وبين قولك.. فرق) فإنَّ تلك الجملة في الموضع الواقع فيه زائدة لا معنى لها، وإنَّما محلها بعد الآية حيث إنَّها سيقت للاعتراض على جعل الباء زائدة.
(١٨٣) آل عمران: ١٩٨.
(١٨٤) الإنسان: ٥.
(١٨٥) الانفطار: ١٣- ١٤.
(١٨٦) المطففين: ١٨.
(١٨٧) المطففين: ٢٢ - ٢٣.
(١٨٨) آل عمران: ١٩٣.
(١٨٩) الأنفال: ٢.
(١٩٠) المؤمنون: ١-١٠.
(١٩١) الحج: ٣٤ - ٣٥.
(١٩٢) الإنسان: ٥.
(١٩٣) لاحظ التّبيان في تفسير القرآن: ١٠/ ٢١١.
(١٩٤) آل عمران: ١٩٣.
(١٩٥) الأنعام: ١٤٤.
(١٩٦) النّجم: ٢١ - ٢٢.
(١٩٧) لاحظ الصّورة الفنيّة في المثل القرآني: ٢٥٥ ومصادره.
(١٩٨) الكهف: ٤٥.
(١٩٩) لاحظ الصّورة الفنيّة في المثل القرآني: ٢٥٧- ٢٥٨.
(٢٠٠) العنكبوت: ٤١.
(٢٠١) مريم: ٤ .
(٢٠٢) آل عمران: ١٤٦.
(٢٠٣) مريم: ٥٨.
(٢٠٤) مريم: ٦٨.
(٢٠٥) مريم: ٧٢.
(٢٠٦) البقرة: ٨٥.
(٢٠٧) الأنفال: ٦٧.
(٢٠٨) الأنفال: ٧٠.
(٢٠٩) الزّخرف: ٥٣.
(٢١٠) الكهف: ٣١.
(٢١١) الحج: ٢٣.
(٢١٢) فاطر: ٣٣.
(٢١٣) الإنسان: ٢١.
(٢١٤) المفردات في غريب القرآن: ٢٥٤.
(٢١٥) يونس: ٦١.
(٢١٦) البقرة: ٢٤٣.
(٢١٧) آل عمران: ١٢٤.
(٢١٨) آل عمران: ١٢٥.
(٢١٩) لسان العرب: ١٤/ ٢١.
(٢٢٠) الحجرات: ١٠.
(٢٢١) النّور: ٦١.
(٢٢٢) الأحزاب: ٥.
(٢٢٣) لسان العرب: ١٤/ ٢١.
(٢٢٤) المصدر السّابق:١٤/ ٢٠.
(٢٢٥) الأسراء: ٢٧.
(٢٢٦) ق: ١٣.
(٢٢٧) آل عمران: ١٠٣.
(٢٢٨) الحجر: ٤٧.
(٢٢٩) الحشر: ١٠.
(٢٣٠) آل عمران: ١٥٦.
(٢٣١) آل عمران: ١٦٨.
(٢٣٢) الأنعام: ٨٧.
(٢٣٣) الأعراف: ٢٠٢.
(٢٣٤) الأحزاب: ١٨.
(٢٣٥) الحشر: ١١.
(٢٣٦) الحجرات: ١٠.
(٢٣٧) النّساء: ٩.
(٢٣٨) لاحظ الصّورة الفنيّة في المثل القرآني: ٢٥٣، ٢٥٤، ٢٦١، ٢٦٩ ومصادرها.
(٢٣٩) النّور: ٣٩.
(٢٤٠) التّحريم: ١٠.
(٢٤١) التّحريم: ١١.
(٢٤٢) الرّوم: ٢١.
(٢٤٣) التّحريم: ١٠- ١١.
(٢٤٤) الكشّاف عن حقائق التّنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التّأويل: ٤/٥٧١ والصورة الفنية في المثل القرآني عنه: ٢٦٣.
(٢٤٥) التّغابن: ١٤.
(٢٤٦) النّور: ٦.
(٢٤٧) غافر: ٨.
(٢٤٨) المسد: ٤.
