السيرة العقلائية (الحلقة الاولى)

احدث المقالات

PDF
نص المقال

 

 

 

السيرة العقلائيّة

 

الحلقة الأولى

 

 

الشيخ نجم الترابيّ  (دام عزّه)

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

غير خافية أهميّة هذا البحث في الفقه والأُصول على أهل هذين العلمين، ففي الأُصول ـ مثلاً ـ تدخل السيرة العقلائية في الاستدلال على أهمّ الأمارات كالاطمئنان، والظهور، وخبر الواحد، وأيضاً يستدل بها على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وعلى منجّزية العلم الإجمالي عند من يراهما عقلائيين لا عقليين، وكذلك تدخل في بحث الاستصحاب، إلى غير ذلك من الموارد.

وأمّا في الفقه فتدخل السيرة في عامّة المباحث ذات الجذور العقلائية، كمبحث الطهارة ومباحث المعاملات، فما أكثر الفروع والقواعد الفقهية التي تدخل السيرة في الاستدلال عليها، كقاعدة الإحسان، وقاعدة الإقرار، والحق لمن سبق، وقاعدة السلطنة التي تسلّط المالك على ماله بنحو كامل، وقاعدة اليد ـ أعني سماع قول اليد فيما تحتها ـ، وقاعدة على اليد ما أخذت حتى تؤدّي، إلى غير ذلك من القواعد.

وتتأكّد هذه الأهمّية ـ بعد عظم الاعتماد عليها ـ نتيجة لوضوح عدم اعتبار جملة من الأدلّة التي كانت هي المدرك لعديد من المسائل الفقهية والأُصولية (١).

ونوقع الكلام في هذا البحث على النحو التالي: 

مقدّمة: في تحديد مصطلح (السيرة العقلائية).

الفصل الأوّل: في تقسيمات السيرة.

الفصل الثاني: في طريقة الاستدلال بالسيرة على إثبات الحكم الشرعي إثباتاً ونفياً، ويتضمّن ستة شروط:

الأوّل: ثبوت موقف من الشارع المقدَّس تجاه السيرة.

الثاني: الاطّلاع على هذا الموقف.

الثالث: معاصرة السيرة لوجود الشارع، ويتضمّن طرق إثبات المعاصرة.

الرابع: امتداد السيرة إلى دائرة الأحكام الشرعية.

الخامس: إمكان الردع عنها عقلاً وعرفاً.

السادس: احتمال الارتداع عند الردع.

الفصل الثالث: في مدلول السيرة، وفيه جانبان: 

الأوّل: في المقدار الممضى منها. 

الثاني: مدلولها من حيث التكليف والوضع.

الفصل الرابع: في حجّية السيرة.

الفصل الخامس: في الموقف والحدود فيما إذا وردت أدلّة لفظية متوافقة مع السيرة.

الفصل السادس: في المقارنة بين السيرة العقلائية وسيرة المتشرّعة البحتة.

خاتمة: في السيرة المتعرّضة لموضوع الحكم أو متعلّقه ونحوهما. 

مقدّمة

تحديد مصطلح (السيرة العقلائيّة)

إنّ لفظ السيرة مجرّداً عن أيّ إضافة يطلق على سيرة المسلمين، وأمّا الذي يطلق على سيرة العقلاء فهو التعبير بطريقة العقلاء أو بنائهم أو بناء العرف العامّ(٢)، وفي هذه الأزمنة تُميّز السيرة بما تضاف إليه، فتارة تضاف إلى المتشرعة وأخرى إلى العقلاء.

وعُبِّر عن السيرة عموماً بتعابير متعدّدة، فذُكر أنّها سلوك وعمل اجتماعيّ عامّ في مقابل السلوك الفردي الخاصّ(٣)، وذُكر أنّها استمرار عادة الناس وتبانيهم العمليّ على فعل شيء أو تركه(٤)، ونحو ذلك من التعابير(٥).

وأمّا المراد من العقلاء في مصطلح (سيرة العقلاء) فيُذكر ـ عادة ـ له قيدان:

القيد الأوّل: أن يكون السلوك من جميع العقلاء.

ويراد بهذا القيد أنّ السلوك العقلائيّ غير متوقّف على نحلة أو ملّة أو ثقافة أو زمان أو مكان خاصّ، بل الكلّ على اختلافهم بهذه النواحي يصدر منهم هذا السلوك. 

وينبغي أن يعمّم لما إذا كان صدوره بالقوّة بأن كانت قريحة العقلاء ممّا تقتضيه ولكن موضوعه غير متحقّق في الخارج.

وقد يقال: إنّه لا يراد من جميع العقلاء معناه المطابقيّ؛ لامتناع أو صعوبة إحرازه أوّلاً، ولعدم دخالته في حجّية السيرة ثانياً؛ إذ يكفي في اتّخاذ المعصوم g موقفاً تجاهها ـ والتي هي بمرأى ومسمع منه ـ أن يشكّل هذا السلوك ظاهرةً عامّةً في المجتمع، وهي تحصل من سلوك الأكثر، بل يكفي عدداً معتدّاً به لتحصل مثل هكذا ظاهرة سلوكية عامّة(٦) قد تشكّل خطراً على الأغراض المولوية فيردع عنها. 

فإنّه يقال: إنّ ما ذُكر صحيح، ولكن قد يراد من هذا القيد الانتفاع به في إثبات أنّ السيرة المتحقّقة في زماننا معاصرةٌ لزمان المعصوم على ما سيأتي في طرق إثبات المعاصرة، وعلى هذا يكون هذا القيد دخيلاً في الحجّية بنحوٍ أو بآخر.

يضاف إلى ذلك أنّه يمكن إحراز القيد المذكور بتوسيط بعض المقدّمات العقلية، كقضية أنّ الاتّفاقيّ لا يكون أكثرياً ولا دائمياً، فإذا أحرزنا جريان كثير من الناس المختلفة ظروفهم على سلوك محدّد نستطيع أن نقول إنّه معلول لنكتة عقلائية واحدة موجودة عند عامّة العقلاء، فيُفترض جريان العقلاء وفق تلك النكتة فعلاً أو قوّة. أو من خلال نظرية حساب الاحتمالات المفيدة عادةً بل دائماً ـ على الصحيح ـ للاطمئنان، إلَّا إذا أدخلنا الفكرة التي أفادها السيّد الشهيد S من أنّ العقل يلفظ القيم الصغيرة ويقفز من الاطمئنان إلى اليقين.

القيد الثاني: أن يكون السلوك للعقلاء بما هم عقلاء(٧).

ويحتمل استفادته من القيد الأوّل وإرادته منه، والمهمّ أنّ هذا القيد يراد به خصوص السلوك الناشئ من قرائح العقلاء الارتكازية، كما سيأتي في الفصل الأوّل.

فتحصّل أنّ (سيرة العقلاء) بحسب المصطلح الأُصولي يراد بها: سلوك عامّ يصدر من جميع العقلاء بما هم عقلاء. هذا تحديدٌ للسيرة العقلائية العملية. 

وقد تطلق السيرة العقلائية وتقيّد بالارتكازية (٨)  في مقابل العملية، وسيأتي ذكرها في تقسيمات السيرة العقلائية.

وأمّا سيرة المتشرعة فيراد بها: سلوك عامّ يصدر من فئة من الناس لا من جميعهم، بل بما هم متشرّعة ومنتمون إلى دين أو مذهب، لا بما هم عقلاء.

وبعض الأعلام المتأخّرين(٩) ذكروا اصطلاحات أُخرى للسيرة:

١ــ سيرة المتشرّعة بالمعنى الأخصّ، وأراد بها ما كان تشرّعهم حيثية تعليلية للسلوك الخارجي حدوثاً وبقاءً، وذلك بأن يكون مورد السيرة مسألة شرعية بحتة. 

٢ــ سيرة المتشرّعة بالمعنى الأعمّ، وهي ما مارسها المتشرّعة بالفعل في دائرة الأحكام الشرعية وكانت ممّا تقتضيها القريحة العقلائية، فكان هناك تشرّع وقريحة عقلائية، سواء كانت هذه الممارسة لمكان تشرّعهم بأن سألوا الشارع واستأذنوا منه فأَذِن، أو بمقتضى عقلائيتهم ولكنّ الشارع لم يردع عن هذا السلوك، ففي كلا النحوين تكون السيرة ابتداءً وحدوثاً عقلائية، وبقاءً متشرّعية.

٣ــ السيرة العقلائية بالمعنى الأخصّ، وهي ما لم تمتد ويجر ِ عليها المتشرّعة في دائرة الأحكام الشرعية بالفعل، وإنّما في معرض الامتداد بمقتضى الطبع والعادة ـ كما سيأتي توضيحه ـ، وعند إطلاق هؤلاء الأعلام للسيرة العقلائية يريدون به هذا المعنى.

وهذه ليست مجرّد اصطلاحات، وإنّما يترتّب عليها اختلاف في ملاك الحجّية والشرائط المعتبرة فيها كما سيتّضح في طيّ الأبحاث القادمة.

