السيرة العقلائية (الحلقة الثانية)

احدث المقالات

PDF
نص المقال

mg-17-01Untitled-16

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تناول البحث (السيرةَ العقلائية) في ستة فصول وخاتمة. وكان الفصل الأوّل منها في تقسيمات السيرة بعد مقدّمة في تحديد المراد من هذا الاصطلاح، وتعقّبه الفصل الثاني في طريقة الاستدلال بها وشروطه، وهي ستٌ: أوّلها في ثبوت موقف من الشارع المقدّس تجاه السيرة، وثاني الشروط الاطّلاع على هذا الموقف إن كان.

كلّ هذا تقدّم في الحلقة الأولى، وأمّا باقي الشروط ومحاور البحث فهو ما نتكفّل به في هذه الحلقة.

الشرط الثالث: معاصرة السيرة للشارع وطرق إثباتها.

إنّ صدور موقفٍ من المشرّع الإسلامي ـ سواء كان هذا الموقف على سبيل المقتضي للحجّية أو على نحو المانع ـ تجاه السيرة العقلائية يستدعي معاصرتها له، وإلّا كيف يصدر الموقف تجاه السيرة مع فاصل زمنيّ بينهما، وهذا يفضي إلى البحث عن الطرق التي نثبت بها معاصرة السيرة التي في زماننا لزمان وجود المعصوم المتمثّل بالنبيّ e والأئمّة i.

قد يقال: (تارة)بأنّه لا حاجة لهذا الشرط من أصلٍ، و(ثانية) بأنّ المعاصرة حاصلة في جميع الأزمنة، و(ثالثة) بأنّه لا ملازمة بين اتّخاذ الموقف من المعصوم ومعاصرة السيرة لزمانه.

أمّا الأولى(١) فمن جهة أنّ العقلاء في تقدّم ونضج وتزايد خبراتهم الفكرية والاجتماعية والقانونية؛ ولأجل ذلك ظهرت حقوق مستجدّة كثيرة للإنسان، والحيوان، والبيئة، ودراسات قانونية مختلفة، ممّا يعني فعلاً تطوّر الجانب العقلي والعقلائي في الإنسان.

وفيه: لو سلّمنا ما قيل(٢) فإنّ ما حكم العقل بلزوم اتّباعه إنّما هو حكم الله تعالى وليس حكم العقلاء، كما أنّه لم تثبت الملازمة بين حكم العقلاء وحكم الشارع.

إن قلت: تقدّم أنّ الأصل مطابقة عقلائية العقلاء لعقلائية الشارع ومولويته، وعلى أساسها قيل بالملازمة بين حكم العقلاء وحكم الشارع.

قلت: إنّ هذه الملازمة معلّقة على عدم صدور موقفٍ رادع من الشارع على سبيل السالبة بانتفاء المحمول، لا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، ولذا اشتُرط إمكان الردع عقلاً وعرفاً؛ لأنّه في حال امتناعه ـ أي الردع ـ فإنّه وإن لم يكن ردع في البين ولكن لا يصحّ استكشاف الإمضاء والرضا منه كما لا يخفى، ومع عدم المعاصرة لا يتحقّق الإمكان المذكور.

وأمّا الثانية(٣)ـ من كون المعاصرة حاصلة في كلّ زمان ـ فلوجود صاحب العصر والزمان  l، وعليه  تكون كلّ سيرة عقلائية في أزمنتنا المتأخّرة هذه معاصرة لوجود المعصوم i، فيدلّ سكوته تجاهها على إمضائه لها.

وهذا ما كان يستند عليه قدماء أصحابنا كالسيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ T(٤) في حجّية الإجماع والسيرة؛ لأنّ السيرة تاريخياً كانت تُصنّف على أنّها أحد أنحاء الإجماع، ويعبّر عنها بـ(الإجماع العملي)(٥).

والجواب: أنّ ما تقدّم من الوجوه الخمسة(٦) لإثبات أنّ السكوت دالّ على الإمضاء ـ من كونه مكلّفاً بإظهار الحقّ وإزاحة الباطل، أو أنّه آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، أو إمضاء أصل الاتّحاد في العقلائية بين الشارع والبشر، أو الحفاظ على الأغراض المولوية، أو تعليم الجاهل وتربية الإنسان تربية ربّانية ـ افتُرض فيها الوضع الطبيعيّ، وهو حضور المعصوم والمشرّع الإسلامي. 

وأمّا في حال الغيبة فلأنّه غير مكلّف بهذه الأمور، فلا يدلّ سكوته تجاه سيرةٍ على إمضائه أو ردعه عنها.

وأمّا الثالثة ـ من عدم الملازمة بين اتّخاذ موقف من المعصوم i وبين معاصرة السيرة ـ  فلوجهين:

الوجه الأوّل: ما عن بعض الأكابر T في معرض الكلام عن جواز الرجوع إلى المجتهدين في أزمنتنا هذه مع الاختلاف الكبير عن اجتهاد أصحاب الأئمّة i، فقال ما لفظه: (إنّ النبيّ الأكرم والأئمّة من بعده عارفون بحال أمّته، وما يجري عليهم في مختلف الزمان ومرور الدهور من غيبة وليّ الدين وإمامه، وحرمان الأمّة عن الوصول إليه، وإنّ الأمّة بمقتضى ارتكازهم من لزوم رجوع الجاهل إلى العالم سوف يرجعون إلى علمائهم الذين لا محيص لهم من الرجوع إلى أخبارهم وآثارهم التي دوّنها أربابها، باذلين جهدهم مستفرغين بالهم في استنباط الحكم، فلو لم تكن هذه السيرة مرضيّة لكان عليهم الردع، ومنع الأمم الجائية عن التطرّق بهذا الطريق، وإرجاعهم إلى طريق آخر. وقد أخبروا عن كثير من الأمور التي لم يكن يوم ذاك عنها عين ولا أثر، كيف وقد أمروا أصحابهم بضبط الأحاديث والأصول معلّلين بأنّه سيأتي زمان هرج ومرج، ويحتاج إلى كتبهم، كلّ ذلك يرشدنا إلى كون السيرة مطلقاً ممضيّة بلا  إشكال)(٧).

ومحصّله: أنّ المعصومين i لمّا كانوا عالمين بالغيب فهم يعلمون غيبة الإمام الحجّة i بنحو لا تستطيع الأمّة الرجوع إليه كما كانت ترجع إلى غيره من المعصومين i.

كما أنّهم عليهم السلام يعلمون أنّ الأمّة سوف تتحرّك وفق ما تقتضيه قرائحهم ومرتكزاتهم العقلائية والتي منها رجوع الجاهل إلى العالم، فيرجعون إلى الفقهاء والمجتهدين من أهل زمانهم الذين يختلفون عن الفقهاء والمجتهدين من أصحاب الأئمّة بحدٍّ كبير.

فلو لم يكن مثل هكذا رجوع مرضيّاً عندهم i لردعوا عنه ولوصل إلينا، ولمّا لم يصل إلينا هكذا ردع فهذا يعني أنّهم أمضوا هذه السيرة بجميع مراتبها.

إن قلت(٨): هذا إعمال للغيب، والمعصومون i إنّما يحافظون على الأحكام الشرعيّة بالطرق الاعتيادية، وليس بإعمال الغيب.

 قلت: إنّهم i أخبروا عن كثير من الأمور التي لم يكن في زمانهم منها عين ولا أثر، فكيف بما كان بعض مراتبها موجوداً في زمانهم، ومن جملة الأمور التي أخبروا عنها أنّه سيحصل في الأمّة هرج ومرج، واختلاط الحقّ بالباطل، ولذا أمروا أصحابهم بضبط الأحاديث والأصول التي ستكون هي المرجع لهم في تلك الحال.

وأجاب السيّد الأُستاذ (دامت افاداته) عن أصل البيان المذكور بما لفظه: (إنّ الملاكات المولويّة على درجات متفاوتة، وتختلف بحسب ذلك درجة ما تستدعيه من الاهتمام بتبليغها إلى المكلّفين، والأحكام المتعلّقة بالأمور المستحدثة في عصر الغيبة إذا لم يصل الردع عمّا استجدّ من بناء العقلاء من قبل الشارع المقدّس يجوز أن يكون الوجه فيه اعتماد الشارع في حكمه المخالف للبناء المستجدّ على ما تقتضيه العمومات والإطلاقات وما بحكمها(٩).

ويمكن أن يكون من جهة عدم كون الملاك الكامن في الحكم بمرتبة من الأهمّية تقتضي التسبيب في إيصاله إلى المكلّفين بأيّ نحوٍ كان، وعلى هذا لا يمكن التأكّد من موافقة الشارع المقدّس لما هو مقتضى البناء العقلائي فيه المعاصر للمعصومين i(١٠).

يضاف إلى ذلك ما يمكن التعبير عنه بحدود اعتماد المشرّع الإسلامي في تشريعاته على الغيب، فإنّ اطّلاع المشرّع الإسلامي على الغيب هو ما يميّزه عن المشرّع البشري، وقد أعمله في تشريع الأحكام من حيث اطّلاعه على الملاكات الواقعية التي على أساسها كانت الأحكام الشرعية. 

ولكن هل استعمله كمنهج عامّ ـ لا على سبيل الحالات الاستثنائية ـ في تبليغ الأحكام إلى الناس والحفاظ عليها في حال تعرّضها إلى الخطر أم لا؟

وجهان، بل قولان:

أحدهما: ما يناسب كلام السيّد الخمينيّ S في المقام(١١)، وكذلك السيّد الأُستاذ (دامت افاداته).