(٢٤٩) آل عمران: ٤٠.
(٢٥٠) مريم: ٥ ـ ٨.
(٢٥١) يوسف: ٣٠.
(٢٥٢) يوسف: ٥٠.
(٢٥٣) يوسف: ٢١.
(٢٥٤) النّساء: ١٢٨.
(٢٥٥) الفتح: ٢٩.
(٢٥٦) التّحريم: ١٢.
(٢٥٧) البرهان في علوم القرآن: ٣/ ٣٠٢.
(٢٥٨) المطول في شرح تلخيص المفتاح: ص ١٢ ط الحجر.
(٢٥٩) لكن سبق في أوَّل السّبب الخامس أنَّهم لم يلتفتوا إلى نسبيّة ظاهرة الفصاحة في الألفاظ بالقياس إلى المعنى.
(٢٦٠) هي: ١. (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا). البقرة: ٥٨.
٢. (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) النّساء: ١٥٤.
٣. (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ) الأعراف: ١٦١.
٤. (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا). يوسف: ١٠٠.
٥. (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ). النّحل: ٤٨.
٦. (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا). الإسراء: ١٠٧.
٧. (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا). مريم: ٥٨.
٨. (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا). طه: ٧٠.
٩. (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا). الفرقان: ٦٤.
١٠. (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا). السّجدة: ١٥.
١١. (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا). الفتح: ٢٩.
(٢٦١) البقرة: ١٢٥.
(٢٦٢) الحج: ٢٦.
(٢٦٣) وهي: الأعراف: ١١, ١٢٠، ويوسف: ٤، والحجر: ٢٩, ٣١, ٣٢, ٩٨، والشعراء: ٤٦, ٢١٩، وسورة ص: ٧٢.
(٢٦٤) وهو قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ). التّوبة: ١١٢.
(٢٦٥) آل عمران: ١٨٢.
(٢٦٦) الأنفال: ٥١.
(٢٦٧) الحج: ١٠.
(٢٦٨) فصلت: ٤٦.
(٢٦٩) ق: ٢٩.
(٢٧٠) سورة ص: ٢٨.
(٢٧١) الانفطار: ١٣ ـ ١٤.
(٢٧٢) المطففين: ٧.
(٢٧٣) عبس: ٣٨ ـ ٤٢.
(٢٧٤) لاحظ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: ٦١٢.
(٢٧٥) عبس: ٤٢.
(٢٧٦) لاحظ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: ٧١٢ -٧١٤.
(٢٧٧) التّكوير: ٧.
(٢٧٨) الإسراء: ٢٥.
(٢٧٩) وهي البقرة: (٢٣, ١٣٣, ١٤٣, ٢٨٢, ٢٨٣). آل عمران: (٩٩, ١٤٠). النّساء: (٦٩, ١٣٥). المائدة: (٨, ٤٤). الأنعام: (١٤٤, ١٥٠). الحج: (٧٨). النّور: (٤, ٦, ١٣، ١٣). (الزّمر: (٦٩). الحديد: (١٩).
ولكنَّه قد يكون في (النساء: ٦٩) و(الزّمر: ٦٩) جمع شهيد بمعنى المقتول في سبيل الله، فلاحظ.
(٢٨٠) المدّثّر: ١٣، البروج: ٧، وسيأتي ذكر ذلك في السّبب السّابع.
(٢٨١) يونس: ٦١.
(٢٨٢) غافر: ٥١. وسيأتي في السّبب السّابع.
(٢٨٣) (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ). هود: ١٨.
(٢٨٤) التّعبير عن الألف والياء والواو ـ في مثل ذلك ـ بالحرف مبني على رأي عامّة اللّغويين وإنْ لم يصح عندنا، فلاحظ.
(٢٨٥) النّبأ: ٦- ٧.
(٢٨٦) الغاشية: ١٣- ١٤.
(٢٨٧) الإيضاح في علوم البلاغة (المعاني والبيان والبديع): ٢٩٦.
(٢٨٨) الغاشية: ١٥- ١٦.
