
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.
إنّ من أهمّ الأدلّة على إثبات الحكم الشرعيّ خبر الواحد؛ إذ غالب الأحكام الشرعيّة قد ثبتت عن طريق السنّة الشريفة، وهي على الغالب محكيّة بأخبار الآحاد، وممّا يواجهه الفقيه في هذا الباب وجود روايات متعارضة ومتنافية فيما بينها بحيث لا يتلقّى العرف الجمع بينها، بأن تكون النسبة بينها التباين أو العموم من وجه، ومن هنا انفتح الباب ـ قبل الذهاب إلى تساقط الأخبار المتعارضة ـ للبحث عن (الأخبار العلاجيّة): وهي الأحاديث الواردة عن المعصومين i لعلاج حالات التعارض والاختلاف الواقعبين الروايات،ومن تلكالأخبار التيبحثها الأصوليّون ووردت في المجاميع الحديثيّة أخبار الترجيح الدالّة على أنّ الخبر الواجد لأحد المرجّحات المعيّنة هو الحجّة الفعليّة دون الخبر الآخر الفاقد له، وقد تعرّض الأصوليّون لتلك المرجّحات المنصوصة، وبحثوا عن إمكان الاعتماد عليها في ترجيح الأخبار المتعارضة وعدم إمكانه.
ومن المرجّحات التي وقعت مورداً للبحث الترجيح بالأحدثيّة، ونحن في مطاوي هذا البحث نحاول الكلام حول تقييم هذا المرجّح، وإمكان الاعتماد عليه وعدمه، وهل يستفاد من الأخبار التي تعرّضت له أنّ الأحدثيّة من المرجّحات أو لا؟
وسوف نتكلّم عن هذا البحث في مقامين:
المقام الأوّل: في ذكر الأقوال في المسألة.
المقام الثاني: في ذكر أدلّة الأقوال ومناقشتها.
وقبل الدخول فيهما نذكر تمهيداً نشرح فيه المفردتين الواردتين في عنوان البحث:
(الترجيح) و(الأحدثيّة).
فأقول: أمّا الأحدثيّة فالمراد بها: (صدور الخبر في زمن متأخّر عن زمن صدور الخبر الآخر)(١)، وهذا المعنى مأخوذ من الروايات التي استدلّ بها على المقام، كما سيأتي ذكرها خلال البحث.
وهو ليساصطلاحاً خاصّاًفي قبالالمعنى اللغويّ،بل منمصاديقه؛ إذ الأحدث في اللغة أفعل تفضيل من الحديث، ومن معاني كلمة الحديث (لغةً): الجديد. والجديد في اللغة: في قبال البالي ــ كما في العين(٢) ـ ونقيض الخَلِق، كما في الصحاح(٣).
وأمّا الترجيح بالأحدثيّة فليس المراد به لزوم التعبّد بالمتأخّر زماناً مطلقاً ولو مع إمكان الجمع العرفيّ بين الخبر المتقدّم والخبر المتأخّر، وهذا واضح حيث جعلت الأحدثيّة من المرجّحات، ووصول النوبة إلى المرجّحات فرع التعارض بين الخبرين وعدم إمكان الجمع العرفيّ بينهما، بل المراد به لزوم التعبّد بالمتأخّر زماناً عند استقرار التعارض بين الخبرين.
المقام الأوّل
الأقوال في المسألة
وفيها قولان:
الأوّل: ما هو المعروف والمشهور بين الأعلام المتأخّرين من عدم كون الأحدثيّة من المرجّحات، ولم أجد من تعرّض للمسألة من علمائنا المتقدّمين S عدا الشيخ الصدوق S على ما سنوضحه.
وأمّا المتأخّرون فأقدم من عثرت عليه متعرّضاً لها هو الفاضل التونيّ S، حيث قال: (وهذه الروايات الثلاثة دالّة على أنّ الواجب الأخذ بالرواية الأخيرة، ولا أعلم أحداً عمل بها غير ابن بابويه في الفقيه في باب الرجل يوصي إلى رجلين)(٤)، ومن بعده صاحب الوسائل أشار إليها كما سيأتي، ثمّ في الحدائق حيث قال: (ولم أقف على من عدّ ذلك في طرق الترجيحات فضلاً عمّن عمل عليه غير الصدوق طاب ثراه في الفقيه)(٥).
الثاني: كون الأحدثيّة من المرجّحات، وهو ظاهر الصدوق S كما سنوضحه، وقال به من المتأخّرين المحقّق النراقيّ كما يلاحظ في موارد عديدة من كتاب المستند(٦)، وقال به أيضاً وطبّقه في موارد كثيرة من فقهه بعض الأعلام من تلامذة السيّد الخوئيّ S(٧)، ومنه يظهر الخدش في ما قاله البعض عند تعرّضه لأحاديث المسألة من أنّه: (لم يسمع أنّ أحداً من الأصحاب قد أخذ بهذه الأحاديث الثلاثة وعمل بها ورجّح الحديث المتأخّر على الحديث السابق بحمل الأوّل على التقيّة والثاني على بيان حكم الله الواقعيّ، فالأولى بل اللازم ردّ علم هذه الروايات الثلاث أيضاً إلى أهله، فإنّهم أولى بفهمها وبسندها وصدورها)(٨).
وقد ذكرنا أنّ جماعة من الأعلام نسبوا هذا القول إلى الشيخ الصدوق S.
ونحن نذكر ما ذكره الشيخ الصدوق S لنرى ما يستفاد من عبارته، فقد ذكر في الفقيهباباً بعنوان:(الرجلين يوصىإليهما، فينفردكلّ واحدمنهما بنصف التركة)(٩)، وذكر تحته حديثين:
الأوّل: (كتب محمّد بن الحسن الصفّار L إلى أبي محمّد الحسن بن عليّ h رجل أوصى إلى رجلين يجوز لأحدهما أن ينفرد بنصف التركة والآخر بالنصف؟ فوقّع g: لا ينبغي لهما أن يخالفا الميت، ويعملان على حسب ما أمرهما إن شاء الله). ثمّ قال: (وهذا التوقيع عندي بخطّه g).
ثمّ نقل الحديث الآخر: (وفي كتاب محمّد بن يعقوب الكلينيّ O عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحسن الميثميّ، عن أخويه محمّد وأحمد، عن أبيهما، عن داود بن أبي يزيد، عن بريد بن معاوية، قال: إنّ رجلاً مات وأوصى إلى رجلين، فقال أحدهما لصاحبه: خذ نصف ما ترك وأعطني النصف ممّا ترك، فأبى عليه الآخر، فسألوا أبا عبد الله g عن ذلك، فقال: ذاك له).
ثمّ ذكر معقّباً على الخبرين ـ وظاهره S أنّه يراهما متعارضين ـ (قال مصنّف هذا الكتاب O: لست أفتي بهذا الحديث، بل أفتي بما عندي بخطّ الحسن بن عليّ h، ولو صحّ الخبران جميعاً لكان الواجب الأخذ بقول الأخير، كما أمر به الصادق g، وذلك أنّ الأخبار لها وجوه ومعان، وكلّ إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس وبالله التوفيق).
وظاهر كلامه أنّه يعمل بالخبر المتأخّر عند تعارضه مع المتقدّم زماناً، لذا قال: (لست أفتي بهذا الحديث [يقصد الثاني الوارد عن الصادق g]، بل أفتي بما عندي بخطّ الحسن بن عليّ h).
ثمّ ذكر كلاماً بعد هذه العبارة أشبه بالكبرى، وهو قوله: (ولو صحّ الخبران جميعاً لكان الواجب الأخذ بقول الأخير)، فيظهر أنّه S يقول بترجيح المتأخّر زماناً؛ لأنّ الذي عنده بخطّ الإمام هو حديث العسكريّ g.
ومن هنا نجد جملةً ممّن تعرّض لكلامه S فهم منه أنّه يقول بهذا المرجّح كما مرّ النقل عن صاحب الحدائق(١٠) S، حيث قال: (ولم أقف على عدّ ذلك في طرق الترجيح فضلاً عمّن عمل عليه غير الصدوق)، وهكذا فهم منه بعض الأعلام S في محكمه(١١).
ولكن مع هذا نقل صاحب الوسائل حديثاً عن الحسين بن المختار، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله g، قال: (أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام، ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟) قال: كنت آخذ بالأخير، فقال لي: (رحمك الله)(١٢)، وهذا الحديث من الأحاديث التي استدلّ بها في الباب، أعني الترجيح بالأحدث، وبعد أن نقل هذا الحديث حمل كلام الشيخ الصدوق S المنقول سابقاً على أنّه يريد الترجيح بالمتأخّر في خصوص زمان الحضور، وهذا نصّ عبارته: (أقول: يظهر من الصدوق أنّه حمله(١٣) على زمان الإمام خاصّة، فإنّه قال في توجيهه: إنّ كلّ إمام أعلم بأحكام زمانه من غيره من الناس. انتهى، وهو موافق لظاهر الحديث، وعلى هذا يضعف الترجيح به في زمان الغيبة وفي تطاول الأزمنة، ويأتي ما يدلّ على ذلك، والله أعلم).
وعلى هذا الحمل لكلام الشيخ الصدوق S فلا يكون ممّن قال بالترجيح بالأحدث عند تعارض الخبرين في زمن الغيبة، والذي هو محلّ كلامنا هنا، واستشهد لهذا التفسير للعبارة بذيل عبارة الفقيه التي جاء فيها: (إنّ كلّ إمام أعلم بأحكام زمانه من غيره من الناس).
لكن هذا الاستظهار يبدو أنّه في غير محلّه وخلاف ظاهر العبارة؛ إذ ظاهرها كما استظهره صاحب الحدائق، فإنّ عبارة الشيخ الصدوق تتضمّن نتيجة، وهي إفتاؤه بحديث العسكريّ g وتقديمه على حديث الصادق g المعارض له، وقال: إنّي أفتي به، فكيف نفسّر عبارته بأنّه يريد لا بدّيّة الأخذ بالمتأخّر زماناً في خصوص زمان الحضور؟! ثمّ عقّبه بشيء أشبه بالكبرى والقاعدة، وهو قوله O: (ولو صحّ الخبران جميعاً لكان الواجب الأخذ بقول الأخير)،فهذا الكلامظاهر جدّاًفي أنّهأفتى بحديث العسكريّ بعد معارضته لحديث الصادق h؛ لكونه من صغريات هذه الكبرى.