ثانيهما: ما لعلّه السائد في هذه الأزمنة، وقد ذكر المحقّق النائينيّ S مكرّراً: (أنّه ليس للشارع في تبليغ أوامره طريق خاصّ، بل طريق تبليغها هو الطريق الجاري بين الموالي والعبيد العرفية من دون أن يكون له طريق مخترع)(١٢)، وذكر في بحث حجّية الظهور: (أنّه ليس للشارع طريق خاصّ في بيان مراداته، بل يتكلّم على طبق تكلّم العقلاء)(١٣).

وقد تقدّم عن السيّد الشهيد S(١٤) من أنّ الأئمّة i يتحفّظون على الأحكام بالطرق الاعتيادية لا بإعمال الغيب.

الوجه الثاني: أن يقال(١٥): إنّ عدم تصدّي الشارع لبيان أحكامٍ وتأسيس تشريعات في أبواب متعدّدة من الحياة ممّا للعقلاء شأن فيه يُفهم منه أنّه قد تركها إليهم، وأحال على ارتكازاتهم، فيكون هذا إمضاءً إجمالياً لما ينعقد عليه بناؤهم إلّا ما ثبت في بعض الموارد من عدم متابعة الشارع لهم فيه وردعهم عنه.

إذاً، عدم التصدّي المذكور يستلزم الإمضاء بصورة كلّية للسيَر العقلائية بما فيها السيَر المستحدثة، فلا ملازمة بين لزوم موقفٍ شرعي تجاه السيرة وبين معاصرة السيرة لذاك الموقف.

والمناقشة تارة في الملزوم، وأُخرى في اللازم:

أمّا الملزوم فلأنّه لم يثبت عدم تصدّي الشارع بدرجة معتدّ بها لبيان أحكام السيَر العقلائية التي كانت بمرأى ومسمع منه، بل بيّن أحكامها، وصدر منه ما يحتمل كونه في مقام بيانها ولو بنحو العموم أو الإطلاق وكقاعدة كلّية. وعدم كثرة ذلك يمكن أن يكون ناتجاً عن عدم كثرة الاستثناءات لتلك القواعد الكلّية.

ومثل هذه البيانات مذكورة في باب الاجتهاد والتقليد وخبر الواحد، وعدد غير قليل من القواعد الفقهية ذات الجذور العقلائية.

وأمّا اللازم ـ على تقدير تمامية الملزوم ـ فإنّ سكوت الشارع إنّما يدلّ على إمضاء السيرة بنحو القضيّة الخارجية، أي للسيَر العقلائية المنعقدة بالفعل في عصره، وليس فيه تقرير لأكثر من ذلك، فلا يمكن استكشاف إمضاء عامّ من السكوت لمطلق السيَر العقلائية بنحو القضيّة الحقيقية، فليس حال السكوت حال دلالة الكلام في العمومات والمطلقات الظاهرة في إرادة القضيّة الحقيقية.

ويبدو أنّ القائل لم يرد استفادة هذه الدلالة من مجرّد السكوت، بل بإضافة قرينة إليه، وهو الملزوم.

ولكن مع ذلك فالقدر المتيقّن من الملزوم هو إمضاء السيَر العقلائية القائمة بالفعل في زمانه، لا مطلق السيَر العقلائية.

فتحصّل ممّا تقدّم أنّه لا بدّ في اعتبار السيرة العقلائية من إثبات معاصرتها لزمان حضور المعصوم i.

طرق إثبات معاصرة السيرة لزمان حضور الشارع المقدّس.

ذكر السيّد الشهيد S(١٦) طرقاً خمسة لإثبات المعاصرة، ويمكن ضبطها بأن يقال: إنّ السيرة العقلائية مؤلّفة من ارتكازٍ عقلائي، وسلوك عامّ، ومورد لذاك السلوك، فإثبات المعاصرة (تارة) من جهة خصوصية الارتكاز، و(ثانية) من جهة خصوصيّة السلوك العامّ، و(ثالثة) من حيث خصوصية مجرى السلوك، و(رابعة) من جهة أمور خارجة عن مكوّنات السيرة ككونها حادثة تاريخية، وذلك من جهة إرادة إثبات أنّ السيرة المتحقّقة في زماننا معاصرة لزمانِ ما قبل (٢٦٠هـ)، وهي سنة استشهاد الإمام العسكريّ i ـ أي يبعد عنها على أفضل التقادير (١١٨٠) سنة ـ ومثل هكذا سيرة تمثّل حادثة تاريخية بالنسبة لنا، فإذا أردنا إثبات وجودها في ذاك الزمان فينبغي أن نذهب إلى ما ينقل لنا الحوادثَ التاريخية.

أمّا من جهة الارتكاز فلأجل كونه قريحة عقلائية مودعة في فطرة الإنسان، وهي موجودة عند كلّ إنسان ـ ومنه إنسان الفترة المعاصرة لحضور المعصوم ـ، وحيث إنّ هذا الارتكاز علّة لهذا السلوك فهذا يعني أنّ السلوك موجود مع هذه القريحة أينما وجدت.

وأمّا من جهة خصوصيّةنفس السلوك العامّ فلأجل أنّ تبدّل السلوك العامّ إلى آخر إن لم يكن ممتنعاً فهو صعب، وبعيد الحصول.

وأمّا من جهة خصوصية مورد السلوك فكما لو لم تكن السيرة منعقدة على هذا المورد لكان له بديل يشكّل ظاهرة مهمّة وخطرة لا تقتضي العادة أن تمرّ بدون تسجيل، وكما لو كان ما يقابل مورد السلوك ليس من الواضحات عند المتشرّعة، فلو لم تكن السيرة منعقدة على مورد السلوك هذا، بل على مقابله مع كونه مسألة ابتلائية لكثر السؤال والجواب، ووصل إلينا بعضها، ولمّا لم يكن كذلك فالسيرة منعقدة على مورد السلوك.

هذا مجمل هذه الطرق الخمسة وإليك تفصيلها:

الطريق الأوّل: إنّ السيرة المعاصرة لزمان حضور المعصوم تمثّل حادثة تاريخية، فيمكن الاطّلاع عليها من خلال ما ينقل لنا الحوادث التاريخية، وهي إمّا كتب التاريخ العامّ، أو المختصّة بنقل التاريخ السياسي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الثقافي للمسلمين، أو المختصّة بنقل تاريخ الأئمّة iونحو ذلك.

ويندرج تحت هذا الطريق ملاحظة الروايات الفقهية؛ فإنّها تعكس جوانب من الحياة الاجتماعية لعصر الرواة، فتكشف إثباتاً ونفياً عن الارتكاز والسيرة آنذاك.

وكذلك يندرج تحت هذا الطريق ملاحظة فتاوى العامّة خصوصاً في نطاق المعاملات باعتبارها منتزعة ـ أحياناً ـ من الوضع العامّ المرتكز عقلائياً آنذاك، فتكشف عن نوع التعامل الخارجي في زمان المعصومين i.

وهذه الأخيرة وإن كانت موارد جزئية لا ضابط لها إلّا أنّها تدخل في نواقل الحوادث التاريخية مطابقة، أو بالضمن، أو الالتزام.

الطريق الثاني: ما يمكن أن يستفاد ممّا تقدّم في ضبط هذه الطرق من أنّ السيرة العقلائية معلولة لقرائحهم الارتكازية، وهي ـ أي القريحة الارتكازية ـ واحدة وموجودة عند الكلّ ومنهم عقلاء عصر الأئمّة i، وعليه فإذا أحرزنا أنّ السيرة الموجودة في زماننا نابعة من قريحة العقلاء فلا بدّ أن تكون هذه السيرة موجودة في جميع الأزمنة، ومنها زمن النصّ تبعاً لعلّتها الموجودة عند كافّة العقلاء.

وهناك سبيلان لإحراز كون السيرة نابعة وناشئة من قريحة العقلاء:

السبيل الأوّل: استقراء حالة العقلاء في مجتمعات مختلفة الظروف والأزمنة، فإذا تطابقت في السلوك الخارجيّ مع اختلاف تمام الظروف فلا بدّ أن يكون هذا السلوك معلولاً للقريحة العقلائية.

السبيل الثاني: المراجعة التحليلية الوجدانية، بمعنى عرض المسألة على وجدان الشخص ومرتكزاته العقلائية، فإذا توفّرت الشروط الآتية قد نطمئن بأنّ ما وصلنا إليه نابع من قريحة العقلاء. 

وهذه الشروط هي:

١ ـ أن يرى الملاحظ أنّ وجدانه منساق إلى اتّخاذ موقف موافق للسيرة.

٢ ـ أنيجد أنّهذا الموقفواضح فيوجدانه، لاأنّه مجرّدميول أوإرهاص ونحوه.

٣ ـ أن يتأكّد أنّ هذا الموقف غير مرتبط بالظروف المتغيّرة من حال إلى حال ومن عاقل إلى عاقل.

ويلاحظ على هذا البيان:

أوّلاً: أنّ قريحة العقلاء ـ عادةً ـ تمثّل مقتضياً للسلوك الخارجي، وليست علّة تامّة، ومن ثَمّ تمثّل هذه الظروف المتغيّرة شرائط لها الدخالة في حصول السلوك الخارجي، فلا يكفي مجرّد الاشتراك في القريحة العقلائية للبناء على الاشتراك في السلوك الخارجي.

ونذكر مثالاً لدخالة الظروف المتغيّرة في تحقّق السلوك الخارجي، وهو ما يعبّر عنه بـ(الملكية الفكرية) كحقّ التأليف، فإنّه إلى ما قبل اختراع المطبعة لم يكن للعمل الفكري قيمة مالية في نظر العقلاء والمقنّنين، وإنّما القيمة المالية كانت للعمل المادّي، ولكن بعد ظهور المطابع ونحوها كان لها الدخالة في حصول سلوك خارجي وبناء عقلائي على قيمة العمل الفكريّ؛ لأنّه صار بحيث يترقّب منه الربح المادّي من خلال تكثيره وبيعه.