الفصل الأوّل

في تقسيمات السيرة العقلائيّة

التقسيم الأوّل

انقسام السيرة باعتبار مقتضي السلوك الخارجي إلى مقتضٍ أصيل ـ ويعبَّر عنه بالطبيعي أيضاً ـ، وإلى مقتضٍ مكتسب وطارئ على النفس الإنسانية(١٠).

أمّا الأصيل فنعني به القضايا المودعة في فطرة الإنسان والمرتكزة في ذهنه، والمعبَّر عنها بقريحة العقلاء.

وأمّا المكتسب فهو ما عدا ذلك، فقد تترسّخ في النفس بعض القضايا جرّاء الشرائع التي يؤمن بها الشخص، أو العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية، أو الرؤى والأفكار، أو فتاوى الفقهاء، أو التربية أو الدعاية، أو غيرها.

وهذا التقسيم مبتنٍ على ما هو المعروف من أنّ الله تعالى أودع في باطن الإنسان وفطرته تلك القضايا، وإلّا فلو قلنا إنّها تحصل بمرور الزمن ومن خلال التجارب والسلوك فإنّه لا يصحّ التقسيم المذكور؛ إذ كلا القسمين سيكون من قبيل المقتضي المكتسب. نعم، صيرروتها سلوكاً خارجياً منوطٌ بتحقّق موضوعها خارجاً، وفرق بين كينونتها في باطن الإنسان وصيرورتها سلوكاً خارجياً، فالثاني إنّما يحصل بمرور الزمن دون الأوّل.

ويفترق القسمان في أمورٍ:

الأوّل: أنّ ميزان المقتضي والارتكاز الأصيل هو أن يكون موجوداً عند عامّة العقلاء بخلاف المقتضي المكتسب، فإنّه يختلف باختلاف الظروف؛ لأنّه معلول لها. 

والقسم الأوّل هو موضوع الأبحاث القادمة وإن أمكن اكتشاف الحكم الشرعي من القسم الثاني إذا استجمع شرائطه. ومن هنا سيأتي في أحد طرق إثبات المعاصرة أنّها مبتنية على وحدة النكتة بين عامّة العقلاء مهما اختلفت الأزمنة والمجتمعات، وهذا إنّما يتأتّى في القسم الأوّل دون الثاني، وعلى أساس أنّ المقتضيات العقلائية لا تتكوّن بالتدريج.

الثاني: يختلف القسمان في طريقة الكشف عن الحكم الشرعي على بعض المباني، حيث اعتُبر في القسم الأوّل كون الإمضاء وعدمه بمثابة المانع عن مقتضي الحجّية الحاصل ـ أي المقتضي ـ بلا حاجة إلى جعل وإمضاء شرعي بخلافه في القسم الثاني، حيث اعتُبر الإمضاء للحجّية على هذا المبنى(١١).

الثالث: ما نستظهره من كلمات المحقّق النائيني S من أنّ القسم الأوّل تكون ارتكازيته من أصل وجودها في فطرة الإنسان، وأمّا القسم الثاني فتحصل ارتكازيته بمرور الزمن من كثرة الممارسة(١٢).

الرابع: ما أفاده السيّد الشهيد S من أنّ القسم الأوّل لو شذّ أحد الأفراد عن الطريقة المعتمدة فيه كان مورداً للملامة أو الاستغراب والسؤال ونحو ذلك من قبل العقلاء بحسب اختلاف الموارد. وأمّا في القسم الثاني فلا يُلام المخالف لطريقته أو يُسأل عن أنّه كيف لم يدرك النكتة العامّة(١٣).

الخامس: قد يختلف القسمان في المقدار الممضى، ففي القسم الأوّل يتأتّى التساؤل من أنّه هل هو بحدود النكتة المرتكزة أو بحدود الجري الخارجي، وقد لا يتأتّى ذلك في القسم الثاني ولو في بعض المناشئ.

وبهذه الفوارق يصحّ هذا التقسيم، ويكون ذا قيمة، وهكذا التقسيمات القادمة.

التقسيم الثاني

انقسام السيرة باعتبار دائرة السلوك الخارجي، فإنّه (تارة) قد يمتدّ بالفعل إلى دائرة الأحكام الشرعية، بأن جرى المتشرّعة على وفقه فيها، و(أُخرى) قد لا يمتدّ بالفعل. 

وقد تقدّم أنّ هذين القسمين يختلفان في ملاك الحجّية على رأي المحقّق العراقي والسيّد الشهيد T(١٤)، فالسيرة الممتدّة تكشف عن موقف الشارع كشف المعلول عن علّته كسيرة المتشرّعة البحتة، فلا يعقل فيها احتمال الردع حتّى نحتاج إلى إحراز عدمه، بخلافه في السيرة غير الممتدّة بالفعل إلى دائرة الأحكام الشرعية.

التقسيم الثالث

انقسامها باعتبار مجرى السيرة، فإنّه (تارة) يكون مجراها الحكم الشرعي إثباتاً ونفياً، (وأُخرى) يكون موضوع الحكم الشرعي أو متعلّقه، أو نحو ذلك.

ويختلف هذان القسمان في أنّ الأوّل يحتاج إلى الإمضاء الشرعي دون الثاني، كما سيأتي.

التقسيم الرابع

 انقسام السيرة العقلائية باعتبار مساواة السلوك الخارجي للارتكاز وعدمه، فتنقسم إلى ما يكون السلوك الخارجي مساوياً لنكتتها الارتكازية، وإلى ما يكون السلوك جرياً على إحدى حصص الارتكاز.

 والبحث المعروف بأنّ المقدار الممضى هل هو بحدود النكتة الارتكازية وأوسع من الجري الخارجي أو لا إنّما يتأتّى في القسم الثاني.

التقسيم الخامس

انقسام السيرة باعتبار الحكم المثبت بها، (فتارة) يراد بها إثبات حكم واقعي، (وأُخرى) يراد بها إثبات حكم ظاهري(١٥).

والسيرة في القسم الأوّل ينبغي أن تكون جارية بلحاظ مرحلة الواقع، بمعنى أنّ الموقف الذي يتّخذه العقلاء في هذه السيرة يمثّل موقفاً تجاه الشيء بواقعه في نظر العقلاء، لا أنّه بسبب الشكّ في أمر واقعي وفي مرحلة متأخّرة عن هذا الشكّ، كالسيرة على إناطة جواز التصرّف في مال الغير بطيب نفسه ولو لم يأذن لفظياً، والسيرة على تملّك المباحات الأوّلية بالحيازة.

وأمّا السيرة في القسم الثاني فإنّ مجراها مرحلة الظاهر وعند الشكّ في أمر واقعي، كالسيرة على الأخذ بخبر الثقة في موردٍ ما، والاكتفاء بالظنّ الحاصل من قوله عند عدم العلم بحال ذاك المورد بواقعه، والسيرة على الأخذ بظاهر الكلام عند عدم العلم بمراد المتكلّم والاكتفاء بهكذا ظنّ.

ويختلف هذان القسمان في كيفية الاستدلال بالسيرة العقلائية على الحكم الشرعي.

توضيح ذلك: أنّ هناك حيثيةً في سيرة المتشرّعة وهي كونهم منتمين إلى دين ومذهب، كما أنّ فيهم حيثية أنّهم عقلاء، وما تستدعيه عقلائيتهم بلحاظ مرحلة الواقع يكون ـ دائماً ـ ممتدّاً إلى دائرة الأحكام الشرعية؛ لأنّه ما من أمرٍ واقعي إلّا وله في لوح الواقع ونفس الأمر التشريعي حكمٌ واقعي تكليفي أو وضعي، ومن ثمَّ أيّ تصرّف وسلوك بلحاظ هذه المرحلة هو ممتدّ إلى دائرة الأحكام الشرعية بالفعل، فإذا لم يكن ذاك التصرّف مطابقاً لموقف الشارع فإنّه يجب أن يردع عنه، فإذا لم يردع فهذا يعني المطابقة والإمضاء، وبذلك نستكشف الحكم الشرعي، هذا كلّه بلحاظ مرحلة الواقع.

وأمّا بلحاظ مرحلة الظاهر فهناك صور ثلاثة لهذه السيرة التي يراد الاستدلال بها على الحكم الشرعي الظاهري ـ كحجّية خبر الثقة والظهور شرعاً ــ:

الصورة الأولى: أن يُستدلّ على حجّية خبر الثقة والظهور شرعاً ـ مثلاً ـ بسيرة العقلاء على الأخذ بخبر الثقة وبالظهور في دائرة الأحكام الشرعية بالفعل لأيّ سبب كان، فهنا يأتي الكلام المتقدّم في القسم الأوّل من أنّه إذا لم يكن الوصول إلى مراده من خلال ظهور كلامه، وأخذ أحكامه من أخبار الثقة مرضياً عنده فعليه أن يردع، فإذا لم يردع فهذا يعني أنّه راضٍ، ومن ثَمّ تثبت حجّية خبر الثقة والظهور شرعاً.

الصورة الثانية: أن يُستدلّ على الحجّية بسيرة العقلاء على الأخذ بخبر الثقة والظهور في مجال تحصيل أغراضهم الشخصية التكوينية وفي دائرة أمورهم الحياتية.