بقي هنا شيء وهو أنّ صاحب الحدائق عندما نقل كلام الشيخ الصدوق واستظهر منه أنّه يقول بهذا المرجّح خالفه ووافق المشهور، أي أنّه ليس الخبر الأحدث جائياً لبيان الحكم الواقعيّ دائماً ليفتى بمضمونه، قال S: (العمل بهذا الوجه بالنسبة إلى زمانهم i لا إشكال فيه؛ وذلك لأنّ الظاهر أنّ الاختلاف المذكور ناشئ عن التقيّة لقصد الدفع عن الشيعة، كما يشير إليه قوله g في الخبر الثاني من الأخبار المشار إليها: إنّا والله، لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم، وحينئذٍ فالوجه في الأمر بالأخذ بالأخير أنّه لو كانت التقيّة في الأوّل من الخبرين فالثاني رافع لها، فيجب الأخذ به، وإن كانت التقيّة في الثاني وجب الأخذ به لذلك، وأمّا بالنسبة إلى مثل زماننا هذا فالظاهر أنّه لا يتّجه العمل بذلك على الإطلاق؛ لجواز أن يحصل العلم بأنّ الثاني إنّما ورد على سبيل التقيّة، والحال أنّ المكلّف ليس في تقيّة، فإنّه يتحتّم عليه العمل بالأوّل ولو لم يعلم كون الثاني بخصوصه تقيّة، بل صار احتمالها قائماً بالنسبة إليهما، فالواجب حينئذٍ هو التخيير أو الوقوف، بناءً على ظواهر الأخبار، أو الاحتياط كما ذكرناه)(١٤).
فقد جعل الاختلاف المشار إليه في الروايات الواردة في الأخذ بالأحدث ناشئاً عن التقيّة، وخصّ لزوم الأخذ بالأحدث في زمن الحضور، ولا يجري في زماننا، فلا يصحّ للفقيه أن يفتي بالأحدث بمجرّد كونه كذلك، خلافاً لما يظهر من الشيخ الصدوق.
لكنّ الملاحظ أنّه في موضع آخر من الحدائق أفتى بالمتأخّر زماناً، واستشهد عليه بالروايات الآمرة بالأخذ بالأحدث ـ أي روايات مسألتنا ـ قال S: (يمكن الجواب عن ذلك بأن يقال: إنّه قد ورد عنهم i أنّه إذا أتى حديث عن أوّلهم وحديث عن آخرهم أو عن واحد منهم، ثمّ أتى عنه بعد ذلك ما ينافيه أنّه يؤخذ بالأخير في الموضعين: روى ذلك ثقة الإسلام في الكافي عن المعلّى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله g: إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال: خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله، وروى في حديث آخر عنه g أنّه قال لبعض أصحابه: أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام، ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ قال: قلت: كنت آخذ بالأخير، فقال لي: رحمك الله)(١٥).
والظاهر أنّ هذا نحو تدافع بين الموضعين من كلامه S.
المقام الثاني
ذكر الأدلّة على القولين ومناقشتها
أمّا القول الأوّل المشهور فالوجه فيه عدم تماميّة الروايات التي استدلّ بها على مرجّحيّة الأحدث. واعتبار الترجيح للخبر ـ كأصل الحجّيّة للخبر ـ الأصل عدمه، إلّا إذا قام عليه دليل، قال الشيخ الأنصاريّ S: (لا ريب في أنّ مقتضى الأصل عدم الترجيح كما أنّ الأصل عدم الحجّيّة؛ لأنّ العمل بالخبر الموافق لذلك الظنّ إن كان على وجه التديّن والالتزام بتعيّن العمل به من جانب الشارع، وأنّ الحكم الشرعيّ الواقعيّ هو مضمونه لا مضمون الآخر من غير دليل قطعيّ يدلّ على ذلك فهو تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة، والعمل به لا على هذا الوجه محرّم إذا استلزم مخالفة القاعدة أو الأصل الذي يرجع إليه على تقدير فَقْدِ هذا الظنّ، فالوجه المقتضي لتحريم العمل بالظنّ مستقلّاً ـ من التشريع أو مخالفة الأصول القطعيّة الموجودة في المسألة ـ جارٍ بعينه في الترجيح بالظنّ، والآيات والأخبار الناهية عن القول بغير علم كلّها متساوية النسبة إلى الحجّيّة وإلى المرجّحيّة، وقد عرفت في الترجيح بالقياس أنّ المرجّح يحدث حكماً شرعيّاً لم يكن مع عدمه، وهو وجوب العمل بموافقه عيناً مع كون الحكم لا معه هو التخيير أو الرجوع إلى الأصل الموافق للآخر)(١٦).
وأمّا القول الثاني فاستدلّ عليه بروايات:
الرواية الأولى: رواية أبي عمرو الكنانيّ، قال: قال أبو عبد الله g: (يا أبا عمرو، أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا، ثمّ جئتني بعد ذلك، فسألتني عنه، فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟) قلت: بأحدثهما وأدع الآخر، فقال: (قد أصبت يا أبا عمرو، أبى الله إلّا أن يعبد سرّاً، أما والله، لئن فعلتم ذلك إنّه لـخيرٌ لي ولكم، وأبى الله عزّ وجلّ لنا ولكم في دينه إلّا التقيّة)(١٧).
وتقريب الاستدلال بها: أنّ الرواية قد فرض فيها أنّ المتأخّر مخالف للمتقدّم حيث قال g: (فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك)، فهي واردة في محلّ كلامنا، والإمام g لمّا سأل أبا عمرو بأيّهما كنت تأخذ؟ فأجابه بأحدثهما وأدع الآخر، وصوّبه g على ذلك، ولو لم يكن الأخذ بالأحدث ـ الذي فرض أنّه مخالف للأوّل، أي معارض ـ عملاً صحيحاً شرعاً لأنكر الامام g عليه ذلك مع أنّه صوّبه عليه.
وممّا يقوّي الدلالة أنّ الأمر كان مرتكزاً في ذهن السائل بحيث هو الذي أجاب ولم يتوقّف في حكمه.
ولكن يمكن أن يقال: إنّ الرواية غير تامّة سنداً ودلالةً:
أمّا سنداً فالمشكلة في الراوي المباشر (أبي عمرو الكنانيّ)، فإنّ جملة من الأعلام وصفوها بالضعف من جهته(١٨)؛ إذ إنّه مجهول لم يوثّق في كتب الرجال، والسيّد الخوئيّ S عندما ذكره في المعجم اكتفى بأنّه روى عن أبي عبد الله g، وروى عنه هشام بن سالم في الكافي مشيراً إلى روايتنا المبحوث عنها(١٩)، وهذا يعني أنّه يراه مجهولاً، لكنّه S لمّا ذكر الرواية في أصوله عبّر عنها بصحيحة أبي عمرو الكنانيّ(٢٠).
وقد يذكر وجه(٢١) لتوثيقه بتقريب: أنّ صاحب البحار S (٢٢) بعد أن نقل الرواية المبحوث عنها قال: (قال الوالد S: أبو عمرو هو عبد الله بن سعيد الثقة)، فنقل عن والده أنّه يرى اتّحاد أبي عمرو الكنانيّ مع عبد الله بن سعيد، ولمّا كان الأخير ثقة كان الأوّل كذلك، ووثاقة عبد الله بن سعيد نصّ عليها النجاشيّ عندما ترجم له حيث قال: (عبد الله بن سعيد بن حيّان بن أبجر الكنانيّ أبو عمر الطبيب شيخ من أصحابنا ثقة، وبنو أبجر بيت بالكوفة أطبّاء، وأخوه عبد الملك بن سعيد ثقة، عمّر إلى سنة أربعين ومائتين، له كتاب الديات، رواه عن آبائه، وعرضه على الرضا g، والكتاب يعرف بين أصحابنا بكتاب عبد الله بن أبجر)(٢٣).
و(أبو عمر) في كلامه مصحّف بسقوط الواو بدليل أنّ الواقع في الأسانيد (أبو عمرو المتطبّب) في موارد عديدة(٢٤)، ولكنّ الموجود في كلّ هذه الموارد أنّه عرض كتاب الديات على أبي عبد الله g خلافاً لما في النجاشيّ من أنّه عرضه على الإمام الرضا g.
ومن هنا قال المحقّق التستريّ S: (وإن قلنا ثمّة بوهم النجاشيّ في قوله: رواه عن آبائه، وعرضه على الرضاg: بأنّهعرضه على الصادق g وقلنا: إنّ أصل الكتاب لأمير المؤمنينg، وإنّماعرضه(٢٥)يونس والحسنبن فضّال على الرضا g)(٢٦).
وكيف كان: لعلّ الوجه فيما نقله العلّامة المجلسيّ في البحار عن والده R وجود قرائن على اتّحادهما:
١ـ اتّحاد الكنية بين أبي عمرو الكنانيّ وبين عبد الله بن سعيد، فإنّه أيضاً أبو عمرو، كما نقل النجاشيّ وإن وقع التصحيف في عبارته.
٢ ـ الاتّحاد في اللقب؛ إذ كلّ منهما كنانيّ.
٣ ـ كلّ منهما يروي عن أبي عبد الله الصادق g.
وفي قبال ذلك ما ذكره المولى الأردبيليّ في جامع الرواة(٢٧) من أنّ أبا عمرو هذا غير عبد الله بن سعيد على عكس ما نقله المجلسيّ عن والده R، وعلّله بقوله: (لبعد زمانهما، والله أعلم)، ولعلّه من جهة أنّ عبد الله بن سعيد عرض كتابه على الرضا g، وبقي إلى سنة (٢٤٠ هـ) أي توفّي بعد وفاة الصادق g باثنين وتسعين سنة، فكيف يكون متّحداً مع أبي عمرو الكنانيّ الذي يروي عن الصادق g!
فإذا كان إشكاله من هذه الجهة فقد اتّضح الجواب عنه بما نقلنا عن المحقّق التستريّ S من أنّ ما في النجاشيّ ليس صحيحاً، بل عبد الله بن سعيد عرض كتابه على الصادق g، كما هو الموجود في الروايات فهو من أصحاب الصادق g، وأبو عمرو المبحوث عنه يروي عن الصادق g، فأيّ بُعد حينئذٍ بالاتّحاد!
نعم، يبقى أنّه توفّي بعد الصادق g بما يقرب من اثنين وتسعين سنة؛ لما نقله النجاشيّ من أنّه بقي إلى سنة (٢٤٠هـ)، ولأجله استبعد السيّد الخوئيّ S أن يكون من أصحاب الصادق g قائلاً: (إنّ عبد الله بن سعيد مات سنة مائتين وأربعين، فلا يمكن أن يكون من أصحاب الصادق g إلّا على وجه بعيد)(٢٨).