وثانياً: أنّ ما ذُكر في السبيل الأوّل يمثّل برهاناً إنيّاً يكشف لنا عن أصل وجود العلّة دون خصوصيتها من أنّها القريحة المشتركة أو ظرف مشترك أو ظروف مختلفة تكون بمثابة العلل المتعدّدة للسلوك الخارجي، كما في حال وجود الحرارة حيث يُحتمل أنّها معلولة للنار، ويُحتمل أنّها معلولة للشمس، ويُحتمل أنّها معلولة لتفاعل كيميائي.

وثالثاً: أنّ السبيل الثاني على الرغم من أنّه حالة وجدانية شخصية لا تصلح للتعليم المدرسي، فإنّه مبتلىً بمجموعة من الصعوبات يذكرها البعض في مباحث علم النفس(١٧).

الطريق الثالث: وحدّه الأوسط أنّ السيرة المنعقدة على شيء وإن لم يمتنع ـ عادة ـ تحوّلها إلى سلوك آخر ولكنّه صعب وبعيد جدّاً؛ وذلك لأنّ السيرة تمثّل سلوكاً اجتماعياً لنوع العقلاء، فليس حالها حال السلوك الشخصي الّذي يسهل فيه تحوّل الشخص من سلوك إلى آخر.

وعليه فإذا كانت السيرة العقلائية في زماننا منعقدة على شيء فإنّه على الأساس المتقدّم ينبغي لنا أن نبني على أنّها متحقّقة في عصر المعصومين i أيضاً، ووصلت إلينا يداً بيد، وإلّا لكان من انقلاب السيرة الممتنع عادة، ولو فُرض أنّه حصل تغيير لنقل إلينا؛ لأنّه يعدّ من الأمور الغريبة.

ويلاحظ عليه:

أوّلاً: أنّ التحوّل الفجائي للسيرة هو الممتنع عادة، وأمّا التحوّل التدريجي فلا مانع من حصوله، والتأمّل في المجتمعات قديماً وحديثاً شاهدٌ على مثل هكذا تحوّلات.

وثانياً: أنّ هذا الطريق لا يُحدّد مبدأ حصول السيرة، ولمّا كان حصولها تدريجياً ونتيجةً لتوفّر عواملها فلعلّه حصلت بعد زمان حضور المعصوم i، أو قلْ في زمان الغيبة، فلا يمكن إحراز معاصرتها لزمان المعصوم.

الطريق الرابع: أن يكون هناك سلوكٌ بديل للسلوك الذي يراد إثبات كونه عامّاً  للمعاصرين للأئمّة i، بحيث لا بدّ من كون السلوك والسيرة قائمة إمّا على ما نريد إثباته أو على البديل، ويعتبر في هذا البديل أن يكون ظاهرة اجتماعية فريدة ومهمّة عند الناس، فلو كان الثابت في زمان النصّ هذا البديل لسُجِّل وانعكس في الروايات، ووصل إلينا قسمٌ منها، فإذا بحثنا ولم نجد مثل ذلك فلا بدّ أن تكون السيرة منعقدة على ما نريد إثباته؛ لأنّ الأمر منحصر بينه وبين هذا البديل.

ومثاله من الأبحاث الأصولية دعوى انعقاد السيرة على الأخذ بظهور الكلام، فإنّه لو لم يكن هذا هو الطريق لِفهم كلام الشارع لكان هناك طريق بديل، وهو ـ أي هذا الطريق البديل ـ يشكّل ظاهرة اجتماعية فريدة، فلا بدّ أن تسجّل وتنقل إلينا ولو بعضها، ولمّا لم نجد مثل ذلك فنعلم أنّ السيرة منعقدة على فهم مراد الشارع من خلال ظهور كلامه.

الطريق الخامس: وهو من سنخ الطريق الرابع حيث يكون على أساس النظر إلى خصوصية مورد السيرة، وهنا نقول:

إنّ الأمر دائر بين السلوك الذي نريد إثباته وسلوك آخر، وهذا السلوك الآخر ينبغي أن يكون بنحو لو كانت السيرة منعقدة عليه لكثر السؤال والجواب، ووصل إلينا ولو بعضها، وهذا إنّما يحصل فيما لو كانت المسألة عامّة البلوى، وكان السلوك الآخر غير واضح عند المتشرّعة، وكان ممّا لا يقتضيه الطبع ونحوه من الدواعي المشجِّعة للسلوك، وعليه فلو كان السلوك الآخر هو القائم بين المتشرعة آنذاك لكثر بخصوصه السؤال والجواب، ولمّا كانت دواعي النقل موجودة، ومبرِّرات الإخفاء مفقودة، فلا مناص من وصول بعضها إلينا، وحيث لم يصل إلينا من ذلك شيء فهذا يعني أنّ السيرة غير منعقدة على هذا السلوك الآخر، بل على السلوك الذي نريد إثباته.

وبهذا تنتهي الطرق الخمسة التي أفادها السيّد الشهيد S.

وأقول: تقدّم أنّا اشترطنا في سيرة العقلاء جري المتشرّعة على وفق النكتة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية وبدرجة واسعة، والمفروض أنّ السيرة المتشرّعية هذه قد وصلت إلينا، فعلى تقدير أنّها معاصرة لزمان الحضور فإنّه يعني عدم الردع عنها، فلا يبقى إلّا إحراز أنّها معاصرة للنصّ، وأنّها لم تحصل بعد زمانه. ومادام المتشرّعة يجرون عليها في دائرة الأحكام الشرعية في زماننا فإنّه ينبغي الفحص عمّا يمكن أن يكون سبباً لحصولها بعد زمان الحضور، وهو أحد ثلاثة احتمالات لا غير:

الأوّل: الانسياق وراء النكتة العقلائية، بأن لم تكن الظروف مؤاتية في زمان الحضور للظهور على شكل سلوك عامّ، وحصلت تلك الظروف بعد ذلك. 

الثاني:  فتاوى الفقهاء المتأخّرين عن زمان الحضور.

الثالث: السلطة وفقهاؤها، فإنّ الإمكانيات الموجودة عندها تساهم في تكوين، بل تخلق ارتكازات وسيرة متشرّعية، وجوّاً عامّاً تجاه موقف معيّن.

وموقع الطرق الخمسة المتقدّمة هي هذه الاحتمالات الثلاثة، والأخير يضعف إذا قصرنا النظر على متشرّعة الإمامية الملتزمين بأخذ أحكامهم في زمان الحضور عن أئمّتهم i، وفي زمان الغيبة عن الفقهاء.

وأمّا الأوّل فإذا فتّشنا ولم نجد ما يمكن أن يكون ظرفاً مؤثّراً في حدوث السيرة وحصولها مؤخّراً فإنّ هذا الاحتمال يتضاءل.

ومثاله اختراع المطابع الذي أدّى إلى حدوث بناء عقلائي على قيمة العمل الفكري مادّياً، ولذا كانت مثل هذه السيرة مستحدثة وليست معاصرة لزمان حضور المعصوم i.

وأيّاً ما كان فالمهمّ أنّ الفحص والتفتيش إذا أدّى إلى تضاءل هذه الاحتمالات الثلاثة فإنّه قد يحصل الوثوق بالمعاصرة والحجّية للسيرة.

وبهذا ننهي الكلام في الشرط الثالث. 

الشرط الرابع: في لزوم امتداد السلوك العقلائي إلى دائرة الأحكام الشرعية أم كفاية كونه في معرض الامتداد. 

إنّ معظم ما يرتبط بهذا الشرط اتّضح فيما تقدّم من أبحاث الشرطين الأوّلين، ولعلّه ينبغي الإشارة إليها وترتيبها، وهنا آراء ثلاثة:  

الرأي الأوّل: ما جرى عليه السيّد الشهيد S، ونذكره في نقطتين: 

الأولى: أنّه S قسّم السيرة العقلائية بالمعنى الأعمّ بلحاظ الامتداد وعدمه إلى السيرة العقلائية بالمعنى الأخصّ، وهي ما لم يحصل فيها الامتداد بالفعل، ولكنّها في معرض الامتداد. وإلى السيرة المتشرّعية بالمعنى الأعمّ، وهي ما حصل فيها الامتداد بالفعل(١٨).

وينبغي أن يكون المقسم هو السيرة العقلائية بلحاظ الأحكام الظاهرية؛ لأنّ السيرة العقلائية بلحاظ الأحكام الواقعية دائماً هي ممتدّة على دائرة الأحكام الشرعية(١٩).

إذاً، اختلاف الموقف بحسب الامتداد إلى دائرة الأحكام الشرعية وعدمه إنّما يكون بلحاظ السيَر العقلائية الجارية في مرحلة الظاهر دونما إذا كانت في مرحلة الواقع.

الثانية: في حال عدم امتداد السيرة العقلائية الظاهرية ـ إن صحّ التعبير ـ إلى دائرة الأحكام الشرعية وإنّما  هي في معرض الامتداد فإنّنا نحتاج إلى الشرطية الأولى والثانية، أعني: لو لم يرضَ لردع، ولو ردع لوصل.

وأمّا في الامتداد ـ والتي اصطلح عليها S بـ(سيرة المتشرّعة بالمعنى الأعمّ) ـ فقد تقدّم الكلام في الحلقة الأولى من البحث أنّها عنده على نحوين(٢٠)

١ـ إنّ المتشرّعة إنّما جروا على وفق السيرة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية بعد استئذانهم من الشارع المقدّس، وهنا لا حاجة للشرطية القائلة (لو لم يرضَ لردع)، أي لا نحتاج في استكشاف الإمضاء والرضا من خلال عدم الردع؛ إذ نفس السلوك يكشف عن الإذن والرضا كشفاً إنيّاً، وموقف الشارع صريح في إجراء ما تقتضيه النكتة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية.