وفي هذه الصورة يشكل الاستدلال بهكذا سيرة لإثبات الحجّية؛ من جهة أن الحجّية الأُصولية يراد بها المنجّزية والمعذّرية، أو ما يفضي إليهما، وهما إنّما يعقلان بالنسبة إلى الأغراض التشريعية التي فيها آمر ومأمور، لا بالنسبة إلى الأغراض التكوينية، فلا يمكن الاستدلال بهكذا سيرة على الحجّية الأصولية الشرعية.

الصورة الثالثة: أن يُستدلّ على الحجّية الأصولية بسيرة العقلاء على العمل بالظهور وخبر الثقة في مجال المولويات العرفية وأغراضهم التشريعية؛ حيث إنّ بناء العقلاء على إلزام كلّ من الآمر والمأمور بالظهور وبما يخبر به الثقة، ويرونه حجّة.

وحقيقة هذه الصورة هي أنّه لمّا كانت الحجّية ـ المنجّزية والمعذّرية ـ من شؤون المولى والآمر لا من شؤون المأمور، فهي ترجع إلى أنّ سيرة الآمرين انعقدت على أنّ كلّ آمر جعل خبر الثقة والظهور حجّة فيما بينه وبين المأمور.

ويشكل على هذه الصورة بأنّها لا تفوّت على الشارع المقدّس أغراضه حتّى إذا لم يكن قد جعل الظهور وخبر الثقة حجّة بالنسبة إلى أحكامه؛ وذلك لأنّ هذه السيرة يمارسها كلّ مولىً ـ وليس منهم الشارع ـ في نطاق أغراضه التشريعية مع مأموريه، ولا يعتني بالأغراض التشريعية للآخرين، ويفترض بالآمرين والمأمورين العقلاء أن لا يجروها في دائرة الأحكام الشرعية؛ إذ لم يثبت عندهم بحسب الفرض أنّ الشارع جعل أمارية الظهور وإخبار الثقة بالنسبة إلى أحكامه.

وأجاب السيّد الشهيد S بأنّه يمكن تصحيح الاستدلال بالصورتين الأخيرتين على أساس أنّهما في معرض تشكيل خطر على أغراض الشارع. 

وتوضيح ذلك: أنّ السيرة وإن كانت في أصلها بحدود الأغراض الشخصية التكوينية وبحدود المولويات العرفية، ولكن لمّا كانت سلوكاً يومياً اعتيادياً فسوف تشكّل عادة وجبلّة وفطرة ثانوية للإنسان بحيث يكون بابه باب العادة لا باب التعقّل والتبصّر، ومع تحوّل السلوك العقلائي من سلوك تبصّر مدروس إلى سلوك عفوي جبلّي فإنّه لا يضمن بحسب الخارج أن لا يكون السير عليه أوسع من مأخذه الأوّلي، وهو دائرة الأغراض الشخصية والمولويات العرفية، وبعد هذا التوسّع المحتمل قد يجري المتشرّعة على وفق هذه العادة في الشرعيات معرِّضين أغراض المولى للخطر، وعندئذ ينبغي الردع عن مثل هكذا سيرة وإن لم تكن ممتدّة بالفعل إلى دائرة الأحكام الشرعية في الصورتين الأخيرتين أيضاً.

ويلاحظ على ما ذُكر:

أوّلاً: أنّ العديد من الأعلام يبني على أنّ الشارع أحد العقلاء بل سيّدهم(١٦)، ومنهم من صرّح أنّ الأصل اتّفاق عقلائية الشارع مع عقلائية العقلاء، وينبغي أنّ يبني الآخرون على ذلك، وإلّا لا يكون معنى لمقولة أنّ الشارع أحد العقلاء وسيّدهم، وعلى هذا يمكن الاستدلال بالسيرة في الصورة الثالثة بلا حاجة إلى ما أفاده السيّد الشهيد S، وسيأتي منه S مناقشة هكذا كلام، وجوابنا عليه.

ثانياً: ذكر غير واحد ومنهم السيد الأستاذ(دامت افاداته) (١٧) من أنّه لا بدّ من الامتداد إلى دائرة الأحكام الشرعية ولا تكفي المعرضية للامتداد، بل لا بدّ أن يكون الامتداد بدرجة كبيرة حتى تثبت الملازمة في قضية (لو كان ردع لظهر ووصل إلينا وبَان).

 

الفصل الثاني

في كيفيّة الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على الحكم الشرعيّ إثباتاً ونفياً

السيرة العقلائيّة في حدّ نفسها لا تُثبت لنا حكماً شرعيّاً؛ لأنّها بناء للعقلاء لا غير، وما حَكم العقل بلزوم امتثاله هو حكم الشارع وليس حكم العقلاء، ولكن السيرة تكشف لنا عنه في ظلّ شروط محدّدة متى ما توفّرت هذه الشروط دلّت السيرة على الحكم الشرعيّ، وهذه الشروط هي:

الأوّل: أن يثبت للشارع موقف تجاه السيرة.

الثاني: أن نطّلع على ذلك الموقف؛ إذ لا ينكشف لنا الحكم بمجرّد صدور الموقف واقعاً، وإنّما بعد اطّلاعنا عليه.

الثالث: معاصرة السيرة لوجود الشارع؛ لمكان أنّ صدور الموقف منه تجاه السيرة يستدعي ذلك.

الرابع: امتداد السيرة إلى دائرة الأحكام الشرعيّة، وقيل: يكفي كونها في معرض الامتداد كما تقدّم.

الخامس: إمكان الردع عقلاً وعرفاً(١٨).

السادس: احتمال الارتداع عند الردع، وقد ذكره المحقّق النائينيّ S في سيرة المتشرّعة(١٩)، وهو يومئ بأنّ مناط الردع عند عدم قبول السيرة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكنّه شرط عامّ؛ فإنّ الحكيم بالحكمة العقلائيّة العامّة لا يطلب شيئاًمن أناسيعلم بعدمإجابتهم لهإلّا إذاكان لهغرض آخرغير إطاعتهوراء طلبه.

وتفصيل هذه الشروط كما يلي:

الشرط الأوّل: ثبوت موقف للشارع.

إنّ موقف الشارع (تارة) يكون على سبيل التصريح بالإمضاء أو الردع.

(وأُخرى) يكون على سبيل السكوت وعدم الردع. 

والأغلب هو الثاني، وبحث السيرة إنّما هو معقود لأجله.

 ولا كلام في دلالة التصريح على الردع أو الإمضاء، وإنّما الكلام في كفاية دلالة السكوت وعدم الردع بمجرّده على الإمضاء وعدم كفايته.

والسائد أنّ السكوت وعدم الردع دالّ على الإمضاء، ويعبّر عن ذلك بقضيّة شرطيّة مفادها (لو لم يرضَ لردع)، وإزاء هذه القضية اتّجاهات ثلاثة:

الاتّجاه الأوّل(٢٠):  التفصيل بين السيرة العقلائيّة الممتدّة إلى دائرة الأحكام الشرعيّة وإلى غير الممتدّة، حيث ذُكرت ثلاث صور:

 الصورة الأولى: السيرة العقلائيّة غير الممتدّة إلى الأحكام الشرعيّة إلّا أنّها في معرض الامتداد.

الصورة الثانية: السيرة العقلائيّة الممتدّة إلى دائرة الأحكام الشرعيّة، بحيث يكون جري المتشرّعة إنّما هو لأجل النكتة العقلائيّة ولو من جهة استحكامها وشدّة سيطرتها على العقلاء، بحيث ـ لا شعورياً ـ أجروها في دائرة الأحكام الشرعيّة.

الصورة الثالثة: السيرة العقلائيّة الممتدّة إلى دائرة الأحكام الشرعيّة ولكن لا من جهة النكتة العقلائيّة، وإنّما لأجل كونهم متشرّعة استأذنوا من المشرّع في العمل بهكذا سيرة في دائرة أحكامه.

وذكر أصحاب هذا الاتّجاه أنّه في الصورة الأخيرة لا نحتاج ـ أصلاً ـ إلى قضيّة (لو لم يرضَ لردع)؛ لأنّ الموقف صريح في إجراء ما تقتضيه النكتة العقلائيّة في دائرة الأحكام الشرعيّة.

وأمّا في الصورتين الأوليتين فلا بدّ لهما من هذه القضيّة، وإثبات أنّ عدم الردع دالّ على الإمضاء.

وقد ذكر السيّد الشهيد S الصورتين الأخيرتين في دورته الأولى ـ وأوضحهما المقرّر في الهامش ـ ، ولكن في دورته الأخيرة لم يفصّل واقتصر على الصورة الثالثة، وكأنّهمامحتملتان ثبوتاً،ولكن إثباتاً ـــ مع أنّالقدر المتيقّنهي الثانية ـ حصلعنده S وثوق بأنّ السائد هي الصورة الثالثة، فأفاد في مقام إثباتها قائلاً: (إنّ النزعة العقلائية وإن كانت تقتضي الجري على طبقها إلّا أنّ المتشرّعة حيث إنّهم متشرّعون فاحتمال أنّهمجميعاً قدغفلوا عنحكم المسألة شرعاً وانساقواوراء طباعهم العقلائية من دون سؤال واستفسار أو تفهّم للموقف الشرعيّ ولو روحاً في مسألة داخلة في محلّ ابتلائهم كثيراً، منفيّ بحساب الاحتمالات) (٢١).