لكن هذا ليس مانعاً عن دعوى الاتّحاد بأن يكون قد عمّر مائة وعشرين سنة مثلاً، بل نصّ النجاشيّ على بقائه لعلّه لذلك(٢٩).
أقول: ههنا أمور نشير إليها تتعلّق بهذا الوجه:
الأوّل: قد يضاف لقرائن الاتّحاد التي ذكرها سيّدنا الأستاذ i أنّ أبا عمرو الكنانيّ لم يعنون في كتب الرجال، فلو كان مغايراً لعبد الله بن سعيد لعنونوه.
ولكنّه مدفوع باحتمال أنّهم لم يعنونوه لكونه ليس من أصحاب الكتب، ولا توجد له روايات إلّا الرواية المبحوث عنها.
الثاني: مع ما ذكر كلّه يبقى في النفس شيء من دعوى الاتّحاد؛ إذ كما توجد قرائن على الاتّحاد توجد قرائن على التعدّد أيضاً، وهي:
١ ـ لا توجد رواية غير المبحوث عنها يروي فيها هشام بن سالم عن عبد الله بن سعيد، أو عن أبي عمرو المطبّب أو المتطبّب، والراوي عن أبي عمرو الكنانيّ في روايتنا هو هشام بن سالم.
٢ ـ إنّ عبد الله بن سعيد لم يقع وصفه في شيء من الأسانيد بالكنانيّ، وإنّما المعروف المطبّبأو المتطبّب،كما فيالموارد التيأشرنا إليهاسابقاً فيالتهذيب والكافي.
وفي قبال ذلك ما ذكر من قرائن الاتّحاد من اشتراكهما بالكنية واللقب ومعاصرتهما للصادق g، ولكنّها لا تكفي للوثوق بالاتّحاد.
الثالث: أنّ ما ورد في هذا الوجه من أنّ عبد الله بن سعيد كان من المعمّرين، والاستشهاد عليه بما يظهر من النجاشيّ قد يشكّك فيه بأنّ عبارة النجاشيّ التي مرّ نقلها كانت هكذا: (وبنو أبجر بيت بالكوفة أطبّاء، وأخوه عبد الملك بن سعيد ثقة، عمّر إلى سنة أربعين ومائتين)(٣٠)، وكلمة (عمّر) رجوعها إلى عبد الله بن سعيد ليس بذلك الوضوح؛ إذ يحتمل رجوعها إلى أخيه عبد الملك، بل يظهر من المولى الأردبيليّ ذلك؛ حيث قال في ترجمة عبد الملك: ( عبد الملك بن سعيد ثقة عمّر إلى سنة أربعين ومائتين (صه. جش. د) في أخيه عبد الله بن سعيد أيضاً)(٣١) ، وقد سبقه في إرجاع كلمة (عمّر) في كلام النجاشيّ إلى عبد الملك العلّامة في الخلاصة(٣٢) على ما يظهر من أنّه اعتمد في ذلك على النجاشيّ، ولا أقلّ من احتمال ذلك، لا سيّما بعد تعرّض النجاشيّ لتوثيق عبد الملك قبل ذكر التعمير ممّا يعني عدم الوثوق باستفادة رجوع العبارة في كلام النجاشيّ إلى عبد الله بن سعيد.
وعليه يمكن أن يقال: إنّ أبا عمرو الكنانيّ لم تثبت وثاقته، فلم يبق وجه للتعبير عن روايته بالصحيحة، كما وقع من السيّد الخوئيّ S في مبحثنا، ومع التنزّل وتسليم صحّة المحاولة المذكورة في توثيقه، إلّا أنّ وصف السيّد الخوئيّ S لها بالصحيحة ليس استناداً إلى هذه المحاولة.
بيان ذلك: أنّه S لمّا ذكر ترجمة عبد الله بن سعيد نقل توثيق النجاشيّ له(٣٣) ولم يؤشّر إلى اتّحاده مع أبي عمرو الكنانيّ، ولمّا جاء في باب الكنى ذكر أبا عمرو الكنانيّ، واكتفى بأنّه روى عن أبي عبد الله، وروى عنه هشام بن سالم، وأشار إلى روايتنا المبحوث عنها، وبعده مباشرةً ذكر أبا عمرو المتطبّب أو الطبيب، ولم يؤشّر إلى الاتّحاد، كما هي عادته(٣٤) S، فيظهر منه أنّه يراهما شخصين.
إذن لم يكن نظر السيّد الخوئيّ S عند التعبير عنها بالصحيحة إلى المحاولة المذكورة.
وقد يقال(٣٥): إنّ سند الرواية المبحوث عنها تامّ، لكن لا بالسند الذي نقلناه عن الكافي المشتمل على أبي عمرو الكنانيّ، بل بما نقله السيّد البروجرديّ S في جامع أحاديث الشيعة عن صاحب الوسائل: (عن البرقيّ في المحاسن، عن أبيه، عن محمّد ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله g)(٣٦).
وهذا السند كما ترى تامّ، فإنّ فيه رواية هشام بن سالم عن الإمام الصادق g بلا توسّط أبي عمرو الكنانيّ.
فيقال في الجواب:
أوّلاً: الظاهر سقوط أبي عمرو الكنانيّ في هذا السند سهواً، وأنّ هشام بن سالم ينقلها عن أبي عبد الله g بواسطته أيضاً بقرينة توجّه الخطاب في الرواية إلى أبي عمرو الكنانيّ مرّتين.
وثانياً: لو تنزّلنا عن ذلك، وسلّمنا رواية هشام لها مباشرةً يقع التنافي في النقل بين السندين بعد استبعاد كونهما روايتين، بل الظاهر أنّها رواية واحدة ويدور أمرها بين كونها بواسطة أبي عمرو المجهول، كما في نقل الكافي، وبين كونها لا بواسطته، كما في نقل المحاسن، أي يدور أمرها بين الحجّيّة وعدم الحجّيّة، فتسقط عن الاعتبار.
وهنا تنبيهات:
الأوّل: ما ذكر من سقوط أبي عمرو من السند بقرينة توجّه الخطاب في الرواية إليه مرّتين يمكن أن يجاب عنه: بأنّ توجّه الخطاب فيها إلى أبي عمرو مرّتين لا ينافي نقل هشام بن سالم لها عن الإمام مباشرةً؛ إذ قد يكون هشام حاضراً في المجلس وسمع ما خاطب به الإمام أبا عمرو.
الثاني: أنّ صاحب الوسائل بعد أن نقل روايتنا عن الكافي نقل رواية ثانية عنه، وفي ذيل الرواية الثانية قال: (ورواه البرقيّ في (المحاسن) عن عليّ بن فضّال، والذي قبله عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله g مثله)(٣٧).
ومقصوده بالذي قبله روايتنا المبحوث عنها، فيقول: إنّها مرويّة في المحاسن مثل ما في الكافي، إلّا في السند حيث فيه ينقل هشام بن سالم عن الإمام مباشرةً كما مرّ.
ولكنّ الملاحظ أنّنا لم نجده في ما تيسّر لنا من نسخة المحاسن المطبوع، فلعلّه كان موجوداً في النسخة التي عنده.
الثالث: أنّ هذا السند لو سلم ممّا أورد عليه فلا ينفع في توجيه كلام السيّد الخوئيّ S عندما وصف الرواية بالصحيحة؛ حيث إنّه S قال: (كصحيحة أبي عمرو الكنانيّ رواها الكلينيّ)(٣٨)، فهو غير ناظر لسند المحاسن، كما لا يخفى، فيبقى وصفه للرواية بالصحيحة غير ظاهر الوجه.
هذا كلّه من حيث سند الرواية، وقد تبيّن أنّ الظاهر عدم تماميّته.
وأمّا من حيث الدلالة فقد أوردوا عليها بعدّة إيرادات:
الإيراد الأوّل: ما ذكره جماعة من الأعلام منهم السيّد الخوئيّ S فقد قال ما نصّه: (فموردها المكلّف العالم بصدور كلا الحكمين عن الإمام g المعاصر له، ولا بدّ له من العمل بالمتأخّر؛ لأنّ المتقدّم لو صدر عن تقيّة لكان المتأخّر صادراً لبيان الحكم الواقعيّ، ولو كان المتأخّر صادراً عن تقيّة يجب الأخذ به أيضاً؛ لوجوب رعايتها، فإنّ الإمام g أعرف بمصالح الوقت، وهذا غير جارٍ في حقّنا؛ فإنّ المتقدّم والمتأخّر بالنسبة إلينا على حدّ سواء؛ إذ لا علم لنا بصدورهما، ونحتمل أن لا يكون شيء منهما صادراً، وعلى تقدير صدورهما واقعاً لا نعلم أنّ أيّاً منهما صدر لبيان الحكم الواقعيّ ليكون عملنا عليه مع عدم المقتضي للتقيّة في حقّنا، فلا بدّ حينئذٍ من الرجوع إلى مرجّح آخر)(٣٩).
والذي يبدو لي أنّ هذا الكلام مشتمل على إيرادين ـ وإن مُزج بينهما في التقرير ـ:
أحدهما: أنّ مورد الرواية مختصّ بالمكلّف العالم بصدور كلا الحكمين عن الإمام g المعاصر له، وهذا يمكن أن يستفاد من قوله g في الرواية: (أرأيتك لو حدّثتك بحديث .. ثمّ جئتني بعد ذلك .. فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك).
إذ يفهم من هذا المقطع أنّ الشخص عالم بصدور كلا الحديثين، وأنّه قد سمعهما من الإمام نفسه، ولازم ذلك أنّه معاصر للإمام، وحينئذٍ حتّى إذا سلّمنا بأنّ الرواية تدلّ على أنّ الأحدث مرجّح فلا يمكن التعدّي إلى ما إذا وصل الخبران عن طريق النقل بخبر الثقة، كما هو الحال بالنسبة إلينا، فإنّ المتقدّم والمتأخّر ـ كما قال S ـ بالنسبة إلينا على حدّ سواء؛ إذ لا علم لنا بصدورهما، ونحتمل أن لا يكون شيء منهما صادراً؛ إذ لم يفرض في الخبرين المتعارضين اللذين نبحث عن المرجّح لأحدهما العلم بصدورهما، بل الروايتان اللتان يراد حلّ التعارض بينهما لا نعلم بصدورهما، بل نحتمل عدم صدورهما معاً.