ومن الواضح أيضاً أنّه في هذا النحو لا نحتاج إلى الشرطية الثانية القائلة (لو ردع لوصل).

٢ـ إنّ المتشرّعة جروا على السيرة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية بلا استئذان من الشارع المقدّس، فهنا نحتاج إلى الشرطية الأولى (لو لم يرضَ لردع)، ولكن لا نحتاج إلى الشرطية الثانية (لو ردع لوصل)(٢١).

الرأي الثاني(٢٢): أنّ الامتداد الواسع لسيرة العقلاء إلى دائرة الأحكام الشرعية دخيل في تحقّق الملازمة في الشرطيتين(٢٣) ـ أي لو لم يرضَ لردع، ولو ردع لوصل ـ.

الرأي الثالث: ما هو المختار، وتوضيحه من خلال نقطتين:

١ـ أنّه لا بدّ من الامتداد الواسع لسيرة العقلاء إلى دائرة الأحكام الشرعية، ولا يكفي كونها في معرض الامتداد، وهذا ممّا يستدعيه تحقّق الملازمة في الشرطية الأولى، أعني (لو لم يرضَ لردع) كما مرّ في الحلقة الأولى(٢٤)، وكذلك لا بدّ من الامتداد الواسع كي تتحقّق الملازمة في الشرطية الثانية، أعني (لو ردع لوصل).

٢ـ رجّحنا أنّ الأصل اتّفاق عقلائية العقلاء مع عقلائية الشارع، وأنّ الأصل اتّفاق عقلائية الشارع مع مولويته، وبهذا يكون الأصل الملازمة بين عقلائية العقلاء ومولوية الشارع، ولكن لكلّ من الأصلين شرط: 

أمّا شرط الأصل الأوّل فهو أن نحرز أنّ السلوك أو الحكم العقلائي ناشئ من قريحة العقلاء وفطرتهم.

وأمّا شرط الأصل الثاني فهو أن نحرز امتداد السلوك بصورة واسعة إلى دائرة الأحكام الشرعية؛ لأنّه في هذه الحال نطمئنّ أنّه لو تعرّضت أغراض المولى للخطر لأعمل مولويته للحفاظ عليها كما مرّ في الحلقة الأولى(٢٥)، وفي هذه الحالة يكفي عدم إحراز الردع، ولا نحتاج إلى إحراز عدم الردع.

وبما ذكرناه يتّضح عدم تمامية ما أوردناه هناك(٢٦)؛ فإنّ الردع وعدمه من شؤون مولوية المولى، ولا محرز لإعمالها إلّا مع الامتداد الواسع.

وبهذا ننهي الكلام في الشرط الرابع.

وأمّا اعتبار الشرط الخامس والسادس ـ أعني إمكان الردع عقلاً وعرفاً، واحتمال الارتداع ـ فواضح؛ فإنّه مع امتناع الردع عقلاً أو عرفاً لا يكون كاشفاً عن إرادة الرضا والإمضاء، وهو يشابه في كثير من حيثياته مع ما ذكرناه في المقدّمة الثالثة من بحث الدلالة الإطلاقية.

 

الفصل الثالث

في مدلول السيرة العقلائية

ذكرنا في الحلقة الأولى أنّ لهذا الفصل جانبين:

الجانب الأوّل: في حدود المقدار الممضى من السيرة العقلائية، وهنا مراتب ثلاثة:

المرتبة الأولى: أن يكون بحدود السلوك الخارجي، وهو القدر المتيقّن.

المرتبة الثانية: أن يكون بحدود النكتة الارتكازية المتأطّرة ببعض حيثيات السلوك الخارجي.

المرتبة الثالثة: أن يكون بحدود النكتة الارتكازية بحدّها وتمامها، لا بحصّة منها.

ولنبيّن الفارق بين المرتبتين الثانية والثالثة من خلال مثال. 

فأقول: إنّهيُبحث في كتاب البيع عن المناشئ الأوّلية للملكية الاعتبارية، فيقال: إنّها عبارة عن الحيازة والعمل، وأنّ كلّ ما عداهما يتفرّع عليهما، وهذا ليس على أساس أنّه تأسيس من قبل الشارع، وإنّما هي أمور عقلائية أمضاها الشارع، فالعمل بحسب المرتكزات العقلائية يمثّل سبباً لملكية العامل لنتيجة عمله. 

ومثله في الحيازة أيضاً، فالعقلاء بقريحتهم يرون أنّ مَن حاز شيئاً يكون مالكاً له وأولى به من غيره، فكون الحيازة سبباً للملكية أيضاً نكتة ارتكازية وفطرة عقلائية.

هذا بالنسبة لأصل النكتة الارتكازية، وقد ذكرنا آنفاً أنّ المقدار الممضى قد يكون بحدودها، وهي المرتبة الثالثة، وقد يكون بحدود أوسع من السلوك الخارجي المعاصر لحضور المعصوم i، وأضيق من حدود النكتة الارتكازية وذلك فيما إذا تأطّرت ببعض حيثيات السلوك الخارجي، وهي المرتبة الثانية، فمثلاً في عصر حضور المعصومين i كان العمل يمثّل معالجة للأمور المادّية، وفي الأزمنة المتأخّرة وجدِت أعمال تمثّل معالجة فكرية لا مادّية ـ كالتأليف ـ، وقد قيل: (إنّ العلاجات المعنوية الفكرية لم يكن في زمان  المعصوم ارتكاز امتلاكها  من قبل مؤلّفيها أو مبدعيها، وكان السبب في عدم الارتكاز هو عدم الشعور بحاجة إلى اعتبار ملكية من هذا القبيل؛ إذ لم يكن مجال لاستغلال ذاك الأمر التجريدي المصنوع، إذ لا طباعة وقتئذٍ، وبسبب حصول الطباعة ونحوها حصل للعقلاء ارتكاز الملكية للأمر التجريدي المعنوي بصنعه وعلاجه، وفيما سبق لم يكن الارتكاز إلّا على مملّكية العلاج في الأمور المادّية)(٢٧).

ويمكن أن يقال مثل ذلك في الحيازة بأنّها كانت في عصر المعصومين iبالآلات اليدوية، وأمّا في هذه الأزمنة فالحيازة بالآلات الصناعية الحديثة، وسندات الملكية ونحوها، فتأطير العمل بوصف المادّية، والحيازة بعنوان الآلات اليدوية، يمثّل المرتبة الثانية(٢٨).  

ويمكن دعوى أنّ الراجح هو المرتبة الثالثة؛ وذلك لعدّة أمور:

الأوّل: إنّ الصحيح من الوجوه الخمسة المتقدّمة في الفصل الثاني(٢٩) هو الوجه الثالث، وهو مع الوجه الخامس يقتضيان المرتبة الثالثة، وأمّا باقي الوجوه فتناسب المرتبة الأولى؛ لأنّه بالعمل الخارجي ينقض الغرض، وهو الذي قد يكون منكراً وباطلاً، لا مجرّد الارتكاز المعاصر للمعصوم i.

الثاني: إنّ العنصر الأهمّ في السلوك الخارجي هو المقتضي له والعلّة والذي يتمثّل بالارتكاز؛ لأنّ الظروف الخارجية ليست إلّا متمّمة لتأثير المقتضي لأثره، فإذا أُمضي السلوك فهو في الحقيقة إمضاء لنكتته الارتكازية.

الثالث: إنّ المقارنة بين أنحاء الدليل اللفظي والسيرة العقلائية تفضي إلى ذلك، وتوضيحه: 

إنّ الدليل اللفظي الذي هو طرف المقارنة على نحوين:

أحدهما: فيما لو كان وارداً في قضيّة جزئية، أي قضيّة في واقعة.

ثانيهما: فيما لو كان وارداً في حال السؤال عن أمر يُستكشف من ورائه وجود ارتكاز عند السائل.

ففي النحو الأوّل يدلّ السكوت وترك الاستفصال على ثبوت الإطلاق، إمّا مطلقاً أو بلحاظ الحالات الشائعة آنذاك، مع أنّ هذه الحالات ليست من شؤون الحصّة المذكورة، ولكن يحتمل بدرجة معتدّ بها الوقوع فيها، فعدم التصدّي لبيان حكمها يكون إغراءً بالجهل(٣٠)، ولذا يثبت الإطلاق بلحاظها.

أمّا النحو الثاني فالسكوت والاقتصار على إجابة ما ورد في السؤال يدلّ على إمضاء ذاك الارتكاز الذي يجري عليه الأعلام في الموردين.

هذا كلّه بالنسبة إلى الدليل اللفظي.

أمّا بالنسبة إلى السيرة الناشئة من قريحة العقلاء وارتكازاتهم والتي تكون بمسمع ومرأى من الإمام i ففيها عناصر ثلاثة:

١ـ السلوك الخارجي.

٢ـ الارتكاز الذي يمثّل العلّة لذلك السلوك.

٣ـ سكوت الإمام i وعدم ردعه في هذه الحال.

والآن نأتي للمقارنة:

فالسلوك الخارجي بمثابة السؤال، فدوره دور السؤال؛ إذ يمثّل طلباً ومحفّزاً لاتّخاذ الموقف تجاهه على تقدير تعريضه أغراض المولى للخطر.

وأمّا الارتكاز الذي وراء السلوك فهو بمثابة الارتكاز في حال سؤال السائل، فالسؤال يكشف عن ذلك الارتكاز، وكذلك السلوك الخارجي يكشف عنه.