الاتّجاه الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ S من التفصيل بين المعاملات وغيرها، فذكر أنّه في غير المعاملات يكفي عدم الردع لثبوت الإمضاء، وأمّا في المعاملات فلم يستبعد الحاجة إلى الإمضاء؛ لأنّها من الأمور الاعتبارية التي تتوقّف صحّتها على اعتبارها، ولو كان المعتبر غير الشارع فلا بدّ من إمضاء ذلك ولو بالعموم أو الإطلاق(٢٢).

الاتّجاه الثالث: وهو الصحيح، ونوضحه في نقاط ثلاثة:

النقطة الأولى: لا وثوق عندنا في أنّ السيرة بمجرّد كونها في معرض الامتداد يُبدي الشارع موقفاً تجاهها، ولم يُعهد مثل ذلك من العقلاء إلّا في موارد استثنائية لا يصحّ الاعتماد عليها كمنهج عامّ، فالقدر المتيقّن هو أنّ الشارع يتّخذ موقفاً فيما لو امتدّت السيرة إلى أحكامه وعرّضتها إلى الخطر.

ولمّا لم تكن أحكام الشارع جميعها بالغة الأهمّية ـ بنحو يجب حفظها على كلّ حال ـ بل تتفاوت أهمّيةً، فقد تستدعي الحفظ في حال وعدم الحفظ في حال أُخرى، ولا يعلم أنّ مورد السيرة من أيّ الحالين، فإنّه لا بدّ من الامتداد بصورة واسعة، ففي مثل هذه الحال نطمأن بأنّ الشارع يبدي موقفاً تجاه السيرة.

النقطة الثانية: أنّ القدر المتيقّن من الصورتين الأخيرتين هي الثانية لا الثالثة؛ لأنّه من المحتمل جدّاً كون رسوخ واستحكام السيرة يفضي إلى غفلة المتشرّعة عن احتمال وجود فرق بين الشارع والعقلاء، ولأجل ذلك قد لا يسألون الشارع عن رأيه، ولذا لم يصل إلينا أنّهم سألوا الشارع عن جواز استفادة مراده من ظاهر كلماته، ولم يسألوا عن العمل بالاطمئنان وخبر الثقة بعناوينها، وهذا الاحتمال معتدّ به ومؤثّر في حساب الاحتمالات المذكور، ومن ثمّ قد لا يحصل الاطمئنان بأنّ سلوك المتشرّعة في القضايا العقلائية على أساس التلقّي من الشارع.

النقطة الثالثة: عدم صحّة التفصيل الذي ذكره المحقّق النائيني S من أنّ عدم الردع مطلقاً يكشف عن الإمضاء بلا حاجة إلى التصريح به، وذلك من خلال شرطية مفادها (لو لم يرضَ لردع) ـ كما ذكرنا ـ ، ولإثبات الملازمة في هذه الشرطية نقول: إنّ في السكوت تجاه السيرة محتملات ثلاثة:

الأوّل: أن يقال: إنّ سكوت الشارع يعبّر عن عدم اعتنائه بالسيرة التي أمامه، فلا يدلّ السكوت لا على الإمضاء ولا على الردع.

الثاني: أنّه ما دام الشارع قد سكت ولم يردع فقد أمضى السيرة.

الثالث: أن يقال: إنّ سكوت الشارع وعدم تصريحه بقبول السيرة التي أمامه دالّ على الردع وعدم ارتضائه بها.

والصحيح منها أوسطها.

أمّا المحتمل الثالث فهو واضح البطلان؛ لأنّ الغرض من الإمضاء متحقّق في حال السكوت، وهو تحرّك الناس عملاً على وفقه كما هو المفروض بلا حاجة إلى الإمضاء والتصريح بالقبول، وورود مثل هكذا تصريح إنّما يحمل على التأكيد لا غير. 

هذا مضافاً إلى أنّه لا مناسبة بين السكوت وعدم الرضا، بل على العكس حتّى قيل إنّ السكوت علامة الرضا ولو في بعض الموارد.

وأمّا ما يعيّن الاحتمال الثاني ويبطل الاحتمال الأوّل فعدّة وجوه، مفادها أنّه لا يتسنّى للمشرّع الإسلامي، بل كلّ مشرّع حكيم بالحكمة العقلائية العامّة ولو بالنسبة لبعض الوجوه، أن لا يُبدي موقفاً تجاه السلوك الاجتماعي الذي بمرأى ومسمع منه إذا لم يكن مرضيّاً عنده، فلا يصحّ منه ما يكون بمثابة الإهمال تجاه السيرة، والوجوه هي: 

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق النائينيّ S من أنّ الملزِم لاتّخاذ المشرّع الإسلامي موقفاً تجاه السيرة هو إظهار الحقّ وإزاحة الباطل، فإذا لم يكن عمل العقلاء مشروعاً وجب على المشرّع الإسلامي الردع عنه لأنّه سيكون باطلاً ويجب إزاحته(٢٣).

وهذا الكلام مجمل المعالم، وقد يرجع إلى أحد الوجوه الآتية.

الوجه الثاني: ما ذكره السيّد الشهيد S من أنّ ما يدعو المشرّع الإسلامي لاتّخاذ موقف تجاه السيرة هو أنّه آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، فإذا كان عمل العقلاء منكراً بنظر الشارع لردع عنه، فإذا لم يردع كشف ذلك عن عدم كونه منكراً بنظره المقدّس(٢٤).

وهذا الوجه إنّما ينفع في السيَر العقلائية التي يُحرز توفّرها على شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا مطلقاً، ومن هذه الشرائط أن يكون الفعل منكراً في نظر الفاعل، مع أنّه كثيراً ما يكون جاهلاً قاصراً؛ باعتبار غفلته وغلبة طبعه العقلائي، فلا يكون آثماً ليجب ردعه.

وينبغي أن يراد بالمعروف ما ليس بمنكر فيشمل الجواز بالمعنى الأعمّ، ومن ثَمَّ على هذا الوجه تكون دلالة السيرة الممضاة على مجرّد الجواز، كما أنّ المقدار الممضى يكون بحدود العمل الخارجي لا النكتة الارتكازية؛ لأنّ المعروف والمنكر أوصاف للعمل الخارجي.

الوجه الثالث: ما يظهر من كلمات المحقّق الخراساني وصريح المحقّق الأصفهانيّT  والسيّد الحكيم T من أنّ الشارع أحد العقلاء بل رئيس العقلاء، فيكون الأصل هو البناء على ما يبني عليه العقلاء ما لم يردعهم، فلو لم نحرز الردع لا يصحّ الخروج عن هذا الأصل(٢٥).

فالسيّد الحكيم T يرى أنّ السيَر العقلائية الناشئة من قريحة العقلاء واجدة لمقتضى الحجّية فيكون حالها حال العلم بلا حاجة فيهما إلى جعل الحجّية، والفارق بين العلم والسيَر العقلائية الارتكازية أنّ الثانية يمكن الردع عنها بخلاف العلم؛ فإنّه علّة تامّة للحجّية، ولا يقبل الردع، ويترتّب عليه:

١ ـ إنّه يكفي عدم إحراز الردع لمتابعة السيَر العقلائيّة، ولا نحتاج إلى إحراز عدم الردع، فإنّ الاحتياج إلى إحراز عدم الردع مبتنٍ على أنّ الإمضاء تمام المقتضي للحجّية والمحرّكية، وأمّا في هذا الوجه فإنّ الردع بمثابة المانع، فإذا لم نحرز الردع حكم العقل بلزوم متابعة المقتضي.

٢ ـ إنّ متابعة السيَر العقلائية لا يتوقّف على عدم صدور الردع واقعاً بحيث نحتاج إلى إحراز عدم صدوره واقعاً من المشرّع، بل حتّى لو احتملنا أنّ عدم صدور الردع لعدم قدرة المشرّع على الردع يكفي في عدم ثبوت الردع عندنا، وهذا ممّا يحكم به العقل في مثل هذه الموارد.

هذا تصوير الوجه بحسب ما أفاده السيّد الحكيم T، وأمّا دليله عليه فيقال:

إنّ العقل يدرك حسن الاحتجاج بالقضايا الارتكازية الفطرية بين الآمر والمأمور إلّا إذا ردع الآمر عن متابعتها، فلا يرى العقل أنّ الاحتجاج بهكذا قضايا متوقّفٌ على قبولها وإمضائها في الرتبة السابقة، بل احتجاجاتهم كاشفة عن المفروغية عن حجّية هذه القضايا، وهذا ليس إلّا لأنّ الأصل كذلك، وهذا حكم عقلي قطعي لا أنّه عقلائي ظنّي كي يكون متوقّفاً على الإمضاء.

وأمّا المحقّق الأصفهانيّS فذكر أنّ للشارع حيثيّتين:

الأولى: حيثية أنّه عاقل، بل رئيس العقلاء ومدرك للقضايا العقلية والعقلائية.

الثانية: حيثية أنّه مشرّع وجاعل للأحكام المولوية.