ويمكن أن يقال: بأنّا لا نسلّم الاختصاص بمقطوعي الصدور، ومعاصرة الشخص للإمام المستفاد من: (حدّثتك بحديث .. ثمّ جئتني وأخبرتك بخلافه)، بل يمكن إلغاء خصوصيّة ذلك، والتعدّي لما إذا نُقل للشخص الحديث في زمان عن الإمام، ثمّ نقل له خلافه عنه في زمان لاحق بنحو النقل المعتبر الذي لا يفيد القطع بالصدور؛ إذ لا فرق في نظر العرف والعقلاء في لزوم الأخذ والاتّباع لما هو حجّة ومعتبر بين كونه مفيداً للعلم أو ما هو بمنزلته، فإنّهم يرتّبون الأثر على كلّ ما هو معتبر وحجّة وإن اختلفت مرتبة الكشف.
لكن يمكن أن يقال بالمنع من إلغاء خصوصيّة مقطوعي الصدور بالتقريب الذي ذكره السيّد الشهيد ردّاً على جميع الروايات التي استدلّ بها للترجيح بالأحدثيّة على ما سيأتي، حيث قال S: (إنّ الترجيح بالأحدثيّة حكم تعبّديّ بحت لا يطابق القواعد العقلائيّة المرتكزة في باب الطريقيّة، فلا محالة يقتصر فيه على مورد النصّ بعد أن لم يكن فيه إطلاق لفظيّ؛ فإنّ كلمات الأئمّة i تنظر جميعاً إلى وقت واحد، وتكشف عن حكم شرّع في صدر الإسلام، فلا أثر لمجرّد كون أحد الخبرين أحدث من الآخر صدوراً في الكاشفيّة والطريقيّة التي هي ملاك الحجّيّة والاعتبار، ومورد هذه الطائفة(٤٠) تتضمّن خصوصيّتين: أولاهما كون الحديثين قطعيّين سنداً، ومسموعين من الإمام g مباشرةً، فلا يمكن التعدّي منهما إلى الظنّيّين؛ لاحتمال دخل القطع بالصدور في هذا الحكم، إذ ليس حكماً واقعيّاً حتّى يكون ظاهر أخذ قيد القطع في لسان دليله كونه طريقاً إلى الواقع المقطوع به، بل هو حكم ظاهريّ تعبّديّ يعقل أن يكون للشكّ واليقين دخل فيه)(٤١).
وسوف يأتي في نهاية البحث ما له تعلّق بهذا الكلام .
ثانيهما: أنّ الرواية واردة فيما إذا كان أحد الخبرين المتعارضين وارداً مورد التقيّة العمليّة الراجعة إلى الراوي المخاطب لا التقيّة القوليّة المخصوصة بالإمام g في البيان، مع تردّدها بين الخبر المتقدّم أو الخبر المتأخّر، وتعيّن التعبّد بالمتأخّر على التقديرين، فتلزم بالأخذ بالمتأخّر وأنّه حكمه الفعليّ، ولا تشمل ما إذا لم يكن أحدهما كذلك، فإطلاق الحكم بلزوم الأخذ بالمتأخّر من المتعارضين وإن لم يكن المكلّف في تقيّة لا وجه له، فلو بلغ هذان الحديثان إلى الغير على سبيل الرواية والنقل عنه g فلا يجب على ذلك الغير الأخذ بالثاني على الإطلاق؛ لجواز أن يكون عالماً بأنّ الثاني صدر على سبيل التقيّة مع ارتفاع التقيّة عنه، فإنّه يأخذ بالأوّل، كما إذا علم أنّ المعصوم أمر بالمسح أوّلاً، ثمّ أمر بالغسل ثانياً، فإنّه يأخذ بالمسح إذا انتفت التقيّة عنه، والشاهد على اختصاص الرواية بذلك ما ورد في ذيلها: (أبى الله إلّا أن يعبد سرّاً، أما والله .. وأبى الله عزّ وجلّ لنا ولكم في دينه إلّا التقيّة).
والحاصل: أنّ الرواية واردة في المكلّف الذي حكمه الفعليّ هو المتأخّر سواء أكان لبيان الواقع أم للتقيّة، فإنّه في زمان صدور الأخير إن لم يكن موجب التقيّة متحقّقاً في حقّه وجب عليه اتّباعه على أنّه الحكم الواقعيّ، وإن كان متحقّقاً وجب عليه اتّباعه على أنّه الحكم الظاهريّ التابع للتقيّة.
وإن شئت قلت: إنّ المقصود بالأخذ بالأحدث في هذه الرواية ملاحظة ظهور كلام الإمام g في كون ما يقوله وظيفة السامع الفعليّة التي قد تكون واقعيّة وقد تكون ظاهريّة على وفق التقيّة، لا ظهور الكلام في مقام بيان الحكم الواقعيّ، فتكون الرواية أجنبيّة عن محلّ الكلام، وغير جارية في حقّنا؛ إذ حتّى إذا فرض علمنا بصدورهما معاً فلا يلزمنا العمل بالمتأخّر؛ لاحتمال كونه صادراً للتقيّة، وكون مقتضي التقيّة منتفياً في حقّنا، فلا يكون المتأخّر هو حكمنا الفعليّ على كلّ حال.
وهذا الإيراد الثاني ذكره جماعة من الأعلام منهم المحقّق الأصفهانيّ S حيث قال: (من البيّن أنّه لا ربط له بترجيح أحد الخبرين على الآخر لعامّة المكلّفين، بل لأنّ من أُلقي إليه الكلام الأخير حكمه الفعليّ ذلك، سواء كان واقعيّاً أو ظاهريّاً من باب التقيّة، وهذا وجه تحسين الإمام g له)(٤٢).
الإيراد الثاني: ما ذكره السيّد الخوئيّ S أيضاً بقوله: (لو كان المراد في هذه الرواية كون التأخّر مرجّحاً لأحد المتعارضين لكانت منافية لجميع أخبار الترجيح؛ ضرورة تأخّر صدور أحد المتعارضين عن الآخر، فلا بدّ من طرح هذه الرواية؛ إذ لو عمل بها لم يبقَ مورد للعمل بأخبار الترجيح. نعم، مجهولي التاريخ خارج عن مفاد هذه الرواية، ولكن لا يعمل بسائر الترجيحات فيهما؛ لأنّا نعلم بتأخّر أحدهما عن الآخر، وقد اشتبه علينا المتأخّر، فيكون من باب اشتباه الحجّة بغير الحجّة، فلا يمكن الأخذ بواحد منهما.
اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ بقاء جميع الأخبار العلاجيّة بلا مورد على تقدير العمل بهذه الرواية قرينة على اختصاص هذه الرواية بصورة العلم بتاريخ المتعارضين، وأمّا مع الجهل بالتاريخ كان المرجع بقيّة الروايات، فلا يلزم حينئذٍ طرح هذه الرواية لمنافاتها معها)(٤٣).
وتوضيحه ببيان أمور:
الأوّل: لو قلنا بالترجيح بالأحدث لكان منافياً لسائر المرجّحات؛ ضرورة تأخّر صدور أحد المتعارضين عن الآخر؛ إذ لو كانا صادرين من إمامين فالتأخّر واضح، ولو كانا صادرين من إمام واحد فالخبران المتعارضان عادةً لا يصدران من الإمام في مجلس واحد، فلو قلنا بهذا المرجّح لكان منافياً لباقي المرجّحات؛ إذ قد يكون الموافق للكتاب ــ مثلاً ـ متقدّماً، فدليل الترجيح بموافقة الكتاب يلزم الأخذ به، وهذه الرواية تلزم الأخذ بالمتأخّر، وهكذا سائر المرجّحات.
وهذا الأمر ذكره السيّد S في كلامه المتقدّم بقوله: (لوكان المراد بهذه الرواية .. عن الآخر).
الثاني : إذا كان هذا المرجّح منافياً لباقي المرجّحات يتفرّع عليه لزوم طرح هذه الرواية؛ إذ لو عمل بها لما بقي مورد للعمل بأخبار الترجيح، إذ في معلومي التاريخ يؤخذ بالأحدث، ويكون الأوّل معلوم البطلان، فلا تأتي باقي المرجّحات.
وهذا الأمر ذكره بقوله: (فلا بدّ من طرح هذه الرواية .. بأخبار الترجيح).
الثالث: أمّا في مجهولي التاريخ فهنا صحيح لا يعمل بهذا المرجّح ولكن أيضاً لا يعمل بسائر المرجّحات؛ إذ أحد المتعارضين متأخّر قطعاً، فيكون هو الحجّة والآخر ليس بحجّة، فيكون أمرهما دائراً بين الحجّة واللاحجّة، والتمسّك بالمرجّحات فرع حجّيّة كلا المتعارضين، وعلى هذا لا يبقى لأدلّة باقي المرجّحات مورد، وهذا بخلاف ما لو عمل بسائر المرجّحات؛ فإنّه لا يلزم إلغاء هذا المرجّح، إذ قد يكون المتأخّر من المتعارضين فاقداً لجميع المرجّحات الأخرى، فيبقى لهذا المرجّح مورد ولا يلزم إلغاؤه.
ومن المعلوم أنّه إذا كان أحد الدليلين المتعارضين يلزم منه إلغاء الآخر دون العكس يقدّم الآخر عليه، فيلزم طرح هذه الرواية.
وهذا الأمر ذكره S بقوله: (نعم، مجهولي التاريخ .. فلا يمكن الأخذ بواحد منهما).
الرابع: ثمّ قال: (اللهم إلّا أن يقال: إنّ بقاء ..)، ومقصوده أنّ هذه الرواية سوف يخرج منها مجهولا التاريخ، فنحن لا نتمسّك بها فيهما، لا لأنّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، بل لأنّها لا تشملهما، بقرينة بقاء جميع الأخبار العلاجيّة بلا مورد على تقدير شمول هذه الرواية للمجهولين.
ولكن يمكن أن يورد عليه: أنّ هذا التقييد للرواية لا شاهد عليه، وليس جمعاً عرفيّاً بينها وبين أدلّة سائر المرجّحات، وما ذكره لا يصلح شاهداً، ولعلّه لذلك ذكره S لا بنحو الجزم، فيكون الإيراد الذي ذكره على الاستدلال بالرواية تامّاً.
الرواية الثانية: موثّقة محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله g، قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله e لا يتّهمون بالكذب، فيجيئ منكم خلافه؟ قال: (إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن)(٤٤).
وهذه الرواية من حيث السند موثّقة كما وصفناها؛ لورود عثمان بن عيسى فيها، وهو وإن كان لا إشكال في وثاقته، إلّا أنّه من الواقفة، كما نصّ عليه في ترجمته(٤٥)، فوصف الرواية بالصحيحة ـ كما وقع في بعض الكلمات ـ لا يخلو من مسامحة(٤٦)، وباقي رجال السند أيضاً ثقات، فالرواية من حيث السند معتبرة.
وأمّا من حيث الدلالة فقد جعلها بعض الأعلام S هي الدليل الوحيد على مختاره من الترجيح بالأحدث، إذ باقي الروايات ضعيفة عنده(٤٧).