والأنحاء الأخرى من حصص الارتكاز والسلوك غير المعاصرة للمعصوم بمثابة الحالات الأخرى فيما لو كان الدليل قضيّة في واقعة؛ فإنّ الارتكاز الأوسع من السلوك الخارجي لمّا كان مقتضياً لأنحاءٍ أُخر من السلوك فيما إذا توفّرت الشرائط، فإنّه يحتمل الوقوع فيها، فينبغي بيان حكمها لئلّا يكون إغراءً بالجهل.

وعلى هذا ينبغي أن يكون سكوت الإمام i دالّاًَ على ارتضائه لذاك السلوك والارتكاز الذي وراءه بنفس ملاك دلالة السكوت في نحوي الدليل اللفظي المتقدّم.

وقد يحتمل ـ كوجه فارق بين الحالين ـ أنّ الاقتصار على استفادة الإمضاء من السكوت في السيرة إنّما هو لمكان دلالة الاقتضاء والخروج عن اللغوية، فاستفادة أكثر من ذلك يكون بلا مسوّغ، ومثل هذا الكلام لا مجال له في الأدلّة اللفظية لوجود البيان الدالّ على أصل الحكم الذي هو بمثابة الإمضاء، فيكون للسكوت دلالة أخرى، وهي الإطلاق للحالات الأخرى، وإمضاء الارتكاز الذي وراء السؤال(٣١).

وأيضاً قد يحتمل أنّ الفارق هو وجود أصل البيان، وكون المتكلّم في مقام البيان.

ولكن في كلا الفرقين نظر: 

أمّا الأوّل فإنّه قد يصحّ ما ذُكر لو لم يكن هناك دوالّ أخرى بالإضافة إلى دلالة الاقتضاء، بل هي تغني عنها، وهي الوجوه الخمسة المتقدّمة.

وأمّا الثاني فكون المتكلّم في مقام البيان أصل عقلائي عامّ، فلا مانع من ثبوته في مورد السيَر، وأمّا أصل وجود الكلام في الأدلّة اللفظية مع عدم وجوده في السيرة العقلائية فإنّه لا يؤثّر؛ إذ المهمّ هو الدالّ، ويتكفّل به السكوت وعدم الردع في هذه الحال.

فتحصّل أنّ القدر المتيقّن هو المرتبة الأولى، ولكن قد يحصل الوثوق في أنّ المقدار الممضى من السيرة هو المرتبة الثالثة، والله العالم.

الجانب الثانيمدلول السيرة من حيث التكليف أو الوضع.

إنّ مدلول السيرة يتحدّد (تارة) من خلال النظر إلى السلوك الخارجي للمتشرّعة، و(أخرى) من خلال النظر إلى ما وراء السلوك.

أمّا الأوّل ففيه صور ثلاث:

الصورة الأولى: أن يكون السلوك الخارجي خالٍ من أيّ داعٍ من الدواعي كالطبع، والأعراف، والعادات، ونحوها، وفي هذا الحال تدلّ السيرة المنعقدة على فعلٍ على جواز ذاك الفعل، وعدم حرمة الإتيان به.

ولمّا كان يبعد التزام الكلّ أو الأغلب بأمرٍ من دون داع ٍ للالتزام به فإنّ السيرة تدلّ على مطلوبية الفعل، ولكن هل تقف المطلوبية عند الاستحباب أم تصل إلى الوجوب؟

إذا تأمّلنا حال المتشرّعة في دائرة المستحبّات المحضة الخالية من الدواعي غير أمر الشرع ولم نجد التزام الأكثر ببعضها صحّ لنا القول بدلالة السيرة على الوجوب، ولكن الأمر ليس كذلك، إذ أقصى ما تدلّ عليه في تلك الحال هو الاستحباب في جانب الفعل، والكراهة في جانب الترك. 

هذا بالنسبة للحكم التكليفي.

وأمّا بالنسبة للحكم الوضعي ـ كما لو كان الفعل ممّا يترقّب منه أن يكون شرطاً أو جزءاً أو مانعاً ـ فالسيرة المنعقدة على فعل شيءٍ تدلّ على عدم كونه مانعاً، وهل تدلّ على جزئيته أو شرطيته من جهة التزام الكلّ أو الأكثر بالفعل من دون داع للالتزام به؟ 

الكلام فيه عين الكلام السابق.

الصورة الثانية: أن يكون السلوك مكتنفاً بدواعٍ مشجّعة على السلوك، والحديث في هذه الصورة عين الحديث المتقدّم في الصورة الأولى إلّا من جهة استفادة المطلوبية؛ فإنّ وجود الدواعي المشجّعة على الفعل تضعف دلالة السيرة على المطلوبية شرعاً.

 الصورة الثالثة: أنّ يكون السلوك مكتنفاً بدواعٍ منافية للسلوك، وأيضاً الكلام عين الكلام المتقدّم في الصورة الأولى. نعم، الدلالة على المطلوبية أقوى من الصورة الأولى، واستفادة الوجوب لا تكون مجازفة، ومثله في جانب الحكم الوضعي.

هذا كلّه في حال النظر إلى السلوك الخارجي وما يحفّ به.

وأمّا الثاني ـ النظر إلى ما وراء السلوك الخارجي ـ ففي بعض الموارد نستفيد من السيرة أكثر من الجواز المتقدّم في الصورة الثانية، فالسيرة المنعقدة على العمل بخبر الثقة ـ مثلاً ـ تدلّ على جواز العمل بمفاد الخبر، في حين أنّ العمل بمفاد الخبر واجب، وأنّه منجّز ومعذّر، فكيف استفدنا الوجوب من السيرة؟

 ومثله الكلام في الظهور، فالسيرة قائمة على كاشفية الظهور لمراد المتكلّم، ومن ثَمّ جواز العمل بهذه الكاشفية، والحال أنّه يجب الأخذ بهذه الكاشفية، وتكون منجّزة ومعذّرة.

وكذلك الأمر في السيرة الثابتة في مورد الحيازة، فهي إنّما تفيد جواز تصرّف الحائز بما يحوزه، فكيف استفدنا الملكية؟

نذكر تخريجين لذلك:

الأوّل: ما أفاده الشيخ المظفّر S بقوله: (والغرض أنّ السيرة بما هي سيرة لا يستكشف منها وجوب الفعل ولا استحبابه في سيرة الفعل، ولا يستكشف منها حرمة الفعل ولا كراهته في سيرة الترك. نعم، هناك بعض الأمور يكون لازم مشروعيتها وجوبها وإلّا لم تكن مشروعة؛ وذلك مثل الأمارة كخبر الواحد والظاهر، فإنّ السيرة على العمل بالأمارة لمّا دلّت على مشروعية العمل بها، فإنّ لازمها أن يكون واجباً؛ لأنّه لا يشرع العمل بها ولا يصلح إلّا إذا كانت حجّة منصوبة من قبل الشارع لتبليغ الأحكام واستكشافها، وإذا كانت حجّة وجب العمل بها قطعاً؛ لوجوب تحصيل الأحكام وتعلّمها، فينتج من ذلك أنّه لا يمكن فرض مشروعية العمل بالأمارة مع فرض عدم وجوبه)(٣٢).

ومحصّل كلامه S أنّ جواز الأخذ بالظهور أو بخبر الثقة يستلزم وجوب الأخذ بهما؛ وذلك لأنّ معنى جواز الأخذ أنّها حجّة منصوبة من قبل الشارع، وإذا كانت حجّة فيجب العمل بها.

ولا يخفى عدم وضوح الملازمة بين جواز الأخذ بظاهر الكلام وبين كونه حجّة عند الشارع بحيث يجب الأخذ بها. مضافاً إلى أنّ الكلام بصورة عامّة حتّى عند الموالي العرفية، وليس مختصّاً بالشارع.

الثاني: ما أفاده السيّد الشهيد S(٣٣) من أنّ الممضى ليس هو العمل الخارجي الصامت، وإنّما هي النكتة الارتكازية، ونعني بها المفهوم العقلائي المرتكز عن العمل، وبهذا المفهوم قد يثبت حكم تكليفي أو حكم وضعي.

فالنكتة الارتكازية العقلائية كما تفيد التوسعة في الجانب الأوّل كذلك تفيد خصوصيات مورد السيرة.

 

الفصل الرابع

حجّية السيرة العقلائية

وهي تحصل فيما لو ثبتت الأمور الستة المتقدّمة في الفصل الثاني بطريق معتبر في نظر الشارع:

أمّا بالنسبة للأمرين الأوّل والثاني ـ أعني صدور موقف من الشارع، واطّلاعنا عليه من خلال قضيّة: (لو ردع لظهر وبَان) ـ ففيه مناهج متعدّدة:

الأوّل: الفحص في مظانّه من الأخبار عمّا يمكن أن يكون رادعاً عن السيرة، فإذا حصل عندنا الاطمئنان أو القطع بعدم وجود رادع ٍ فهذا يعني أنّ الموقف الشرعي هو عدم الردع، ومن ثَمّ إمضاء السيرة؛ لما تقدّم في الشرطية الأولى.

 وهذا المنهج مبتنٍ على أنّ الإمضاء مقتضٍ للحجّية، ويندرج فيه رأي المحقّق العراقي، والسيّد الشهيد T، والسيّد الأستاذ A، مع فارق بينهم، وهو أنّ الأوّلين يشترطان عدم الامتداد إلى مجال الأحكام الشرعية، والأخير يشترط الامتداد بصورة واسعة.

الثاني: إنّه يكفي في الفحص عدم حصول القطع أو الاطمئنان بوجود دليل رادع، وهذا بالنسبة لمن يرى أنّ الإمضاء وعدمه في رتبة المانع لا مقتضٍ للحجّية.