ومن الحيثية الأولى يكون متّحد المسلك مع العقلاء، ويكون هذا بمثابة المقتضي والأصل الذي ينبغي أن يكون هو المتّبع ما لم يصل إلينا خلافه.

وعلى هذا نقول: إنّ هناك أصلين فيما نحن فيه:

الأوّل: أنّ الشارع بما هو عاقل يتطابق موقفه مع السيَر العقلائية الارتكازية.

والثاني: تطابق الشارع بما هو عاقل، وبما هو شارع. 

فتكون هناك ملازمة بين حجّية شيء عند العقلاء وحجّيته عند الشارع بما هو عاقل وبما هو شارع للأصلين. 

نعم، هذه الملازمة تعليقية لا تنجيزية فتنخرم بوصول الردع إلينا.

وهذا الوجه وافر البركات في أُمور عدّة:

١ ـ يثبت مقتضي حجّية الطرق العقلائية الارتكازية من دون الحاجة إلى الجعل والتعبّد، ويكون هو المتّبع إلى أن يصلنا الردع.

٢ ـ عدم الاحتياج إلى إحراز عدم الردع، بل يكفي عدم وصول الردع إلينا.

٣ ـ يكون المقدار الممضى بمقدار النكتة الارتكازيّة.

٤ ـ ينفع في مدلول السيرة العقلائيّة كما سيأتي.

٥ ـ ينفع في السيَر العقلائيّة بنحو الموجبة الكلّيّة.

٦ ـ يثبت الملازمة بين حكم العقلاء وحكم الشارع، وبينه وبين حكم العقل. نعم، تكون الملازمة تعليقية في كلٍّ منهما.

وقد أورد السيّد الشهيدS على هذا الوجه بأمرين(٢٦):

الأمر الأوّل: لا يمكن إحراز أنّ الشارع من حيث هو عاقل موافقٌ للعقلاء بمجرّد كونه أحد العقلاء؛ لقيام احتمال المخالفة معهم وذلك لسببين:

السبب الأوّل: احتمال أنّ السيرة التي يجري عليها العقلاء غير عقلائيّة بحتة؛ لمكانتأثّرهم بالعواملغير العقلائيّةمن العواطفوالمشاعر الموجودةلديهم والمؤثّرة في قراراتهم كثيراً.

ويلاحظ عليه:

أوّلاً: أنّ هذا السبب لا يبطل الوجه المذكور، وإنّما يفتح الباب لمناقشات صغروية من أنّ هذا السلوك والسيرة الخارجية هل هي نابعة من قريحة العقلاء خالصةً أم متأثّرة بغير النكتة الارتكازية، فإذا أحرزنا الأوّل لا ينفع هذا الإيراد.

ثانياً: أنّ هذا الإيراد يتوجّه على السيّد الشهيد S نفسه في مقام انتقاله من السلوك الخارجي إلى إمضاء النكتة الارتكازية العقلائية؛ لاحتمال أن يكون هذا السلوك غير معلول بخصوص النكتة الارتكازية، بل بضميمة العوامل الأخرى.

ثالثاً: أنّ الكلام مفروض في القرائح العامّة، واحتمال وحدة الظروف منفي بحساب الاحتمالات.

رابعاً: أنّ الاختلاف في العقلائية مفروض في كلمات الأعلام كما سيأتي في مناقشة السبب الثاني.

السبب الثاني: احتمال مخالفة عقلائية الشارع مع عقلائية البشر؛ فإنّ مرتبة عقل الشارع أتمّ وأكمل من مرتبة العقل عندهم، وهذا يستلزم اتّخاذه موقفاً أفضل أو أشمل من موقفهم.

ويتوجّه عليه: أنّ الأكملية المذكورة مفروضة في كلمات أصحاب هذا الوجه، وإلّا سيكون عند ردعه عمّا عند العقلاء ـ وهو مشترك معهم في هذه العقلائية ـ متناقضاً مع نفسه، أي بين كونه عاقلاً وبين كونه شارعاً، وهو كما ترى.

فالصحيح أنّه عند ردعه من حيث هو مولى تكون عقلائيته موافقة لمولويته، ومن ثَمّ هي مخالفة لعقلائية البشر، وهذا لا مفسّر له إلّا كون عقلائيته تامّة وخالصة من العوامل الخارجية المؤثّرة على النكتة الارتكازية.

الأمر الثاني: ـ الذي أورده السيّد الشهيد S ـ لو غضضنا النظر عمّا ذكرناه في الأمر الأوّل وسلّمنا اتّحاد الموافقة بين عقلائية الشارع وعقلائية البشر فهنا يوجد فرضان:

الفرض الأوّل: أنّ هذه الموافقة توجب القطع بأنّ الشارع بما هو شارع لا يخالف العقلاء بما هم عقلاء، ويلزم من ذلك أنّه لا يردع عمّا هم عليه، وأصحاب هذا الوجه لا يقولون بذلك بل يجعلون الأصل الأخذ بالموافقة بين عقل الشارع والعقلاء ما لم يثبت الردع.

الفرض الثاني: أنّه يحتمل الاختلاف بين حيثية كونه عاقلاً وحيثية كونه شارعاً، وعندئذٍ نقول: لمّا كان التنجيز والتعذير إنّما هو لحيثية كونه شارعاً ومولىً وليس لحيثية كونه عاقلاً فإنّه لا محرز لكون رأيه بما هو شارع عين رأيه بما هو عاقل؛ لأنّه كما فرضنا يحتمل المخالفة، فلا يترتّب التنجيز والتعذير الذي هو المقصود لنا.

إن قلت: إنّ احتمال الموافقة بين شارعية الشارع وعقلائيته موجود، بل لعلّ هناك ظنّاً بها؛ لأنّنا قلنا إنّ المخالفة محتملة غير مقطوع بها، وهذا الظنّ يكون أمارة على أنّ الشارعية والمولوية عين العقلائية فتثبت المولوية، ومن ثَمّ التنجيز والتعذير.

قلت: هذا الظنّ لا دليل على حجّيته إلّا إذا رجع إلى الظهور الحالي في الإمضاء على أساس أحد الوجوه الأخرى.

ويلاحظ على ما أفادهS: أنّ أصحاب هذا الوجه يبنون على الفرض الثاني ـ يحتملون المخالفة ـ ولذا قيّدوا الاعتبار بعدم ثبوت الردع، إلّا أنّهم يرون أنّ الأصل هو المتابعة إلى أن يثبت الردع، ومن ثَمّ يكون الأصل هو جري الشارع بما هو عاقل على وفق رأي العقلاء، ومقتضى الأصل الآخر هو مطابقة رأي الشارع بما هو شارع لرأيه بما هو عاقل، فإذا ردع بما هو شارع كشف هذا عن اختلاف عقلائية الشارع مع عقلائية البشر، وإذا لم يردع فهذا يعني تطابق العقلائية والشارعية.

الوجه الرابع: ما أفاده السيّد الأستاذ (دامت افاداته) من أنّ عدم ردع المعصوم عن السيرة غير المرضية عنده يؤدّي إلى نقض الغرض من تشريع الأحكام والذي هو تأمين الملاكات المولوية الكامنة في متعلّقاتها، فلو فُرِضَ أنّ ما بنى عليه العقلاء وأجروه في أمورهم الشرعية منافٍ مع تحقيق تلك الملاكات فإنّه لا بدّ للشارع تأميناً لتلك الملاكات من ردع العقلاء عن الإجراء المذكور، وإلّا نقض غرضه، وهو قبيح عقلاً(٢٧).

الوجه الخامس: ما أفاده السيّد الشهيد S من أنّ وظيفة المشرّع الإسلامي تربية المجتمع على نهج إلهي ربّاني، وهذا يستدعي إيصال الحقائق الإسلامية وتعليم الأحكام للناس وتصحيح أو تغيير ما ارتكز عند الناس من شرائع غير صحيحة، وهذه الوظيفة تخلق ظهوراً حالياً للمشرّع الإسلامي على أنّه ناظر إلى النكات التشريعية الكبروية ـ والتي منها النكات العقلائية الارتكازية ـ نفياً وإثباتاً؛ إذ بها يحصل التعليم والاستنباط(٢٨).

وهذا الوجه: ينفع في السيَر العقلائية بصورة كلّية، كما أنّه ينفع في المقدار الممضى بحدود النكتة الارتكازية لا بحدود الجري الخارجي، ومن ثَمّ ينفع في مدلول السيرة.

والمهمّ من هذه الوجوه الخمسة هي الثلاثة الأخيرة، ويمكن التعامل مع الثالث والخامس مضافاً إلى المشرّع العقلائي المتعارف على أنّها محتملات ثبوتية ثلاثة للمنهج الذي يكون مفسّراً لطريقة المشرّع الإسلامي في مقام جعله وتشريعه للأحكام، فنقول:

أمّا الوجه الخامس مع ما ذُكر من مناقشة الوجه الثالث فقد افترض أنّ المشرّع الإسلامي لم يكن في مقام تشريعاته كالمشرّع العقلائي المتعارف، فحتّى على تقدير الاتّحاد في أصل العقلائية فإنّ عقلائية الشارع أتمّ وأكمل من عقلائية البشر، وأعلى من جهة خلوصها عمّا يشوبها في البشر من العواطف والغرائز والاستقراءات الناقصة وما شابهها، ولمكان ذلك اعتبر هذا الوجه عقلائية المشرّع الإسلامي مختلفةً عن عقلائية المشرّع العقلائي المتعارف، ولم يقبل اتّحاد العقلائيتين كأصل عامّ.