وتقريب دلالتها: أنّ الأحدث من الخبرين المتعارضين يكون ناسخاً للمتقدّم، ومقتضى ذلك أنّ الحكم الواقعيّ هو المتأخّر، لا أنّه مجرّد حكم فعليّ أعمّ من كونه لبيان الواقع أو للتقيّة، قال S: (ومقتضى هذه الرواية أنّ الاعتبار بالحديث الثاني فالأحدث حجّة وناسخ للمتقدّم)(٤٨).
وأورد على الاستدلال بها بوجوه:
الوجه الأوّل: ما ذكره السيّد الخوئيّ S قائلاً: (لا يصحّ التمسّك بها للترجيح؛ إذ لو كان المراد من النسخ في هذه الرواية هو النسخ الاصطلاحيّ، بناءً على إمكانه بعد انقطاع الوحي أيضاً(٤٩)؛ لكونه بمعنى بيان أمد الحكم لا ارتفاع الحكم المستمرّ، فلا بدّ من أن يكون المراد من الحديث الناسخ للحديث النبويّ مقطوع الصدور، فإنّ ضرورة المذهب قاضية بعدم نسخ الكتاب والسنّة بالخبر الظنّيّ، بل هذا ممّا اتّفق عليه الفريقان، فإذن لو كان المراد من النسخ هو النسخ الاصطلاحيّ فلا بدّ من أن يكون المراد من الناسخ المقطوع الصدور، وهو خارج عن محلّ الكلام(٥٠).
وإن كان المراد من النسخ معناه اللغويّ(٥١) ليشمل التخصيص والتقييد ـ كما قد أُطلق عليهما في بعض الأخبار ـ فكأنّ المراد تخصيص العموم المرويّ عن النبيّ e بالمخصّص المرويّعن الإمامg أوتقييده به،ولا مانعمنه، ولكنّهأيضاً خارج عن محلّالكلام؛ لأنّالكلام فيالمتعارضين اللذينلا يكونبينهما جمععرفيّ كما تقدّم)(٥٢).
وأورد عليه بعض الأعلام من تلامذته(٥٣) بما حاصله: أنّ من الممكن اختيار الشقّ الأوّل، ولا يرد عليه ما ذكر لوجهين:
الأوّل : أنّ السيّد الخوئيّ S كأنّه افترض أنّ الحديث الأوّل (المنسوخ) الوارد عن النبيّ e قطعيّ، لذا قال: لا بدّ أن يكون الحديث الناسخ كذلك؛ للضرورة واتّفاق الفريقين على عدم صحّة نسخ الظنّيّ للقطعيّ، أمّا إذا فرضنا الأوّل ظنّيّاً فلا مانع حينئذٍ من أن يكون الحديث الناسخ ظنّيّاً، فيكون كلّ من المتقدّم والمتأخّر ظنّيّاً، وهو الغالب في الخبرين المتعارضين، فبعد تسليم صحّة النسخ بعد انقطاع الوحي لا توجد ضرورة ولا إجماع على بطلان هذه الصورة، بل صرّحوا بجوازها، قال الشيخ الطوسيّ S: (أمّا السنّة فإنّما تنسخ بالسنّة أيضاً إذا تساويا في الدلالة، فإن كانت الأولى من أخبار الآحاد فعلى مذهبنا ذلك ساقط؛ لأنّا لا نعمل بها، وعلى مذهب الفقهاء يجوز نسخها بمثلها؛ لأنّهما إذا كان طريقهما العلم فحكمهما حكم الكتاب، وإن كانا ممّا طريقهما العمل فحالهما أيضاً متساوية، فيجب صحّة نسخ إحداهما بالأخرى)(٥٤)، وكلامه صريح في أنّ السنّة تنسخ بمثلها إذا كانتا متساويتين في الدلالة، وقال المحقّق S: (نسخ الكتاب بالكتاب جائز، والسنّة المتواترة بمثلها، والآحاد بالآحاد)(٥٥)، وهو يوافق ما قاله الشيخ.
إذن ليس كلّ سنّة ناسخها لا بدّ أن يكون قطعيّاً، فحمل الناسخ في الموثّقة على خصوص القطعيّ كأنّه مبنيّ على أنّ حديث النبيّ e الوارد فيها خصوص المقطوع، وهذا تقييد للرواية من غير مقيّد، بل الرواية مطلقة من هذا الجانب.
والصور المحتملة فيها أربعة:
إحداها: أن يكون حديث النبيّ e مقطوعاً والناسخ له كذلك.
ثانيها: أن يكون كلاهما مظنوناً.
ثالثها: أن يكون الأوّل مظنوناً والثاني مقطوعاً.
رابعها: أن يكون الأوّل مقطوعاً والثاني مظنوناً.
وما قامت الضرورة وإجماع الفريقين على بطلانه هو الصورة الأخيرة، فنخرجها من الإطلاق لذلك، ويبقى الباقي مشمولاً له، فيتمّ الاستدلال بالرواية.
الثاني: جاء في كلامه S إذا كان المراد النسخ الاصطلاحيّ فلا بدّ من أن يكون المراد من الحديث الناسخ للحديث النبويّ مقطوع الصدور، فكأنّه فرض أنّ الحديث المنسوخ في الموثّقة حديث نبويّ، فلو سلّمنا أنّ الحديث النبويّ كالقرآن لا ينسخه إلّامقطوع الصدورحتّى إذاكان مظنوناً،لكن لا نسلّم اختصاص الرواية بالحديث النبويّ، فإنّه وإن جاء فيها السؤال عن نقل ما نقله فلان وفلان عن
النبيّ e مخالفاً لما نقله الأئمّة عنه، إلّا أنّ العبرة بإطلاق الجواب لا بخصوص السؤال، وجواب الإمام g مطلق، فيشمل ما إذا كان كلا الحديثين وارداً عن الأئمّة، وحديث الأئمّة لا ضرورة ولا إجماع على أنّه لا ينسخ إلّا بالمقطوع وإن كان مظنوناً.
ويبدو أنّ كلا الإيرادين تامّ.
الوجه الثاني: ما احتمله المجلسيّ S حيث قال: (ويحتمل أن يكون ذلك للتقيّة من المخالفين في نسبة الصحابة إلى النفاق والكذب والوهم، فإنّهم يتحاشون عنها)(٥٦).
وحاصله: أنّ الحديث الأوّل الذي ينقله فلان وفلان كذب وافتراء على رسول الله e، والحجّيّة منحصرة بالثاني، فالأخذ بالمتأخّر لا من أجل أنّه متأخّر، بل من أجل أنّ الأوّل ليس بحجّة أصلاً، فتخرج الموثّقة عمّا نحن فيه؛ إذ ما نحن فيه فرع ثبوت الحجّيّة لكلا الخبرين المتعارضين، وأنّ الدوران بين الحجّتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما، فنذهب لذلك إلى المرجّحات، وعلى هذا الحمل للحديث لا يكون الأمر دائراً بين الحجّتين، بل بين الحجّة واللاحجّة، وإنّما عبّر الإمام g بقوله: (إنّ الحديث ينسخ ..) ولم يصف الحديث الأوّل الجائي عن الآخرين بالكذب والافتراء تقيّة لأنّهم i يتحاشون عن وصف الصحابة بذلك.
وفيه: أنّه خلاف الظاهر لا يمكن المصير إليه إلّا بقرينة، وهي مفقودة، بل القرينة على خلافه؛ حيث إنّ الرواية فرضت أنّ فلاناً وفلاناً ممّن لا يتّهمون بالكذب، ومن هنا جعل السيّد الشهيد هذا الخبر في عداد الروايات الدالّة على حجّيّة خبر الواحد، حيث قال: (فإنّ ظاهر هذا هو الفراغ عن حجّيّة خبر من لا يتّهم بالكذب، إذ الظاهر أنّ خبر من لا يتّهم بالكذب لو كان كالقياس لما سأله عن وجه المخالفة. ولكن بما أنّ خبر الثقة يكون في نظر هذا السائل حجّة وطريقاً إلى الواقع ممضى من قبل الشارع انتقل ذهن هذا الرجل إلى هذا السؤال، والإمام g قد أقرّه على تصوّره هذا)(٥٧).
فهذا الوجهالذي ذكرهالمجلسيّ ضعيف،ولعلّه لذلك حكاه S بنحو الاحتمال. نعم، يردالإشكال على البعض حيث قال عن هذا الوجه:(إنّه غير بعيد)(٥٨).
الوجه الثالث: ما ذكره بعض الأعلام S من اختصاص الرواية بمقطوعي الصدور، قال: (هي ظاهرة في كون الخبرين مقطوعي الصدور؛ للتعبير بأنّه يجيء منكم خلافه، فمجيء خلاف ما حدّث به عن الرسول e منسوب إليهم مباشرةً، وهولا يتناسب مع عدمالجزم بصدوره منهم، كماأنّ ظاهرالسؤال هوالمفروغيّة عن صدورهما معاً لا التشكيك في أحدهما، وإنّما الإشكال في مخالفتهم i للرسول e مع ما صدر منهم من أنّهم لا يفتون بما يخالف سنّة الرسول، ويؤيّده تقرير الإمام g له، ورفع ما في ذهنه بأنّ الحديث ينسخ)(٥٩).
وحاصله: أنّ الموثّقة ناظرة إلى مقطوعي الصدور، وذكر قرينتين على ذلك:
الأولى: التعبير الوارد في الرواية: (يجيء منكم خلافه)، فهذا يعطي أنّ الحديث مأخوذ منهم مباشرةً، ولعلّه S استنتج هذا من تعبير الرواية بحرف الجرّ (من) لا (عن)، فكأنّه لو قال: (عنكم) لما فهم أنّه مأخوذ منهم مباشرةً، ولكنّه عبّر بـ(يجيء منكم) وهو ظاهر في الأخذ منهم بلا واسطة، وهو مساوق للقطع بالصدور، ولعلّه من أجل ذلك لم يذكر هذا الوجه في رواية المعلّى بن خنيس الآتية التي ورد فيها اللسان نفسه، إلّا أنّها لم يعبّر فيها بـ(يجيء منكم)، بل عبّر فيها بـ(جاء عنكم).
الثانية: أنّ ظاهر الموثّقة أنّ السائل فارغ عن صدور الحديثين، وإنّما يسأل عن شيء آخر، وهذا لا يتناسب إلّا مع قطعه بصدورهما، وإذا كانت الرواية كذلك فلا تجري في حقّنا، فإنّ المتقدّم والمتأخّر بالنسبة إلينا على حدّ سواء؛ إذ لا علم لنا بصدورهما، ونحتمل أن لا يكون شيء منهما صادراً.