الثالث: إنّه يكفي جري المتشرّعة في زماننا خصوصاً إذا كان بصورة واسعة على وفق السيرة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية، فإنّ هذا لا يجتمع مع الردع، ومن ثَمّ لا حاجة للفحص والبحث. نعم، لا بأس به للتأكيد.

وينبغي الالتفات إلى أنّ المراد بالمتشرّعة في السيرة العقلائية هو المتشرّعة بعينهم في سيرة المتشرّعة البحتة، وهم الملتزمون بأحكام الشريعة، لا مجرّد المتسمّين بالمسلمين أو الشيعة. 

وأمّا بالنسبة إلى الأمر الثالث ـ وهو معاصرة السيرة للشارع المقدّس ـ فلا بدّ من إحرازها بالقطع أو الاطمئنان بلا أيّ فرق. نعم، لو كان إثبات المعاصرة بالنقل التاريخي وقلنا إنّ حجّية خبر الثقة ليس من باب إفادته الاطمئنان، فإنّه يكفي في حجّية النقل أن يكون الناقل ثقة وإن لم يحصل الاطمئنان من نقله، ولا يخفى أنّه ينبغي إثبات حجّية الاطمئنان وخبر الثقة بغير السيرة حتّى لا يلزم الدور.

وهنا كلام في خصوص النقل التاريخي للمعاصرة بخبر الثقة، وهو أنّه مندرج تحت حجّية خبر الثقة في الموضوعات الخارجية أو لا؟

ولمّا كنّا نرى أنّ حجّية خبر الثقة في الأحكام والموضوعات الخارجية من باب إفادته الاطمئنان فلا حاجة للخوض في هذه التفاصيل.

وأمّا بالنسبة إلى الأمر الرابع ـ امتدادالسيرة إلى دائرة الأحكام الشرعية ـ فعلى القول بشرطيته في حجّية السيرة يكون إحرازه واضحاً من خلال إحراز جري المتشرّعة في زماننا على ذلك، وإحراز معاصرة السيرة لزمان حضور النصّ.

وقد تقدّمت بعض حيثيات الامتداد في الفصل الأوّل والثاني.

وأما بالنسبة إلى الأمر الخامس ـ إمكان الردع عقلاً وعرفاً ـ فهو حاصل قطعاً إزاء السيرة العامّة؛ فإنّه لا يحتمل أن تكون ظروف التقيّة موجودة باستمرار ولا ترتفع في أحيان كثيرة.

ومثله الأمر السادس ـ احتمال الارتداع عند الردع ـ فهو حاصل قطعاً؛ لأنّ الامتداد المفروض إنّما هو عند المتشرّعة الملتزمين بأحكام الشريعة.

 

الفصل الخامس

بيان الموقف والحدود فيما إذا وردت أدلّة متوافقة مع السيرة العقلائية

الأدلّة المتوافقة مع السيرة العقلائية (تارة) تكون سيرة المتشرّعة، و(أخرى) روايات خاصّة.

أمّا بالنسبة إلى سيرة المتشرّعة فينبغي أن يراد بها المتشرّعة الذين يجرون وفق النكتة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية، وليس سيرة المتشرّعة البحتة؛ لأنّها إنّما تكون في المسائل الشرعية البحتة، فلا يعقل اجتماعها مع السيرة العقلائية المستدعية لوجود نكتة عقلائية.

وهنا قولان:

القول الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق العراقي والسيّد الشهيد T في مبحث حجّية الظهور وحجّية خبر الواحد(٣٤) من أنّه عندنا دليلان وسيرتان.

وقد تقدّم الكلام على هذا القول أنّ السيرة العقلائية مأخوذة بشرط لا عن الامتداد بالفعل إلى دائرة الأحكام الشرعية، وإنّما تكون في معرض الامتداد، وأمّا إذا امتدت بالفعل فهي تختلف عن سيرة العقلاء في ملاك الحجّية، حيث تكون بمثابة سيرة المتشرّعة البحتة، فلا تكون بحاجة إلى الإمضاء، بل تكشف عن الموقف الشرعي كشف المعلول عن علّته، فلا يعقل فيها احتمال الردع، فمع أنّ السيرة عادةً وثبوتاً أمر وحداني ولكن لمكان أنّها في مرحلة حدوثها عقلائية وفي مرحلة امتدادها متشرّعية فإنّه يترتّب على ذلك إثباتاً أنّهما سيرتان ودليلان للاختلاف في ملاك الحجّية بين هذين المقطعين. نعم، على مستوى الحدود فبحدود السيرة العقلائية.

القول الثاني: ـ وهو الصحيح ـ أنّه ليس هناك في ما نحن فيه إلّا دليل واحد، وهو سيرة العقلاء، وأمّا جري المتشرّعة فهو: إمّا كاشف ابتداءً عن عدم وصول الردع، بل وصول عدم الردع؛ لأنّه لو كان ردعٌ لما وصلت إلينا السيرة المتشرّعية، وبذلك يكشف عن الإمضاء. وإمّا كاشف عن الإمضاء ابتداءً(٣٥).

وأمّا بالنسبة للروايات الخاصّة المتوافقة مع السيرة العقلائية فهناك ثلاثة وجوه، بل أقوال:

الأوّل: ما ذهب إليه غير واحد، منهم السيّد  الأستاذ A حيث أفاد(٣٦): أنّ الخطاب الشرعي متى ما ورد في مورد الحكم العقلي أو العقلائي فإنّه لا ينعقد له إطلاق بأوسع من دائرة ذلك الحكم وإن لم يكن في الخطاب ما يقتضي التضييق بحسب المدلول اللّغوي.

وطبّق A هذه الفكرة في موارد:

منها: أنّ الأدلّة اللّفظية لجواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم مطلقة لمِا إذا كان الفقيه مجتهداً في جميع المقدّمات التي يبتني عليها اجتهاده واستنباطه، ولما إذا كان يصدق عليه أنّه فقيهٌ وإن لم يكن مجتهداً في المقدّمات البعيدة؛ إذ من الواضح عدم توقّف صدق عنوان الفقيه على كونه مجتهداً في المقدّمات البعيدة أيضاً.

ولكن لمّا كانت سيرة العقلاء في زمان المعصومينi  منعقدة على رجوع الجاهل إلى العالم المعتمد على نفسه في جميع المقدّمات لم يصحّ الأخذ بإطلاق الأدلّة اللفظية، بل لا بدّ من تنزيل حدودها على حدود  السيرة العقلائية.

ومنها: ما أفاده A(٣٧) من أنّ حديث (رُفع ما لا يعلمون) وإن كان مطلقاً لمِا إذا كان التكليف غير المعلوم محرز الأهمّية، أو كان احتمال ثبوته قوّياً وإن لم يبلغ الاطمئنان إلّا أنّه لا يمكن الأخذ بهذا الإطلاق؛ لوجود حكم عقلي يرى الاحتياط في هذين الموردين وقبح العقاب في غيرهما من موارد احتمال التكليف، فيكون رفع ما لا يعلمون تأكيداً لحكم العقل هذا وبحدوده، فلا ينعقد له الإطلاق بأوسع من حدود حكم العقل.

الثاني: ما يمكن استظهاره من بعض  الأعلام  N(٣٨) من التفصيل بين الدليل اللفظي الظاهر في إمضاء السيرة العقلائية والدليل اللفظي الذي ليس له مثل هذا الظهور، فالأوّل يكون بحدود السيرة العقلائية دون الثاني.

والدليل اللفظي الظاهر في إمضاء السيرة العقلائية (تارة) يكون مدلوله أضيق من السيرة، و(أخرى) يكون أوسع منها.

فإذا كان أضيق من السيرة  العقلائية ومراداً للشارع لكان من اللازم الردع عن حدود السيرة التي هي أوسع من الدليل اللفظي، وإلّا سيكون عدم الردع تغريراً بالجهل؛ لأنّ المكلّف بحسب طبعه يجري وفق ارتكازاته. 

وأمّا إذا كان الدليل اللفظي أوسع من السيرة فلعلّ الوجه في كونه لا بدّ أن يكون بحدود السيرة  هو أنّ هذا مقتضى الإمضاء، وإلّا سيكون الدليل المطلق مع أنّه دليل واحد يدلّ على الإمضاء وعلى التشريع التأسيسي فيما وراء الإمضاء، وهو كما ترى.

الثالث: إنّ الدليل اللفظي شارح لحدود السيرة العقلائية المشكوكة لا أنّه ينزّل على القدر المتيقّن من السيرة.

والصحيح هو الوجه الأوّل؛ لأنّ السيرة العقلائية بما هي عقلائية مؤلّفة من جزئين: النكتة العقلائية الارتكازية، والسلوك الخارجي المعلول لها. 

وهذه النكتة العقلائية تكون بمثابة القرينة المتّصلة، وتصنّف على مناسبات الحكم والموضوع، ومن ثَمّ لا ينعقد للدليل اللفظي مدلول أوسع أو أضيق من هذا الارتكاز، ولا يشترط في ذلك أن يكون الدليل اللفظي وارداً مورد الإمضاء للسيرة؛ لأنّ الارتكاز والطبع العقلائي الراسخ ملابسة حاضرة في النفس، مؤثّرة في مقام فهم الأدلّة قهراً، فلو لم يكن ذلك مراداً للشارع لردع عن هذا الارتكاز، فإذا لم يردع لا يبعد أن يكون نفس هذا الدليل كاشفاً عن الإمضاء.