ورتّب على هذا التفكير والمنهج جملة من الآثار:

منها: ربط المنجّزية والمعذّرية بالمولوية الخاصّة للمشرّع الإسلامي دون القطع وما يكشف عن تكاليف المولى، وعلى إثرها أنكر البراءة العقلية وقال بحقّ الطاعة، وأورد على المشهور أنّه يساوي بين مولوية الشارع المقدّس ومولوية العقلاء.

ومنها: ما يرتبط ببحثنا حيث بنى على عدم كون الأصل الموافقة بين عقلائية الشارع وعقلائية البشر، وبنى على أنّ الإمضاء من قبيل المقتضي للحجّية.

وأمّا الوجه الثالث فقد فرض للمشرّع الإسلامي منهجاً جعله منحازاً جدّاً إلى الجوانب العقلائية الصرفة، فهو عقل وعقلائية محضة، ولذا قد تختلف عقلائيته مع المشرّع العقلائي البشريّ المتعارف، ومن ثَمّ قد يردع، إذ إنّه في حال ردعه مولوياً لا تكون عقلائيته متوافقة مع عقلائية البشر؛ كون ذلك مناقضة بين عقلائية المشرّع الإسلامي ومولويته وهو محال.

هذان محتملان ثبوتيان يشتركان في فرض عدم التطابق بين المشرّع الإسلامي والمشرّع العقلائي البشري المتعارف. نعم، الثاني أقرب إليه من الأوّل.

والمحتمل الثالث فرض المشرّع الإسلامي متطابقاً مع المشرّع العقلائي المتعارف.

وهذا البحث مرتبط بفلسفة وأصول التشريع.

ويتراءى في النظر القاصر: أنّ كلّ واحد من الوجوه الثلاثة نظر إلى جانب من المسألة وإن كان الوجه الثالث هو المحور؛ وذلك لعدّة أمور:

الأول: ما تقدّم في مناقشة السيّد الشهيد S من أنّ الفارق المحتمل في العقلائية إنّما هو من جهة أكملية عقلائية الشارع المقدّس وخلوصها، وهذا في الحقيقة يناسب أن يكون الأصل هو الاتّحاد في العقلائية إلّا في الموارد التي تقصر فيها عقلائية البشر أو يشوّش عليها ما يكتنف البشر من عواطف وغرائز وأفكار، وحينئذٍ فلو ردع الشارع كشف ذلك عن الخلل في عقلائية البشر في تلك الموارد، كما هو الحال في القياس والربا.

الثاني: من خلال النظر إلى العلاقة بين التكوين والتشريع، فالله تعالى عندما خلق في الإنسان الإمكانيّات البدنية والنفسية والإدراكية، فإنّ هذا دليلٌ على إباحة صرف هذه الإمكانيّات؛ إذ لا معنى لخلق الإمكانيّة وتحريم استعمالها من أصلٍ، فإنّه تناقضٌ بحكم العقل النظريّ، ونقضٌ للغرض بحكم العقل العملي. نعم، هذا الصرف مباحٌ ما لم يرد من الشارع أو العقل والعقلاء تحديده في نطاق خاصّ.

الثالث: ما حُكي عن بعض الأعاظم F من أنّ المكوّن هو المشرّع فهناك عينيّة بين حكم العقل العملي وحكم الشرع، فيقال مثله في القضايا العقلائيّة الناشئة من قريحة العقلاء؛ إذ المكوّن هو المشرّع(٢٩).

ويخرّج هذا الأمر على أساس وحدة المنبع، وأمّا الأمر السابق فيخرّج على أساس حكمة المنبع.

الرابع: بعض النصوص الشريفة، ونذكر أنموذجاً واحداً منها عن أمير المؤمنين g قال: (فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته... ويثيروا لهم دفائن العقول) (٣٠)، وهذا يعني حقّانية دفائن العقول وإلّا لا يناسب إثارتها، وما يكون نابعاً من قريحة العقلاء من مفردات دفائن العقول.

فتحصّل: أنّ الطريقة التي يتّبعها الشارع في مقام جعله لأحكامه تتوافق مع عقلائية البشر الخالصة النابعة من قرائحهم التي أودعها الله فيهم، ولكن هذا لا يعني التطابق التامّ، بل الشارع له أغراضه الخاصّة التي قد لا تدركها عقول البشر؛ لقصور تلك العقول أو لاكتنافها بما يشوبها من الأفكار والغرائز ونحو ذلك، وحينئذٍ قد تنتقض أغراضه من قبل العقلاء أنفسهم، فيردعهم للحفاظ عليها.

وعلى هذا تكون القضايا العقلية والعقلائية الناشئة من قريحة العقلاء واجدةً لمقتضى الحجّية بلا حاجة إلى جعلٍ، والردع والإمضاء في رتبة المانع، فالأصل مطابقة الشارع بما هو عاقل لعقلائيّة العقلاء، والأصل الآخر تطابق عقلائية وعقل الشارع مع مولويته.

هذا كلّه بالنسبة لموقف الشارع تجاه السيرة والذي كان الشرط الأوّل من الشرائط المعتبرة في كاشفية السيرة عن الحكم الشرعي، واتّضح أنّ عدم الردع دالّ على الإمضاء مطلقاً في المعاملات وغيرها.

الشرط الثاني: الاطّلاع على موقف الشارع تجاه السيرة. 

من الواضح أنّه لا ينكشف لنا الحكم من مجرّد صدور الموقف من الشارع واقعاً، وإنّما بعد اطّلاعنا عليه وأنّه ردع أو لم يردع، فكيف يتسنّى لنا هكذا اطّلاع؟

المعروف أنّ الاطّلاع على موقف الشارع يكون على أساس قضيّة شرطيّة أُخرى مفادها: (لو كان قد ردع لظهر وبَان) بمعنى أنّه لو كان قد صدر من الشارع ردعٌ تجاه السيرة لوصل إلينا متمثّلاً بالأخبار الناقلة لموقف الشارع.

وفي هذه الشرطيّة أمران:

١ ـ الملازمة بين المقدّم والتالي.

٢ ـ التالي ثبوتاً ونفياً.

وإزاء هذه الشرطية اتّجاهان:

الاتّجاه الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق العراقي والسيّد الشهيد T من التفصيل بين السيرة الممتدّة إلى مجال الأحكام الشرعية وغير الممتدّة، فنحتاج إلى الشرطية المذكورة في الثانية دون الأولى(٣١)، وتوضيح ذلك:

تقدّم أنّ السيرة العقلائية الممتدّة ثبوتاً تُتصوّر على نحوين:

أحدهما: أنّ المتشرّعة يجرونها في دائرة الأحكام الشرعية بعد استئذان الشارع.

والآخر: أنّ جريهم في دائرة الأحكام الشرعية بلا استئذان، وإنّما وفق قريحتهم العقلائية.

وتقدّم في الشرط الأوّل أنّ السيّد الشهيد S ذهب إلى عدم الحاجة إلى الشرطية الأولى في النحو الأوّل، ومن الواضح أنّه لا نحتاج إلى الشرطية الثانية فيه.

وأمّا في النحو الآخر فإنّه وإن احتجنا إلى الشرطية الأولى، ولكن لا حاجة إلى الشرطية الثانية؛ لأنّه من غير المعقول اجتماع السيرة من المتديّنين والردع عنها، بخلاف السيرة غير الممتدّة والتي خصّوها بمصطلح (السيرة العقلائية)؛ إذ يمكن أن يجري العقلاء في أمورهم المعاشية على وفق السيرة والشارع يردع عنها، فيجتمعان معاً.

وتقرّب الملازمة عندئذٍ(٣٢): بأنّ السيرة العقلائية لمّا كانت سلوكاً نوعياً للعقلاء ومعلولاً لارتكازاتهم وقرائحهم العقلائية فهذا يعني أنّها عامّة وراسخة، فإذا أراد الشارع أن يردع عنها فلا بدّ أن يكون بسعة وعموم السيرة وبدرجة ارتكازيتها ورسوخها وتجذّرها حتّى يؤثّر هذا الردع أثره، وهذا يستدعي تكرار الردع، وكونه مركّزاً واضح الدلالة ـ أي من خلال كلامٍ موضوعه خصوص السيرة، ودلالته واضحة في الردع ـــ ومثله يُحدث انتباهاً من قبل أصحاب الأئمّة i، فيكثر السؤال عن هذا الموضوع ويكثر الجواب من الأئمّة i، وينعكس ذلك بصورة روايات منقولة عنهم i، ودواعي ضبط ونقل هذه الروايات يداً بيد حاصلةٌ، ودواعي الإخفاء مفقودة: من جهة كثرتها وتركيزها على الموضوع، ومن جهة أنّ الردع يمثّل قضية تأسيسيّة تغييرية أو تصحيحية للوضع العامّ السائد آنذاك، وحينئذٍ نطمئن ـ وفق حساب الاحتمالات ـ، بل لعلّه نقطع بأنّه لو كان مثل هكذا روايات صادرة عن الأئمّة i لنُقل إلينا بعضها. وبهذا تثبت الملازمة المذكورة من أنّه لو كان ردع لظهر وبان.