(٢٨٩) الصّافات: ١١٧- ١١٨.
(٢٩٠) ويلاحظ أنّه كلّما وقع أحد تلك الجموع في آخر الآية لم ينفك عن اقتضاء مراعاة السّجع أو الموازنة له، ولذلك لا حاجة بنا إلى بيان كيفية تحقّقهما بذكر أواخر الآيات المقترنة بمواضعها لسهولة مراجعة الباحث إليها بعد معرفة مواضعها وطول الكلام بذلك إلّا فيما قلّ موارد ذلك.
(٢٩١) ولو اختير (سجّد) فيهما لم تتحقّق موازنة ولا سجع وإنْ اشتركا في الحرف الأخير، لما مَرّ من أنّه متى كان ما قبل الأخير من أحدهما حرف علّة كـ(سجود) وجب أنْ يكون الأمر في الآخر كذلك، و(سُجّد) ليس كذلك.
(٢٩٢) الشّورى: ٤٩.
(٢٩٣) الأنعام: ١٣٩.
(٢٩٤) أواخرها: (يفعلون, يتوكّلون, يغفرون, ينفقون, ينتصرون, الظّالمين).
(٢٩٥) الشّعراء: ١٦٥، الشّورى: ٥٠.
(٢٩٦) البروج: ٧.
(٢٩٧) المدّثّر:١٣.
(٢٩٨) يونس:٦١.
(٢٩٩) هود: ١٨.
(٣٠٠) غافر: ٥١.
(٣٠١) والباقي في: البقرة: (٢٨ و١٥٤)، آل عمران: (١٦٩)، النّحل: (٢١)، فاطر: (٢٢).
(٣٠٢) المرسلات: ٢٦.
(٣٠٣) المرسلات: ٢٥.
(٣٠٤) المرسلات: ٢٧.
(٣٠٥) القيامة: ٤٠.
(٣٠٦) وهي: البقرة: (٢٠٧)، آل عمران: (١٥, ٢٠, ٣٠)، غافر: (٣١, ٤٤, ٤٨)، الزّمر: (١٠).
(٣٠٧) الباقي في سورة يوسف: ٤٨، التّحريم: ٦.
(٣٠٨) النّبأ: ١٢.
(٣٠٩) لاحظ المطّول في شرح التّلخيص للتفتازاني: ٣٦٢. (ط. الحجر).
(٣١٠) الضّحى: ٩- ١٠.
(٣١١) وربّما جعله بعضهم مزيّة مستقلّة سمّاها بـ (التّرصيع) كما في جواهر البلاغة.
(٣١٢) الصّافات: ١١٧- ١١٨.
(٣١٣) التّكوير: ١- ٨.
(٣١٤) الانفطار: ١٣- ١٤.
(٣١٥) المطففين: ٢٢- ٢٣.
(٣١٦) لاحظ جواهر البلاغة: ٣٨٥، ٣٩٣.
(٣١٧) لاحظ جواهر البلاغة: (٣٧٧، ٣٩٩) وغيرها من كتب علم البديع أو البلاغة.
(٣١٨) الكهف: ٤٦.
(٣١٩) مريم: ٧٦.
(٣٢٠) الفتح: ٢٩.
(٣٢١) التّحريم: ٦.
(٣٢٢) المدّثّر: ٥٢.
(٣٢٣) البيّنة:٢.
(٣٢٤) الأعلى: ١٨.
(٣٢٥) النّحل: ٢١.
(٣٢٦) التّوبة:١١٢.
(٣٢٧) التّوبة: ٢٣.
(٣٢٨) التّوبة: ٢٤.
(٣٢٩) النّور:٦١.
(٣٣٠) الأحزاب:٥.
(٣٣١) الأنعام: ٨٧.
(٣٣٢) الأحزاب: ٥٥.
(٣٣٣) الشّورى: ٥٠.
(٣٣٤) الزّخرف: ٧١.
(٣٣٥) النّور: ٣٢.
(٣٣٦) فاطر: ٢٢.
(٣٣٧) آل عمران: ٦٩.
(٣٣٨) البقرة: ١٥٤.