أقول: كلا القرينتين اللتين اعتمد عليهما S في اختصاص الموثّقة بالمقطوعين يمكن الخدش فيهما:
أمّا الأولى فلم يتّضح أنّ التعبير بـ(منكم) مختصّ بالأخذ مباشرةً، بل يمكن أن يقال إنّه أعمّ من ذلك، فيشمل ما إذا نقل الثقة عنهم، وقد بحثت عن موارد استعمال هكذا تركيب وما يرادفه فوجدته قليلاً من جهة، ولم أجد ما يؤشّر إلى اختصاصه بالأخذ مباشرةً وبنحو القطع من جهة أخرى.
وأمّا الثانية فنسلّم أنّ ظاهر السؤال هو المفروغيّة عن صدورهما معاً لا التشكيك في أحدهما، لكن المفروغيّة عن صدورهما لا تستلزم أنّ اعتقاد صدورهما كان من أجل القطع به، بل يشمل ما إذا وصلا بطريق معتبر، بأن كانا ظنّيّين قد أخبر الثقة بهما.
الوجه الرابع(٦٠): عدم استفادة الترجيح بالأحدثيّة من الموثّقة في ما هو محلّ الابتلاء غالباً؛ لعدم تعلّقها بهذا المقام.
وتوضيح ذلك يحتاج إلى مقدّمة: وهي أنّ الأئمّة i طالما سئلوا عن الوجه في اختلاف ما يروى عن جمهور الصحابة عن رسول الله e مع ما يذكره الأئمّة i بالرغم من تأكيدهم مراراً على أنّ حديثهم حديث رسول الله e، وقد وجّه هذا السؤال سليم بن قيس الهلاليّ إلى أمير المؤمنين g، فقال: إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذرّ شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن نبيّ الله e غير ما في أيدي الناس، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ الله e أنتم تخالفونهم فيها، وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله e متعمّدين، ويفسّرون القرآن بآرائهم! قال: فأقبل عليّ فقال: (قد سألت فافهم الجواب، إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعامّاً وخاصّاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً .. إنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: رجل منافقيظهر الإيمان،متصنّع بالإسلاملا يتأثّمولا يتحرّجأن يكذبعلى رسول الله e متعمّداً، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه، ولم يصدّقوه، ولكنّهم قالوا: هذا قدصحب رسول الله e ورآهوسمع منه،وأخذوا عنه،وهم لايعرفون حاله.
ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحمله على وجهه ووهم فيه، ولم يتعمّد كذباً، فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه، فيقول: أنا سمعته من رسول الله e، فلو علم المسلمون أنّه وهمَ لم يقبلوه، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله e شيئاً أمر به، ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، ولو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على رسول الله e مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسول الله e لم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كما سمع، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإنّ أمر النبيّ e مثل القرآن ناسخ ومنسوخ)(٦١).
وموثّقة محمّد بن مسلم المبحوث عنها قد وردت في نفس سياق ما ورد في رواية سليم بن قيس. قال المحقّق الفيض الكاشانيّ في معنى هذه الموثّقة: (إنّ حديث رسول الله ربّما ينسخ ولا يعلم الراوي نسخه، فيرويه ظنّاً منه بقاء حكمه من غير كذب، فيجيء عن أهل البيت i خلافه؛ لعلمهم بناسخه)(٦٢).
وبذلك يظهر أنّه لا علاقة للموثّقة بما هو محلّ الابتلاء غالباً من تخالف الروايات المروية من إمام واحد، أو من عدد من الأئمّة i ، فإنّ أقصى ما يمكن أن يستفاد منها أنّه إذا روي من طريق الثقات عن النبيّ e حكم عن فلان وفلان يعني الصحابة، وورد عن أئمّة أهل البيت i خلاف ذلك، يؤخذ بالثاني من جهة أنّ الأوّل منسوخ، والثاني يتضمّن ناسخه، أي أنّ كلام الإمام g يحكي ما حكم به النبيّ e من الناسخ.
وببيان آخر: إنّ قوله g: (إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن) لو كان كلاماً مبتدءاً ولم يكن جواباً عن سؤال لمحمّد بن مسلم لما دلّ إلّا على وقوع النسخ في الحديث على سبيل الموجبة الجزئيّة، فهو ممّا ليس له إطلاق، ولا يدلّ على أنّ كلّ حديثين اختلفا يكون الثاني منهما ناسخاً للأوّل، وهذا واضح جدّاً.
ولكن لمّا وقع كلامه g جواباً عن سؤال محمّد بن مسلم في وجه الاختلاف بين الحديث المروي عن النبيّ e من طرق الجمهور، وما يجيء عن الأئمّة i دلّ على لزوم الأخذ بما يرد عنهم i في مقابل ما يروى عن النبيّ e بطريق آخر من حيث إنّهم i يذكرون الناسخ، وأنّ ما في أيدي الناس إنّما هو من المنسوخ الذي لا عبرة به.
وهذا الوجه ممّا لا يتأتّى في اختلاف الحديثين المرويين عن الباقر والصادق h مثلاً، فإنّه لا يحتمل أن يكون الثاني منهما ناسخاً للأوّل، ولو سلّم تأتّيه فيه أيضاً إلّا أنّه لا إطلاق لجواب الإمام g ليشمل مثله؛ لأنّه خارج عن محطّ السؤال، وأمّا الجواب فقد صيغ على سبيل القضية الجزئيّة ممّا لا يمكن معه تطبيقها على أيّ مورد آخر غير مورد السؤال إلّا بقرينة، وهي مفقودة.
وهذا الجواب يبدو أنّه تامّ، فلا تصلح الموثّقة على أساسه دليلاً على محلّ الكلام.
الرواية الثالثة: رواية المعلّى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله g: إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال: (خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا قوله، قال: ثمّ قال أبو عبد الله g: إنّا والله، لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم)(٦٣).
وتقريب الاستدلال بها: أنّ هذه الرواية وإن كانت تختلف عن الروايتين المتقدّمتين حيث لم يصرّح فيها بوجود مخالفة بين الحديث المتقدّم والمتأخّر، إلّا أنّ ذلك يفهم منها ضمناً؛ إذ إنّ قول الراوي: (بأيّهما نأخذ؟) يتضمّن وجود اختلاف بين الحديثين بنحو لا يتلقّى العرف الجمع بينهما بلا حاجة للرجوع إلى الإمام g، ومعنى هذا استقرار التعارض بينهما، والإمام g قال له خذ به، أيّ بالحديث الذي أتى عن آخرنا حتّى يبلغكم عن الحيّ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا به، وما يرد عن الحيّ هو متأخّر أيضاً سواء وافق ما جاء عن أوّلهم أو ما جاء عن آخرهم i، وهذا معناه أنّ الحجّيّة دائماً للمتأخّر، فيثبت المطلوب.
أقول: نأخذ بالكلام عن الرواية سنداً ثمّ دلالة.
أمّا من حيث السند فيوجد كلام في إسماعيل بن مرّار والمعلّى بن خنيس.
أمّا إسماعيل بن مرّار فلم ينصّ على توثيقه في كتب الرجال، ومن هنا توقّف البعض في وثاقته(٦٤)، والبعض(٦٥) وثّقه من جهة ما ذكره الشيخ الطوسيّ O في الفهرست في ترجمة يونس بن عبد الرحمن، قال: (وقال أبو جعفر ابن بابويه سمعت ابن الوليد O يقول: كتب يونس بن عبد الرحمن التي هي بالروايات كلّها صحيحة يعتمد عليها، إلّا ما ينفرد به محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس ولم يروه غيره، فإنّه لا يُعتمد عليه، ولا يفتى به)(٦٦).
فإنّه بعد الالتفات إلى أنّ إسماعيل بن مرّار يروي عن يونس كثيراً، وما وصل إلينا من رواياته عنه أكثر من مائتي رواية، فالظاهر أنّ حكم ابن الوليد بصحّة كتب يونس يشمل الروايات التي يرويها عنه إسماعيل هذا، والمدوّنة في كتب يونس الواصلة إلى ابن الوليد، وبذلك يثبت صحّة رواياته وأنّها محلّ اعتماد.
ولكنّ السيّد الخوئيّ S لم يرتضِ هذا الوجه وإن حكم بوثاقة إسماعيل بن مرّار لوقوعه في أسناد تفسير القمّيّ(٦٧).
وأمّا المعلّى بن خنيس فأيضاً فيه كلام وخلاف، والسيّد الخوئيّ S (٦٨) انتهى إلى وثاقته أيضاً، فتكون هذه الرواية تامّة عنده S سنداً، وهو وإن لم يذكرها في هذا البحث في مصباح الأصول، إلّا أنّه عدّها مع روايات المسألة في تقريره الآخر الدراسات(٦٩)، لكنّ الملاحظ أنّه أجاب عنها هناك بوجوه: منها ضعف السند، مع أنّها حسب مبناه ـ كما ذكرنا ـ تامّة السند.
كما تعرّض لهذه الرواية هنا جملة من الأعلام: منهم صاحب الحدائق(٧٠) والمحقّق الأصفهانيّ(٧١) ، وغيرهم.
وكيف ما كان: فقد أجابوا عنها بوجوه:
الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق المازندرانيّ في شرح أصول الكافي بقوله: (مفاده ومفاد قوله سابقاً وفي رواية أُخرى: بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك واحدٌ، يعني خذوا بأيّهما شئتم من باب التسليم حتّى يبلغكم التفسير عن المعصوم الحيّ، فإن بلغكم التفسير والبيان عنه فخذوا بقوله واتركوا الآخر)(٧٢).
فحملها على أخبار التخيير، وكأنّه أرجع الضمير في قوله g: (خذوا به حتّى يبلغكم) إلى قول السائل: بأيّهما نأخذ، وهو واحد ممّا أتى من أوّلهم وآخرهم، ومعنى الأخذ بأيّ من المختلفين هو التخيير بينهما.
ثمّ قال: (وفي حديث آخر: خذوا بالأحدث، الأمر بالأخذ بالأحدث إمّا على سبيل الإباحة،أو علىسبيل الندب،لا علىسبيل الوجوببدليل قوله:بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك، وقوله: خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ، وقوله: لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم، فإنّ كلّ واحد من هذه الثلاثة يفيد جواز الأخذ بكلِّ واحد من الأقدم والأحدث، فالأخذ بالأحدث ليس بواجب، بل هو جائز أو هو أوْلى؛ لاشتماله على مصلحة زائدة مفقودة في الأوّل).