الاتّجاه الثاني: أنّنا نحتاج إلى هذه الشرطية، وأنّ الامتداد بنحو واسع له تمام الدخالة في تحقّق الملازمة في هذه الشرطية، ومن ثَمّ لا تثبت هذه الشرطية في السيرة غير الممتدّة، وقد أفاد ذلك السيّد الأستاذ (دامت افاداته)  حينما أورد على المحقّق العراقي S قائلاً: (ما أفاده لا يمكن المساعدة عليه؛ فإنّ الوجه في استكشاف إمضاء الشارع المقدّس للسيرة العقلائية من جهة عدم ردعه عنها هو أنّ تشريعه للأحكام لمّا كان الغرض منه تأمين الملاكات الكامنة في متعلّقاتها، فلو فرض أنّ ما بنى عليه العقلاء في أمورهم غير الشرعية كان ممّا يجرونه بصورة موسّعة في أمورهم الشرعية أيضاً، وكان ذلك ممّا لا يرتضيه الشارع المقدّس لمنافاته مع تحقيق الملاكات المولويّة، فلا بدّ تأميناً لتلك الملاكات من ردع العقلاء عن إجرائه في الأمور الشرعية، ولو كان قد ردع لوصل ذلك إلينا بمقتضى الطبع والعادة وحيث لم يصل كشف ذلك عن عدمه.

وهذا البيان إنّما يتمّ فيما لو أُحرز أنّ السيرة العقلائيّة قد امتدّت عملياً إلى ما يمسّ الأمور الشرعية بصورة متّسعة، من جهة أنّها إذا امتدّت كذلك فالردع عنها يجب أن يكون متّسعاً ليقع مؤثّراً، ومتى اتّسع بصورة أو بأخرى كما هو الحال في كلّ أمرٍ تكرّر الحديث بشأنه، وتمّ التأكيد عليه بصورة موسّعة على ألسنة المعصومين i، وأمّا إذا كان ما بنى عليه العقلاء في أمورهم غير الشرعية ممّا لم يتأكّد امتداده إلى الأمور الشرعية في عصر المعصومين i، أو لم يتأكّد سعة امتداده إليها فلا سبيل إلى استكشاف الإمضاء الشرعيّ من جهة عدم الردع)(٣٣).

أقول:

أوّلاً: تقدّم أنّ إجراء العقلاء للسيرة العقلائية في أمورهم الشرعية وبصورة واسعة دخيل في الشرط الأوّل، أي في أصل إبداء الشارع موقفاً تجاه السيرة، ومن دون الامتداد المذكور لا نثق أنّ الشارع قد يتعرّض لمثل هكذا سيرة، ومن الواضح أيضاً أنّ الامتداد المذكور دخيل في تحقّق الملازمة في الشرطية الثانية؛ من جهة المساهمة في كثرة الأسئلة والأجوبة وضبطها، ونقلها إلينا كما يراه الاتّجاه الثاني.

وثانياً: إنّه بجري المتشرّعة الواسع على وفق السيرة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية ووصول هذا الجري والسيرة إلينا يمكن أن ندّعي أنّ التالي ـ وهو وصول الردع إلينا ـ منتفٍ بلا حاجة إلى الفحص عن وجود رادعٍ وعدمه، ومن ثَمّ انتفاء المقدّم فيثبت عدم صدور ردع تجاه هكذا سيرة. 

ولعلّ هذا هو مقصود من قال إنّنا لا نحتاج إلى الشرطية الثانية في السيرة الممتدّة الواصلة إلينا؛ وذلك أنّه من البعيد جداً في حال قصر النظر على مجتمع المتشرّعة
ـ وهو بصورة عامّة يطبّق سلوكه على وفق أحكام الشريعة ـ أن تصل إلينا السيرة وردعها معاً من دون أن يؤثّر الردع في مجتمع المتشرّعة بمرور الزمن، فإذا وصلت إلينا فهذا يعني عدم صدور الردع من الشارع تجاهها. 

نعم، يمكن ذلك في المجتمعات المتوازية ـ إذا جاز التعبير ـ كمجتمع الدولة والمتشرّعة غير الإماميّة والعشيرة، فإنّها في حالة موازاة مع المجتمع المتديّن الإماميّ، ولذا في مجتمع العشيرة ـ مثلاً ـ قد وصلت بعض القضايا ـ مع كونها مردوعاً عنها ـ يداً بيد عن أسلافهم الذين كانوا قبل الإسلام، وأمّا في المجتمع الواحد فبعيد جدّاً بقاء السيرة وما يردع عنها، بل فرض القائل بقضيّة (لو كان لبَان) أنّ السيرة المردوع عنها أقوى، ولذا تصل إلينا السيرة وقد يصل إلينا بعض الروايات الرادعة.

وقد عرفنا أنّ المحقّق العراقي والسيّد الشهيد  Tكانا ينظران بقضيّة (لو كان لبَان) على السيرة العقلائية غير الممتدّة إلى مجال الأحكام الشرعية.

وأمّا ما نقترحه فهو الانتقال من هذا العموم إلى مجتمع المتشرّعة، فإذا كانت هذه السيرة العقلائية قائمة عندهم فهذا يعني أنّها غير مردوع عنها؛ من جهة أنّ وجود السيرة دليل على انتفاء التالي بلا حاجة إلى الفحص عن وجود رادعٍ وعدم وجوده، ويمكن أن نقول بلا حاجة إلى شرطية (لو كان لبَان).

وقد يقال: إنّه يمكن وصول السيرة والردع معاً في مجتمع المتشرّعة بسبب اختلاف الفقهاء بين ثبوت السيرة وثبوت الردع عنها، فالبعض يبني على عدم الردع والآخر يبني على الردع.

إلّا أن يقال: إنّ هذا يكون له مجال فيما بعد عصر الأئمّة i، وأمّا في عصرهم فيبعد اختلاف الفقهاء في مثل هكذا مسألة عامّة، بل اختلاف الفقهاء في زمانهم i داعٍ للإمام أن يبلِّغ بحدٍّ يزول هذا الاختلاف بين فقهائهم، إلّا إذا كان هناك مصلحة في الاختلاف.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ الفقهاء في زمن الأئمّة i وكذلك عامّة الشيعة ـ زيديّة وفطحيّة وإسماعيليّة وواقفة وغيرهم ـ قد لا يأخذون من بعض أئمّتنا، ومع ذلك يؤثّر فقههم في فقهنا فلا تحسم مادّة الاختلاف حتّى في زمان النصّ.

ولكن مع ذلك يمكن أن نقتصر على مجتمع المتشرّعة الإماميّة لإتمام هذا الاقتراح، يضاف إلى ذلك أنّ الجوّ العامّ في مجتمع متشرّعة الشيعة سيكون وفق ما يراه الأئمّة، وأنّ المخالفين من الشيعة قلائل، والسيرة يكفي فيها أن يكون الجوّ العامّ على وفقها.

وأيّاً كان من يحصل له الاطمئنان بما ذكرنا لا يكون بحاجة إلى البحث عن وجود رادعٍ وعدمه، بل ليس بحاجة إلى هذه الشرطية، خصوصاً إذا كان يرى أنّه يكفي في التالي عدم إحراز الردع لا إحراز عدم الردع، فإنّ هكذا احتمال يقوّي عدم إحراز الردع.

هذا كلّه بالنسبة إلى أصل الشرطيّة والملازمة وشيء من التالي.

وأمّا بالنسبة للتالي إثباتاً ونفياً ـ أعني وصول الردع وعدم وصوله ـ فهنا عدّة نقاط:

النقطة الأولى: هل يكفي عدم إحراز وصول الردع إلينا أم لا بدّ من إحراز عدم وصوله؟ 

قولان: فالذي يرى أنّ الردع وعدمه بمثابة المانع يذهب إلى الأوّل، وأمّا مَنْ يعتبره مقتضى الحجّية فإنّه سيختار الثاني. 

ولمّا كان الصحيح هو أنّ الإمضاء وعدمه في رتبة المانع كان القول الأوّل هو الحقيق بالاتباع، وهذا يناسب كون الجري ـ عملاً ـ حاصلاً على وفق السيرة وإن لم يمضِها الشارع، فلا يكون للإمضاء دور في التحريك، وإنّما دوره في حال الردع المنعُ من التحرّك، وفي حال عدم الردع استمرارُ التحرّك، وهذا يناسب كون الإمضاء في مرتبة المانع لا المقتضي، وأيضاً يناسب أن يكون المعتبر في السيرة عدم إحراز الردع وليس إحراز عدمه.

النقطة الثانية: هل يشترط في الدليل الرادع أن يكون معتبراً سنداً، أو يتحقّق ولو كان بسندٍ غير معتبر؟

سيأتي أنّ حجّية السيرة من جهة إفادتها الاطمئنان أو القطع على أساس حساب الاحتمالات، فليست السيرة من الظنون الخاصّة التي قام الدليل على اعتبارها، بل لاندراجها تحت الحجج العامّة وهما القطع والاطمئنان.