(٣٣٩) المرسلات: ٢٥- ٢٦.
(٣٤٠) الحجرات: ١٥.
(٣٤١) التّوبة: ١١١.
(٣٤٢) الزّمر: ١٥.
(٣٤٣) الرّعد: ٤٢.
(٣٤٤) الفتح: ٢٩.
(٣٤٥) القمر: ٤٣.
(٣٤٦) يونس: ٤١.
(٣٤٧) المجادلة: ٢٢.
(٣٤٨) المائدة: ٩٠.
(٣٤٩) الفتح: ٢٩.
(٣٥٠) ولعلّ من أمثلة فكّ الإدغام في قوله تعالى (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ) (آل عمران: ١٢٥) من غير ضرورة، مع سبق اللّفظ مدغماً من جهة دخول (أنْ) في الآية الّتي قبلها (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ).
(٣٥١) هو ابن بابك المعاصر للصاحب بن عباد (ت٤١٠هـ).
(٣٥٢) الشّعراء: ١٦٥.
(٣٥٣) الحجر: ١٠.
(٣٥٤) القمر: ٥١.
(٣٥٥) سبأ: ٥٤.
(٣٥٦) الزّمر: ١٥.
(٣٥٧) الشّورى: ٤٥.
(٣٥٨) المائدة: ٨٩.
(٣٥٩) الفتح: ١١.
(٣٦٠) الفتح: ١٢.
(٣٦١) التحريم: ٦.
(٣٦٢) لاحظ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: ١٣٨.
(٣٦٣) المائدة: ١٨.
(٣٦٤) غافر: ٢٥.
(٣٦٥) النّور: (٣١)، والأحزاب: (٥٥, ٥٥).
(٣٦٦) البقرة: ١٣٤ و يوسف: ٦٧, ٨٧.
(٣٦٧) إبراهيم: ٣٥.
(٣٦٨) البقرة: ١٢٥.
(٣٦٩) الحج: ٢٦.
(٣٧٠) الفرقان: ٦٤. ونظيره مريم: ٥٨. (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا).
(٣٧١) الفتح: ٢٩.
(٣٧٢) يوسف: ٥٨.
(٣٧٣) يوسف: ٧.
(٣٧٤) يوسف: ١٠٠.
(٣٧٥) النّساء: ١٧٦.
(٣٧٦) الحشر: ١٠.
(٣٧٧) آل عمران: ١٠٣.
(٣٧٨) الحجر:٤٧.
(٣٧٩) الأنفال:٦٧.
(٣٨٠) الأنفال: ٧٠.
(٣٨١) آل عمران: ١٢٤.
(٣٨٢) آل عمران: ١٢٥.
(٣٨٣) البقرة: ٢٤٣.
(٣٨٤) الشّورى: ٤٩.
(٣٨٥) الأنعام: ١٣٩.
(٣٨٦) طه: ٧٠.
(٣٨٧) البقرة: ٥٨ ، الأعراف: ١٦١.
(٣٨٨) يونس: ٦١.
(٣٨٩) هود: ١٨.
(٣٩٠) غافر: ٥١.
(٣٩١) النّساء: ١٣٥.
(٣٩٢) آل عمران: ١٤٠.
(٣٩٣) الأحزاب: ٥٥.
(٣٩٤) النّور: ٣١.
(٣٩٥) البقرة: ١٧٩.
(٣٩٦) مريم: ٢٠.
(٣٩٧) نعم، الّذي رجحناه أنَّ الحركات ليست كيفيات على الحروف، بل هي حالات صوتية إضافية، لكن على هذا القول أيضاً فإنها تختلف عن الحروف في جوهرها، فجوهر الألف وأختيها من قبيل الحركات دون الحروف.
(٣٩٨) المراد بالحالة الألف والواو والياء.
(٣٩٩) الأحزاب: ٥٥.
(٤٠٠) النّور: ٣١.
(٤٠١) العنكبوت: ١٤.
(٤٠٢) الرّوم: ٥٥.
(٤٠٣) الفتح: ٢٩.
(٤٠٤) الحديد: ٢٠.