لكن أقول: إنّ إرجاع ضمير خذوا به في قوله g: (خذوا به حتّى يبلغكم) في رواية المعلّى بن خنيس إلى قوله: (بأيّهما نأخذ ممّا أتى من أوّلهم وآخرهم) ليس ظاهراً في الرواية، ولو كان هذا هو المقصود لكان المناسب بسلاسة العبارة أن يقول g: (خذوا بأيّهما حتّى يبلغكم عن الحيّ)، لا أن يأتي بالضمير.
ولكن يبقى هذا محتملاً في قبال ما بني عليه الاستدلال من إرجاع الضمير إلى الحديث المتأخّر، فإنّه أيضاً لو كان المقصود إرجاع الضمير إليه لكان المناسب بسلاسة العبارة أن يقول: (خذوا بما بلغكم أخيراً) ونحو ذلك.
فظهر من هذا أنّ العبارة ليست سلسة على كلّ حال، فإنّ استخدام الضمير في هذا المورد ليس مناسباً أيّاً كان مرجعه، فما ذكره المحقّق المازندرانيّ وإن كان ليس هو الظاهر، لكنّه يبقى محتملاً احتمالاً معتدّاً به ممّا يؤثّر على الاستدلال بالرواية على محلّ الكلام.
الوجه الثاني: ما ذكره البعض من اختصاص هذه الرواية بمقطوعي الصدور، حيث قال: (الظاهر من قوله g: (فإن بلغكم) هو البلوغ بوجه معتبر، كما قوّيناه في أخبار (من بلغ) لا مطلق وصول الحديث وإن كان ظنّيّاً حتّى يعمّ الأخبار الآحاد التي بأيدينا. وعليه يختصّ تقديم الأحدث بالقطعيّين)(٧٣).
وفيه: أنّه لم يتّضح لي وجه استلزام التعبير بالبلوغ لكون الطريق قطعيّاً، فإنّ غاية ما يقتضيه أن يكون البلوغ بوجه معتبر، وهذا يشمل الخبر الظنّيّ الحجّة، قال السيّد الشهيد S ـ بعد أن ذكر أنّ روايات الباب مشتملة على خصوصيّتين: القطع بالصدور والمعاصرة للمعصوم، وبعد ذكره لخصوصيّة المعاصرة ـ: (وهذه الخصوصيّة بنفسها يمكن إبرازها أيضاً في رواية أخرى من هذه الطائفة، وهي رواية معلّى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله g.. فإنّ هذه الرواية قد لا يتّجه في حقّها احتمال اختصاصها بمعلومي الصدور؛ لأنّه قد عبّر فيها بمجيء الحديث الذي قد يدّعى إطلاقه للأخبار الآحاد ، إلّا أنّ الخصوصيّة الثانية واضحة في موردها)(٧٤).
الوجه الثالث: ما ذكره السيّد الشهيد S ـ جواباً عن كلّ روايات الباب منها روايتنا المبحوث عنها ـ بقوله: (لو فرض تماميّة دلالتها على الترجيح فإنّما تدلّ عليه في غير محلّ الكلام؛ لأنّ الترجيح بالأحدثيّة حكم تعبّديّ بحت لا يطابق القواعد العقلائيّة المرتكزة في باب الطريقيّة، فلا محالة يقتصر فيه على مورد النصّ بعد أن لم يكن فيه إطلاق لفظيّ، فإنّ كلمات الأئمّة i تنظر جميعاً إلى وقت واحد وتكشف عن حكم شرّع في صدر الإسلام، فلا أثر لمجرّد كون أحد الخبرين أحدث من الآخر صدوراً في الكاشفيّة والطريقيّة التي هي ملاك الحجّيّة والاعتبار)(٧٥).
فحتّى إذا سلّمنا دلالتها على الترجيح بالأحدث، وأنّ الأحدث مبيّن للحكم الواقعيّ، لا أنّه مجرّد حكم فعليّ أعمّ من الواقعيّ والتقيّتيّ، وهذا فرق هذا الجواب عن الجواب الآتي(٧٦)، فبما أنّ الترجيح بالأحدث أمر تعبّديّ صرف بعيد عن المرتكزات العقلائيّة في باب الطريقيّة باعتبار أنّ كلامهم i كلام واحد فعقلائيّاً لا فرق فيه بين الخبر المتقدّم وبين المتأخّر من حيث الطريقيّة، وبما أنّه حكم تعبّديّ
فلابدّ من الاقتصار فيه على مورد الرواية، ولا يتعدّى عنه إلى غيره، ومورد الرواية المبحوث عنها معاصرة السامع للحديث الأحدث؛ لأنّ المفروض فيها ذلك بمقتضى قوله g: (حتّى يبلغكم عن الحيّ فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا قوله)، فلعلّ لهذه الخصوصيّة دخلاً في الحكم المذكور، فلا يتعدّى منها إلى زمن الغيبة الذي هو محلّ الكلام والابتلاء في حلّ التعارض بين الأخبار.
قد يقال: دعوى أنّ الترجيح بالأحدثيّة تعبّديّ بحت لا يطابق القواعد العقلائيّة المرتكزة منافيةٌ مع ما مرّ في رواية الكنانيّ حيث إنّ الإمام g سأله: (يا أبا عمرو، أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا، ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه، فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر)، فنرى أنّ الراوي هو الذي أجاب بالأخذ بالأحدث لا الإمام والإمام صوّبه على ذلك، فهذا يعني أنّ الأخذ بالأحدث كان أمراً مرتكزاً في ذهنه، فكيف يقال إنّه حكم تعبّديّ بحت لا يطابق القواعد العقلائيّة.
فيقال: لا تنافي بين الأمرين، حيث إنّ الذي قاله S في هذا الوجه من أنّه تعبّديّ لا يطابق القواعد العقلائيّة مقصوده في باب الطريقيّة والكاشفيّة، كما صرّح بذلك في هذا الوجه، أي في مقام الإثبات والدلالة لا فرق بين الطريق المتقدّم والمتأخّر، وأمّا ما جاء في رواية الكنانيّ فالمرتكز في ذهن الراوي هو الأخذ بالحديث الأحدث من جهة صدوره لبيان الحكم الفعليّ الذي يحدّده إمام العصر، أي المرتكز الأخذ بالمتأخّر ليس من جهة كاشفيّته وطريقيّته، وإنّما المنكشف بالدليل، أعني الحكم الفعليّ في مقام الثبوت.
وبعبارة أخرى: إنّ الواضح في ذهن الراوي والعرف ليس هو تقديم الأحدث باعتبار كشفه عن الحكم الواقعيّ بحيث يكون كشف المتأخّر زماناً عن الحكم الواقعيّ أكبر من كشف المتقدّم عنه، فإنّ هذا شيء لا يدركه الارتكاز، بل لا فرق بينهما بلحاظ الكشف عن الحكم الواقعيّ، بل الشيء المعقول الذي ينسجم مع افتراض أنّ تقديم المتأخّر أمر ارتكازيّ، وواضح هو أنّ التقديم لا لمجرّد التقدّم والتأخّر الزمانيّ، بل باعتبار أنّ الحديث الثاني يتضمّن بيان الوظيفة الفعليّة التي يجب على المكلّف اتّباعها.
الوجه الرابع: ما ذكره المحقّق الأصفهانيّ S بقوله: (وهي أيضاً بقرينة امتداد الحكم إلى أن يبلغ عن الحيّ ظاهر في أنّ الفعليّ أيّاً ما كان هو الثاني إلى أن ينكشف حاله، لا أنّ وظيفة عامّة المكلّفين ذلك ولو في غير زمان الحضور الذي يتفاوت حال الأئمّة i وشيعتهم من حيث الاتّقاء من الأعداء)(٧٧).
فهو يحملها على زمن الحضور بقرينة امتداد الحكم إلى أن يبلغ عن الحيّ بلحاظ معرفة الأئمّة i بما تقتضيه أحوال زمانهم من التقيّة وعدمها.
قال بعض الأعلام S: (ويشهد له قوله g بعد ذلك: (إنّا والله، لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم) الظاهر في كون اختلاف الحكم باعتبار اقتضاء حال زمان الحكم له، وهذا يختصّ في زمان الحضور، وأنّ ما يقوله الإمام الحيّ لا بدّ من الأخذ به وإن خالف حكمه حكم الإمام السابق؛ لأنّ تفاوت حكمهم i بتفاوت حال الزمان الذي هم فيه من حيث لزوم التقيّة وعدمها، ولأنّهم يلحظون في أحكامهم ما يقتضيه الحال)(٧٨).
فقبل البلوغ من الحيّ يكون الحكم الفعليّ في حقّ المكلّف هو الثاني سواء أكان واقعيّاً أم ظاهريّاً؛ إذ يجب الأخذ بما يحدّده إمام العصر.
وعلى هذا فلا تشمل الرواية غير زمن الحضور، فتكون أجنبيّة عن محلّ كلامنا.
قال السيّد الشهيد S: (والتحقيق أنّ هذه الطائفة ليست من أدلّة الترجيح أصلاً، بل مفادها أمر آخر، وتوضيح ذلك: أنّ الحديث الأحدث المسموع من
الإمام g فيه ظهوران: أحدهما الظهور في كونه بصدد بيان الحكم الواقعيّ العامّ. والثاني ظهوره في بيان وظيفة السامع الفعليّة التي قد تكون واقعيّة، وقد تكون لظروف التقيّة، والظاهر أنّ المقصود من الأخذ بالأحدث في هذه الروايات ملاحظة الظهور الثاني في حقّ السامع، والتأكيد على لزوم اتّباعه على كلّ حال، لا ترجيح الأحدث بلحاظ ظهوره الأوّل الكاشف عن الحكم الواقعيّ العامّ.
وممّا يشهد لهذا الفهم، مضافاً إلى كون الأحدثيّة لا تتضمّن أيّة مناسبة عقلائيّة للترجيح في باب الحجّيّة، فمن المستبعد جدّاً افتراض دخلها شرعاً في هذا الباب، التفاتُ السائل لهذا الترجيح بنفسه حيث أجاب على سؤال الإمام بأنّه يأخذ بالأحدث(٧٩)، ممّا يعني أنّ هذا المعنى كان واضحاً مركوزاً لدى العرف، وذلك لا يكون إلّا بالاعتبار الذي أوضحناه)(٨٠).
والمتحصّل من هذا الوجه: أنّ المقصود من السعة هو التقيّة، فهو g يلاحظ التوسعة عند بيان فتوى مخالفة لفتوى سابقة كي لا يقع الشيعة في الضيق، وهذا حكم التقيّة، ولا ربط له بباب الخبرين المتعارضين، وحيث إنّه لا تقيّة في مثل زماننا فلا معنى للترجيح بالأحدث.