وعليه فوصول الخبر الضعيف الدالّ على الردع قد يحول دون حصول الاطمئنان بعدم الردع؛ لأنّه قيمة احتمالية في جنب الردع، فليس بالضرورة أن يكون الخبر الواصل إلينا خبراً معتبراً سنداً. 

نعم، لو كانت حجّية السيرة من باب الظنون الخاصّة فإنّه لا يصحّ رفع اليد عن الحجّة إلّا بحجّة أخرى، فلا يضرّ وجود الخبر الضعيف.

النقطة الثالثة: هل يكفي في الردع خبر واحد، أو لا بدّ أن يكون متعدّداً؟

يختلف ذلك باختلاف الموارد فالسيرة قد تكون بدرجة من العموم والرسوخ بحيث يكون الخبر الصحيح الواحد ـ فضلاً عن الضعيف ـ أو ما ليس بذاك الوضوح دلالةً غيرُ مانع من حصول الاطمئنان بعدم الردع، فتكون الروايات الرادعة عن هذه السيرة كثيرةً جدّاً، ومركّزة دلالةً، ودواعي النقل متوفّرة، فمن المؤكّد أن يصل إلينا من الأخبار ما يناسبها.

النقطة الرابعة: تقدّم أنّ نفس وصول السيرة إلينا دخيل في عدم ثبوت الردع، لأنّه يمثّل احتمالاً قويّاً في جانب عدم وصول الردع إلينا، لبعد اجتماع وصولها مع وصول الردع إلينا.

النقطة الخامسة: هل يتأتّى الردع عن السيرة بالعمومات والمطلقات ونحوها أو لا؟

إنّ بعض أبحاث هذه النقطة تُذكر في غير موضع من الأصول، منها في مبحث حجّية خبر الواحد ممّا هو مرتبط بالآيات الرادعة عن العمل بالظنّ وبغير العلم ونحوها، ونحن في المقام سنذكر جوابين عامّين لكلّ سيرة يُدّعى الردع عنها بعموم أو إطلاق:

الجواب الأوّل: تقدّم أنّ السيرة لمكان عمومها ورسوخها ينبغي أن تكون الأدلّة الرادعة عنها واسعة في مقابل العموم، ومركّزة في مقابل الرسوخ. 

ويُراد بالمركّزة ما يكون موضوعها خصوص السيرة ودلالتها واضحة، فلا يمكن الردع بالمطلقات والعمومات.

الجواب الثاني: أنّ السيرة النابعة من قريحة العقلاء مؤلّفة من جزئين: السلوك الخارجي، والارتكاز وقريحة العقلاء التي تكون وراء هذا السلوك، وهذا الارتكاز يُصنّف عادة على مناسبات الحكم والموضوع التي هي بمثابة القرينة المتّصلة، فتمنع من انعقاد الإطلاق بحيث يشمل هذه السيرة.

ومن الواضح أنّ هذين الوجهين مختصّان بالسيرة المنعقدة بالفعل؛ لأنّها راسخة وذات ارتكاز حافّ بالمطلق أو العامّ، وأمّا السيرة غير المنعقدة فيتأتّى الردع عنها بالمطلقات والعمومات.

إذاً الصحيح التفصيل بين السيرة المنعقدة بالفعل والسيرة التي لم تنعقد بعدُ.

وبهذا ننهي الكلام في هذا الشرط، ويليه الشرط الثالث في معاصرة السيرة للمشرّع الإسلامي في حلقة أخرى إن شاء الله تعالى.

والحمدُ لله ربِّ العالمين. 

 

 


(١) يلاحظ: مباحث الأصول: ق٢ج٣/ ١٩٣.

 (٢) يلاحظ: فوائد الأصول: ٣/ ١٩٢، نهاية الأفكار: ٣/ ١٣٧، اقتصادنا: ٤٥٤، أصول الفقه للشيخ المظفّر: ٥١٣.

 (٣) يلاحظ: الحلقة الأولى والثانية: ١١٥، ٢٧٠، الحلقة الثالثة: ١٣٨، بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٣٢. 

 (٤) يلاحظ: أصول الفقه للشيخ المظفّر: ٥١٣.

 (٥) يلاحظ: فوائد الأصول: ٣/ ١٩٢، الأصول العامة للفقه المقارن: ١٩١، ١٩٢. 

 (٦) إذ لا يكفي أن تكون ظاهرة دعائية من دون أن يجري عليها الناس بالفعل خارجاً.

 (٧) يلاحظ: فوائد الأصول: ٣/ ١٩٢.

 (٨) يلاحظ: مستمسك العروة الوثقى: ١/ ٢١٥، التنقيح في شرح العروة الوثقى: ٢/ ٢٧٣، فقه الشيعة: ٢/ ٨٦. 

 (٩) يلاحظ: تعليقة المحقّق العراقي على فوائد الأصول: ٣/ ١٦١، نهاية الأفكار: ٣/ ١١٤، مقالات الأصول: ٢/ ١١٠، بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٣٤، ٢٤٧ ـــ ٢٤٨، مباحث الأصول ق ٢ ج ٢ /١٤٤ -١٤٥.

 (١٠) يلاحظ: فوائد الأصول: ٣ / ١٩٢ ـ١٩٣، مباحث الأصول: ق٢ج٢/ ٩٧، المحكم في أصول الفقه: ٣/ ١٩٢ـ١٩٣. 

 (١١)  يلاحظ : المحكم في أصول الفقه: ٣/ ١٩٣.

 (١٢) يلاحظ: فوائد الأصول: ٣/ ١٩٣.

 (١٣)  يلاحظ: مباحث الأصول: ق ٢ج ٢/ ٩٧ـ ٩٨.

 (١٤) يلاحظ: تعليقة المحقّق العراقي على فوائد الأصول: ٣/ ١٦١تعليقة رقم(١)، بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٤٨، مباحث الأصول: ق ٢ج ٢/ ١٤٤.

 (١٥) يلاحظ: دروس في علم الأصول الحلقة الثالثة: ١٣٨ـ١٤٢، دروس في علم الأصول الحلقة الأولى والثانية: ٢٣٦، ٢٥٠ـ٢٥٢.

 (١٦) يلاحظ: فوائد الأصول: ٣ /١٣٥، نهاية الأفكار: ٣/ ٩٠، نهاية الدراية: ٣/ ٢٤٩، المحكم في أصول الفقه: ٣/ ٢٧٥.

(١٧) يلاحظ: بحوث في شرح مناسك الحج: ٨/ ٨٣، أصول الفقه للشيخ المظفّر: ٥١٤.

(١٨) يلاحظ: فوائد الأصول: ٣/ ١٩٣، أصول الفقه: ٥١٤، تعليقة المحقّق العراقيّ على فوائد الأصول: ٣/ ١٩٣.

(١٩) يلاحظ: فوائد الأصول: ٣/ ١٩٢.

(٢٠) يلاحظ: تعليقة فوائد الأصول: ٣/ ١٦١، مقالات الأصول: ٢/ ١٠٩ ـ ١١١، نهاية الأفكار: ٣/ ١٣٧ ـ ١٣٨، مباحث الأصول: ق٢ج ٢/ ١٤٤ ـ ١٤٥، بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٢١) بحوث في علم الأُصول: ٤/ ٢٤٨.

(٢٢) فوائد الأصول: ٣/ ١٩٣.

(٢٣) يلاحظ: فوائد الأصول: ٣/ ١٩٢.

(٢٤) يلاحظ: بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٤٦، بحوث في شرح العروة الوثقى: ٢/ ١٤٧.

(٢٥) يلاحظ: كفاية الأصول: ٣٤٠، نهاية الدراية: ٣/ ٢٤٩ ـ ٣٤٣، المحكم في أصول الفقه: ٣/ ٢٧٥، الكافي في أصول الفقه: ٢/ ٦٢، أصول الفقه: ٥١٤.

(٢٦) يلاحظ: بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٤٥، كما يلاحظ: منتقى الأصول: ٤/ ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(٢٧) يلاحظ: بحوث في شرح مناسك الحج: ٨/ ٨٣.

(٢٨) يلاحظ: بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٤٦، بحوث في شرح العروة الوثقى: ٢/ ١٤٧، مباحث الأصول: ق٢ج ٢/ ١٣٠.

(٢٩) يُلاحظ: بحوث في شرح مناسك الحج: ٣/ ٤٩٣، العلم الإجماليّ حقيقته ومنجّزيته عقلاً: ٢٧٩.

(٣٠) نهج البلاغة: ٧٥ ـ ٧٦.

(٣١) يلاحظ: تعليقة فوائد الأصول: ٣/ ١٦١، مقالات الأصول: ٢/ ١٠٩ ـ ١١١، نهاية الأفكار: ٣/ ١٣٧ ـ ١٣٨، مباحث الأصول: ق٢ج ٢/ ١٤٤ ـ ١٤٥، بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٣٢) يلاحظ: بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٤٤.

(٣٣) بحوث في شرح مناسك الحجّ: ٨/ ٨٣.