الفصل السادس

في المقارنة بين سيرة المتشرعة البحتة وسيرة العقلاء 

ونذكر أوّلاً ما يشتركان فيه، ثُمّ نذكر ما يختلفان فيه:

أمّا ما يشتركان فيه فهي ثلاثة أمور: 

الأوّل: أنّهما من الكواشف عن السنّة(٣٩)، وأنّ حجّيتهما من جهة انطباق الحجج العامّة عليهما ـ أعني القطع أو الاطمئنان ـ، فليس هما من الأمارات التي قام الدليل على حجّيتها بالخصوص. نعم، قد يكفي نقل خبر الثقة وإن لم يفد الاطمئنان فيما لو كانت بالنقل التاريخي كما تقدّم في إحدى طرق إثبات المعاصرة.

الثاني: يشتركان في اشتراط المعاصرة فيهما، وطرق المعاصرة المتقدّمة كلّها يمكن أن تجري في سيرة المتشرّعة البحتة ما عدا الطريق الثاني .

ووجه الحاجة إلى المعاصرة في السيرة العقلائية لأجل أنّ اعتبارها منوط بموقف من الشارع، وهو يستدعي المعاصرة، ومثله سيرة المتشرّعة، فهي معلولة للتلقّي من الشارع مباشرة؛ لأنّها في عرض الكواشف عن موقف الشارع لا في طولها.

الثالث: يشتركان أيضاً ـ على الصحيح ـ في لزوم جري المتشرّعة في دائرة الأحكام الشرعية. نعم، على رأي المحقّق العراقي والسيّد الشهيد T في أنّ السيرة العقلائية بشرط لا عن الامتداد ـ لكن بشرط أن تكون في معرض الامتداد ـ يكون هذا الجانب من موارد الاختلاف.

وأمّا ما يختلفان فيه فأمور ثلاثة أيضاً:

الأوّل: في طريقة الكشف عن موقف الشارع، فقد تقدّم أنّه لا بدّ من أمور ست في سيرة العقلاء، وأمّا كشف سيرة المتشرّعة فبأن يقال: المدّعى أنّ سيرة المتشرّعة وليدة لموقف الشارع ومعلولة له؛ لأنّ ما يمكن أن يكون سبباً لنشوء السيرة المتشرّعية البحتة، والسلوك العامّ من قبل المتشرّعة الملتزمين بأحكام الشريعة عدّة محتملات: 

  1. وجود نكتة عقلائية قد تكون هي وراء ذاك السلوك العامّ، وهذا المحتمل منتفٍ لفرض الكلام في مسألة شرعية بحتة ليس لها جذور عقلائية.
  2. إنّ هذا السلوك حصل غفلة(٤٠) من قبل المتشرّعة من دون أن يتلقّوا ذلك من الشارع، وهذا المحتمل بعيد جدّاً بحساب الاحتمالات؛ لأنّه يستدعي:

أوّلاً: الغفلة عن أصل الفحص والسؤال في أنّ هذا السلوك العامّ ناشئ من الشارع أو مرضيّ عنده، وهذه الغفلة وإن كانت معقولة من كلّ شخص شخص في حدّ نفسه، ولكن غفلة الجميع في قضيّة حسّية غير معقولة ومنتفية بحساب الاحتمالات.

وثانياً: تطابق الغفلات على نتيجة واحدة ـ وهو هذا السلوك ـ، وهذا منتفٍ بحساب الاحتمالات أيضاً.

  1. إنّ هذا السلوك العامّ حصل من فتاوى فقهاء الشيعة آنذاك، فلم يكن كاشفاً عن موقف الشارع في عرض فتاويهم، فإنّ  الإجماع والسيرة في عرض واحد.

وهذا المحتمل ضعيف؛ لأنّه وإن أمكن حصول ارتكاز وسيرة متشرّعية من فتاوى فقهاء الإمامية إلّا أنّه لا يكون مع حضور الأئمّة iبحيث يكون تأثيرهم بمعزل عن تأثير الأئمّة i.

  1.  أن يكون هذا السلوك المتشرّعي العامّ بتأثيرٍ من العامّة سلطةً وفقهاءً، فالإمكانيات الموجودة عندهم تخلق ارتكازات، وسير متشرّعية، وجوّاً عامّاً تجاه موقفٍ معيّن.

وهذا المحتمل مندفع من جهة أنّ المراد بالمتشرّعة هم الإمامية الملتزمون بأخذ أحكامهم من الأئمّة i، وعلى هذا من البعيد جدّاً أن لا يسألوا الأئمّة i عن هذا السلوك العامّ من أنّه مرضيّ عندهم أو مردوع عنه.

  1.  فلا يبقى إلّا أن يكون هذا السلوك متلقىً من الشارع، أو كان أصله من العامّة ولكنّه ممضى من قبل الأئمة i، وإلّا لما وصلنا السلوك العامّ هذا.

الثاني: تختلف سيرة العقلاء عن سيرة المتشرّعة البحتة في أنّ الحكم الثابت بسيرة العقلاء من الأحكام الإمضائية لما عند العقلاء، وأمّا الحكم الثابت بسير ة المتشرّعة فهو من الأحكام التأسيسية. نعم، قد يكون متلقىً من الشارع مباشرة، أو أنّه إمضاء لسيرة المتشرّعة العامّة.

الثالث: إنّ الكاشف في سيرة العقلاء هو جري العقلاء في أمورهم غير الشرعية لكن في معرض الامتداد إلى مجال الأحكام الشرعية، فتختلف عن سيرة المتشرّعة من أنّه جري للمتشرّعة وفي دائرة الأمور الشرعية.

وأمّا إذا قلنا إنّ سيرة العقلاء لا بدّ فيها من الامتداد فيكون الجري للعقلاء بما هم عقلاء في دائرة الأحكام الشرعية، وللمتشرّعة بما هم متشرّعة في دائرة الأحكام الشرعية، فالاختلاف في منشأ السلوك في مجال الأحكام الشرعية.

 

خاتمة

في السيرة العقلائية المتعرّضة لموضوع الحكم أو متعلّقه ونحوهما

إنّ هذه السيرة لا تثبت حكماً شرعياً ولا تنفيه مباشرة كما كانت السيرة التي هي موضوع الفصول المتقدّمة، وإنّما تتعرّض لأجزاء المادّة القانونية الأخرى من موضوع الحكم ومتعلّقه ذاتاً ووصفاً، وقد تتعرّض لغيرهما كملاك الحكم، ويتبع ذلك طبعاً ثبوت الحكم أو نفيه.

وتنفع هذه السيرة في المسائل المستحدثة، وتمثّل إحدى أشكال التغيّر فيما يعرف بالمتغيّر والثابت في أحكام الشريعة، وكذلك إحدى أشكال تأثير الزمان والمكان والأعراف ونحوها في الأحكام الشرعية كما سيتّضح ذلك.

ونوقع الكلام في جهتين:

الجهة الأولى: في بعض تقسيمات هذه  السيرة.

التقسيم الأول: ما أفاده السيّد  الشهيد S(٤١) من انقسام السيرة هذه إلى ما تكون بلحاظ مرحلة الثبوت، وإلى ما تكون بلحاظ مرحلة الكشف والإثبات.

 أمّا القسم الأول فتكون السيرة العقلائية فيه منشئة ومكوّنة لفرد حقيقي لموضوع الحكم أو متعلّقه، كما لو ورد من المولى: (عظّم العالم)، وخلقَ السلوكُ الاجتماعي العقلائي أشكالاً من التعظيم لم تكن موجودة في زمان صدور النصّ، أو أنواعاً من العلم والعالم، فإنّ إطلاق هذا الخطاب يشمل هذه الأنحاء من التعظيم وتلك الأفراد من العالم.

ومن أمثلة هذا القسم قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾(٤٢)، وقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(٤٣)، فالمعروف يراد به ما هو الشائع والمستساغ عند العرف، فإذا اقتضت السيرة والتعارف بحسب الأوضاع الفكرية والاقتصادية والاجتماعية أن يكون المعروف مختلفاً عمّا كان عليه في زمان النصّ بأن أصبحت فيه ـ مثلاً ـ عناصر جديدة كالسفر للسياحة والترفيه أو نحو خاصّ من السكن والملبس والطعام، فإنّه يكون واجباً ومشمولاً لإطلاق الآيتين الكريمتين، ولا تكفي المراتب التي كانت كافية في زمان صدورهما، وهذا ـ كما هو واضح ـ تدخّل من السيرة في تكوين موضوع الحكم ثبوتاً توسعةً أو تضييقاً.

ومن هنا يتّضح موضع تأثير الزمان والمكان وما فيهما من الأعراف والعادات، ومن ثَمّ التغيّر في الأحكام، فإنّ التأثير والتغيّر إنّما هو أصلاً في دائرة موضوع الحكم أو متعلّقه، وبتبعه يتغيّر الحكم.

وأمّا القسم الثاني فتكون السيرة فيه منقّحة للموضوع والمتعلّق إثباتاً بأن تكشف عن وجوده، لا أنّها مكوّنة له ثبوتاً.

ومن أمثلة هذا القسم البناء على ثبوت الشروط الضمنية والارتكازية وإن لم يُصرّح بها، كثبوت خيار الغبن في بعض الموارد، فإنّه ـ كما يبحث في محلّه ـ يرجع إلى خيار تخلّف الشرط، وبعض الشروط صريحة وبعضها ضمنية وارتكازية، والأخيرة هذه قد يكون الكاشف عن وجودها سيرة العقلاء، ولمّا كان ظاهر حال كلّ إنسان أنّه يتحرّك ويتّبع العقلاء ومقاصدهم، فهذا يعني أنّه يشترط تلك الشروط، وبحسب قضيّة (المؤمنون عند شروطهم) إذا تخلّف أيّ منها يكون له حقّ فسخ المعاوضة، وعدم تنفيذها .