إلى هنا يتّضح أنّ الروايات التي استُدلّ بها على كون الأحدثيّة من المرجّحات لا دلالة فيها على ذلك، فلا تكون الأحدثيّة من مرجّحات باب التعارض.
مصادر البحث
القرآن الكريم.
(١) ذكر هذا التعريف جماعة من الأصوليّين، يلاحظ على سبيل المثال: بحوث في علم الأصول: ٧/ ٣٦٢.
(٢) يلاحظ: العين: ٦/ ٨.
(٣) يلاحظ: الصحاح: ٢/ ٤٥٤.
(٤) الوافية في أصول الفقه: ٣٣١.
(٥) الحدائق الناضرة: ١/ ١٠٥.
(٦) يلاحظ على سبيل المثال: مستند الشيعة: ٢/ ١٤٦، ٣٨٦، ٣٩٣، ٣/ ٢١٨، ٤/ ٣٣٣.
(٧) يلاحظ: آراؤنا في أصول الفقه: ٣/ ٢٢٧.
(٨) عناية الأصول في شرح كفاية الأصول: ٦/ ٥٥.
(٩) من لا يحضره الفقيه: ٤/ ٢٠٣.
(١٠) يلاحظ: الحدائق الناضرة: ١/ ١٠٥، ونسبه إليه أيضاً في ٢٥/ ٣٣٩ في الهامش.
(١١) يلاحظ: المحكم في أصول الفقه: ٦/ ١٩٧.
(١٢) وسائل الشيعة: ٢٧/ ١٠٩، ب ٩ أبواب صفات القاضي، ح٧.
(١٣) وكأنّ الشيخ الصدوق في عبارته المتقدّمة ـ كما أمر به الصادق g ـ يشير إلى رواية الحسين بن المختار.
(١٤) الحدائق الناضرة: ١/ ١٠٦.
(١٥) المصدر السابق: ١١/ ٤٥١.
(١٦) فرائد الأصول: ١/ ٦٠٤.
(١٧) الكافي: ٢/ ٢١٨، باب التقيّة، ح٧.
(١٨) يلاحظ: مرآة العقول: ٩/ ١٧١، بحوث في علم الأصول: ٧/ ٣٦٢.
(١٩) يلاحظ: معجم رجال الحديث: ٢٢/ ٢٨٧.
(٢٠) موسوعة السيّد الخوئيّ: ٤٨/ ٤٩٩.
(٢١) هذا الوجه منقول من كتاب قبسات من علم الرجال: ٢/ ٥٤٩ بتصرّف.
(٢٢) يلاحظ: بحار الأنوار: ٧٢/ ٤٢٨.
(٢٣) رجال النجاشيّ: ٢١٧ الرقم: ٥٦٥.
(٢٤) كما في الكافي: ٧/ ٣٢٤، ٣٦٣، تهذيب الأحكام: ١٠/ ١٦٩، ٢٩٥.
(٢٥) يلاحظ: الكافي: ٧/ ٣٢٤، تهذيب الأحكام: ١٠/ ٢٥٨.
(٢٦) قاموس الرجال: ٩/ ٣٧.
(٢٧) يلاحظ: جامع الرواة: ١/ ٤٨٥.
(٢٨) معجم رجال الحديث: ١١/ ٨٣.
(٢٩) انتهى الوجه المنقول عن قبسات في علم الرجال بتصرّف منّي.
(٣٠) رجال النجاشيّ: ٢١٧، الرقم: ٥٦٥.
(٣١) جامع الرواة: ١/ ٥٢٠.
(٣٢) يلاحظ: خلاصة الأقوال: ٢٠٦.
(٣٣) يلاحظ: معجم رجال الحديث: ١١/ ٢١٠.
(٣٤) يلاحظ: معجم رجال الحديث: ٢٢/ ٢٨٧.
(٣٥) هذا القول وجوابه مأخوذ من بحوث في علم الأصول: ٧/ ٣٦٣ بشيء من التصرّف.
(٣٦) جامع أحاديث الشيعة: ١/ ٢٦٧ وفيه: أنّ النقل عن البرقيّ مباشرةً، لا عن الوسائل عن البرقيّ، كما نبّه على ذلك بعض الأعلام في مباحث الأصول: ٥ ق٢/ ٦٩٦.
(٣٧) وسائل الشيعة: ١٦/ ٢٠٦ ـ ٢٠٧.
(٣٨) موسوعة السيّد الخوئيّ (مصباح الأصول): ٤٨/ ٤٩٩.
(٣٩) موسوعة السيّد الخوئيّ (مصباح الأصول): ٤٨/ ٥٠١.
(٤٠) ومنها روايتنا المبحوث عنها.
(٤١) بحوث في علم الأصول: ٧/ ٣٦٥.
(٤٢) نهاية الدراية: ٦/٣١٣، وممّن ذكره أيضاًصاحب الحدائق في الموضع المشار إليه سابقاً من كلامه.
(٤٣) موسوعة السيّد الخوئيّ (مصباح الأصول): ٤٨/ ٥٠١.
(٤٤) الكافي: ١/ ٦٤، باب اختلاف الحديث، ح٢.
(٤٥) يلاحظ: رجال النجاشيّ: ٣٠٠، الرقم: ٨١٧.
(٤٦) يلاحظ: بحوث في شرح مناسك الحجّ: ٥/ ٥٣٨.
(٤٧) يلاحظ: كتاب آراؤنا في أصول الفقه: ٣/ ٢٢٦ ـ ٢٢٧، وممّن عدّ هذه الرواية من أخبار باب الترجيح الشيخ الأنصاريّ S في فرائد الأصول: ٤/ ٦٧.
(٤٨) آراؤنا في أصول الفقه: ٣/ ٢٢٧، وقال بعد دفع الإيرادات عنها: (ولعمري، ما حقّقته متين ودقيق وبالتأمّل حقيق، والظاهر أنّه لم يسبقني في هذه المقالة بهذا التقريب أحد، والله المستعان).
(٤٩) وقد منع منه صاحب الوسائل حيث علّق على هذا الحديث بقوله: (أقول: هذا مخصوص بحديث الرسول e، فيكون حديث الأئمّة i كاشفاً عن الناسخ)، وسائل الشيعة: ٢٧/ ١٠٨.
(٥٠) إذ جلُّ الأخبار المتعارضة التي يبحث عن المرجّح لأحدها ـ إن لم يكن كلّها ـ مظنونةُ الصدور، مضافاً إلى أنّه لو فرض أنّ الثاني مقطوع الصدور كان الأوّل ليس بحجّة، فيصير أمرهما دائراً بين الحجّة واللاحجّة، فيخرجان من باب التعارض؛ لأنّه فرع حجّيّة كلا الخبرين كما لا يخفى، فتأمّل.
(٥١) وهو الإزالة، مثل نسخت الشمس الظلّ، فيشمل موارد الجمع العرفيّ، كالتخصيص والتقييد،كما أطلقعليهما فيبعض الأخبار،فالمقصود بالنسختخصيص العمومالمرويّ عن النبيّ e بالمخصّص المرويّ عن الإمام g أو تقييده به.
فعلى هذا يخرج النسخ الوارد في الموثّق عن محلّ الكلام من لزوم الأخذ بالمتأخّر من الخبرين المتعارضين؛ إذ لا تعارض بين العامّ وخاصّه وغيرهما من موارد الجمع العرفيّ حتّى يتعيّن العمل بالأحدث.
(٥٢) موسوعة السيّد الخوئيّ (مصباح الأصول): ٤٨/ ٥٠٠.
(٥٣) يلاحظ: آراؤنا في أصول الفقه: ٣/ ٢٢٧.
(٥٤) العدّة في أصول الفقه: ٢/ ٥٣٨.
(٥٥) معارج الأصول: ١٧١.
(٥٦) مرآة العقول: ١/ ٢١٦.
(٥٧) مباحث الأصول: ٢ ق ٢/ ٥١٧.
(٥٨) منتهى الدراية في توضيح الكفاية: ٨/ ١٩٠.
(٥٩) منتقى الأصول: ٧/ ٤١٣ ـ ٤١٤.
(٦٠) هذا الوجه مأخوذ من كتاب بحوث في شرح مناسك الحجّ: ٥/ ٥٣٩ بتصرّف.
(٦١) الكافي: ١/ ٦٢ ـ ٦٣، باب اختلاف الحديث، ح١.
(٦٢) الأصول الأصيلة: ٩٠.
(٦٣) الكافي: ١/ ٦٧، باب اختلاف الحديث، ح٩.
(٦٤) يلاحظ: قبسات من علم الرجال: ١/ ٢١٤.
(٦٥) كما هو ظاهر عبارة شيخنا الأستاذ الشيخ هادي آل راضي دام ظله في مجلس الدرس.
(٦٦) الفهرست: ٢٦٦.
(٦٧) يلاحظ: معجم رجال الحديث: ٤/ ٩٧.
(٦٨) يلاحظ: معجم رجال الحديث: ١٩/ ٢٦٨.
(٦٩) يلاحظ: دراسات في علم الأصول: ٤/ ٤٠٠.
(٧٠) يلاحظ: الحدائق الناضرة: ١/ ١٠٦.
(٧١) يلاحظ: نهاية الدراية: ٦/ ٣١٣.
(٧٢) شرح أصول الكافي: ٢/ ٣٣٣.
(٧٣) منتهى الدراية: ٨/ ١٨٩.
(٧٤) بحوث في علم الأصول: ٧/ ٣٦٥ ـ ٣٦٦.
(٧٥) بحوث في علم الأصول: ٧/ ٣٦٥.
(٧٦) باعتبار أنّ الجواب الآتي وإن خصّ الحديث بزمن الحضور، ولكن مع هذا حمله على أنّ المتأخّر بيان الحكم الفعليّ الذي قد يكون حكماً واقعيّاً، وقد يكون من باب التقيّة، فليست الأحدثيّة من المرجّحات، كما يأتي توضيحه.
أمّا هذا الجواب فيقول حتّى إذا سلّمنا أنّ الأحدثيّة من المرجّحات والأحدث جاء لبيان الحكم الواقعيّ، لا لبيان الوظيفة الفعليّة، إلّا أنّه مختصّ بمورده ولا يتعدّاه إلى غيره ممّا هو فاقد للخصوصيّات الواردة في هذه الروايات.
(٧٧) نهاية الدراية: ٦/ ٣١٣.
(٧٨) منتقى الأصول: ٧/ ٤١٥.
(٧٩) يشير إلى ما ورد في رواية أبي عمرو الكنانيّ المتقدّمة.
(٨٠) بحوث في علم الأصول: ٧/ ٣٦٦.