ويمكن أن يُخرّج على هذا القسم قضيّة حقوق الطبع، فإنّه في هذه الأزمنة يدّعى انعقاد مثل هكذا سيرة، فالمؤلّفون والناشرون بحسب ظاهر حالهم ـ بل تصريحهم من خلال العبارة التي تكتب على ظهر مطبوعاتهم (حقوق الطبع محفوظة للمؤلف والناشر) ـ أنّهم يشترطون ذلك فبحسب (المؤمنون عند شروطهم) يثبت لهم خيار الفسخ، وتفصيله في محلّه.

 ويفترق هذان القسمان في أنّه في الثاني إذا خالف الشخص هذه السيرة ـ بأن رضي بمثل هكذا معاوضة مع تخلّف الشرط فيها ـ فإنّه يرتفع ما ترتّب على السيرة؛ لأنّ دور السيرة كان مجرّد الكشف عن قصده  وشرطه، وقد تنازل عنه، فلا يثبت ما ترتب على السيرة، وهذا بخلاف القسم الأوّل فإنّه حتّى لو خالف يبقى الحكم ثابتاً في حقّه؛ لأنّ انعقاد سيرة العقلاء من دونه قد أوجد فرداً حقيقياً من الموضوع، ومخالفته لا تمنع من كونه من أفراد الموضوع، وهذا الفرق يؤثّر في كيفية استنباط الحكم الشرعي؛ إذ في القسم الأوّل لا بدّ من البناء على ثبوت الحكم على ذاك الفرد الجديد، وأمّا في القسم الثاني فيثبت الحكم عند عدم التنازل، ويرتفع عند التنازل عن الشرط.

التقسيم الثاني: انقسام السيرة إلى ما تكون محدثة لفردٍ جديد، وإلى ما تكون محدثة أو نافية لوصفٍ جديد، والأوّل كبعض أمثلة قسمي التقسيم الأوّل، والثاني كوصف الانتفاع العقلائي المحلّل بالنسبة للدم، ففي زمان حضور المعصوم i كان الانتفاع منه في مثل الأكل والشرب، والدم نجساً  كان أو طاهراً لا يجوز شربه أو أكله، فليس فيه منفعة عقلائية محلّلة، فلا يجوز بيعه أو شراؤه. 

وأمّا في هذه الأزمنة فحيث يستفاد منه في غير الأكل والشرب، وأنشئت بنوك لذلك، فأصبحت له منفعة محلّلة، فجاز بيعه وشراؤه، فمع أنّه وجود واحد ولكن اختلف وصفه وعنوانه، فاختلف حكمه تبعاً لذلك.

ولكي يزول الحكم ـ في هذا القسم الثاني ـ بتتبع زوال الوصف المنوط به الحكم الثابت في موضوعه ـ أي موضوع الحكم ـ ويثبت محلّه حكم آخر لا بدّ أن تكون موضوعية الموضوع مأخوذة حدوثاً وبقاءً، وإلّا لو كانت حدوثاً فقط لم يحصل التبدّل في الحكم.

الجهة الثانية: في حجّية هذه السيرة.

إنّ حجّية هذه السيرة غير متوقّفة على الأمور الستة المتقدّمة في الفصل الثاني، والمعتبرة في حجّية السيرة العقلائية الحكمية ـ إذا جاز التعبير ـ؛ وذلك لأنّ الأحكام الشرعية مجعولة على سبيل القضايا الحقيقية التي يُؤخذ فيها الموضوع مقدّر الوجود، فيعمّ الأفراد الحاصلة بالفعل في زمان صدور القضيّة التشريعية، والأفراد التي ستحصل في المستقبل.

وكون القضيّة التشريعية على سبيل القضيّة الحقيقية ممّا يستدعيه التشريع، فهي من القضايا التي قياساتها معها؛ لأنّ القضيّة الخارجية لا تصلح لتشريع القوانين الكلّية؛ لمكان كونها  قضيّة شخصية في نهاية المطاف.

والقضيّة الحقيقية موضوعها المفهوم الكلّي والوصف العنواني، وله علاقتان:

إحداهما: بالحكم المحمول عليه. 

والأخرى: بأفراده .

أمّا علاقة الموضوع بالحكم فإنّ الحكم يترتّب على الموضوع ترتّب المعلول على علّته، وهذا في مرحلة الفعلية لا الإنشاء، وقد تقدّم أنّه يكفي في هذا الترتّب أحياناً حدوث الموضوع، وأحياناً أخرى لا بدّ منه حدوثا ً وبقاءً .

وأمّا علاقة موضوع الحكم بأفراده فهي علاقة تكوينية، ويكون انطباق الموضوع على فرده الخارجي قهرياً، وبتبعه يثبت الحكم لذاك الفرد أو ينتفي بانتفائه(٤٤).

ومنه يتّضح أنّه لا حاجة لأيّ من الأمور الستة لإثبات حجّية هذا النوع من السيرة.

نعم، يُعتبر في هذه الحجّية أمور ثلاثة:

الأوّل: الالتفات إلى نحو أخذ العنوان في موضوع الحكم هل أنّه أُخذ حدوثاً وبقاءً، أم حدوثاً فقط.

الثاني: أن لا يكون الموضوع والمتعلّق من الأمور التوقيفية، وإنّما من الأمور العرفية.

الثالث: إثبات أنّ الإطلاق والعموم ونحوهما يشمل الأفراد المستحدثة، ولا يكون مقصوراً على الأفراد الموجودة في زمان النصّ، وهذا يكفي فيه كون القضيّة التشريعية على سبيل القضيّة الحقيقية.

ويمكن أن تُذكر بعض الوجوه لإثبات المحدودية المذكورة: 

منها: اختصاص الخطاب بمن قصد إفهامه كما يُذكر في بحث حجّية الظهور.

ومنها: الانصراف إلى الأفراد المتعارفة في زمان النصّ.

ومنها: كون هذه الأفراد هي القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

ومنها: أنّ الإطلاق والعموم يتوقّف على تصوّر القيود، سواء قلنا إنّهما جمع القيود أو رفضها، والقيود التي لا عين لها ولا أثر في زمان النصّ لا يمكن تصوّرها في الوضع الطبيعي، وقد يرجع هذا الأمر إلى واحدة من مقدّمات الدلالة الإطلاقية، وهي إمكان الإطلاق والتقييد عقلاً وعرفاً، فيشكّك في حصوله في مثل هذه الموارد. 

وجميعها غير تامّة كما هو موضّح في محلّه.

 

أبرز النتائج التي انتهينا إليها في هذا البحث

١ـ يعتبر في السيرة العقلائية التي يراد من خلالها إثبات حكم شرعي أو نفيه أن نحرز للشارع موقفاً تجاه السيرة ولو من جهة الأصلين، أعني: اتّفاق عقلائية العقلاء مع عقلائية الشارع. واتّفاق عقلائية الشارع مع مولويته. 

وكذلك أن نحرز الامتداد الواسع إلى دائرة الأحكام الشرعية في زمان حضور الإمام i، ولا يكفي أن تكون في معرض الامتداد، ومن هنا لا يصحّ ما صنعه السيّد الشهيد S من تعدّد السيرة إلى عقلائية ومتشرّعية ـ أي بالمعنى الأخصّ ـ، كما استدلّ بهما على حجّية الظهور وحجّية خبر الثقة.

٢ـ إنّ الأصلين المتقدّمين يفضيان إلى ثبوت الملازمة بين حكم العقل والعقلاء وبين حكم الشارع المقدّس.

نعم، هذه الملازمة اقتضائية تعليقية، وليست تنجيزية، والأصل الأوّل مشروط بأن يكون حكم العقل والعقلاء نابعاً من قريحتهم وفطرتهم الخالصة، والأصل الثاني ـ بمعنى إعمال المولى لمولويته، وإلّا فالتطابق بين عقلائية المولى ومولويته غير مشروطة بشرط بل هي مطلقة ـ مشروط بأن يجري المتشرّعة في زمان الحضور بصورة واسعة على ما تقتضيه القريحة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية.

وبهذين الأصلين يمكن دعوى إحراز عدم الردع على الرغم من كفاية عدم إحراز الردع، فليتدبّر.

٣ـ إنّ المنهج الذي يتّبعه المشرّع الإسلامي في مقام تشريعاته يتوافق مع عقلائية البشر الخالصة النابعة من قرائحهم التي أودعها الله فيهم، ولكن هذا لا يعني التطابق التامّ، بل للشارع أغراضه الخاصّة التي لا تدركها عقول البشر لقصورها، أو لاكتنافها بما يشوبها من الأفكار والعواطف.

٤ـ إنّ المقدار الممضى هو النكتة الارتكازية بتمامها، وهو يناسب كون الأصل هو الاتّفاق في العقلائية، وكذلك يناسب أنّ المنهج الذي يسلكه الشارع المقدّس في مقام جعله للأحكام يتوافق مع عقلائية البشر الخالصة النابعة من قرائحهم وفطرتهم، فهذه حلقات ثلاث لمنظومة واحدة. 

والحمد كلّ الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله المصطفى وآله الطيّبين الطاهرين، وأكمل بلطفه عقولنا، وعصمها ممّا يشوبها.

 

 

 

المصادر

القرآن الكريم.

  1. الاجتهاد والتقليد، السيّد محمّد سعيد الحكيم F، الناشر: مؤسّسة الحكمة للثقافة الإسلامية، ط٢، ١٤٢٨هـ -٢٠٠٧ م. 
  2. الأصول العامّة للفقه المقارن، السيّد محمّد تقيّ الحكيم S، الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت i، ط٢، ١٤٢٧هـ. 
  3. أصول الفقه، العلّامة الشيخ محمّد رضا المظفّر S، تحقيق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري، الناشر: مؤسّسة بستان كتاب، ط١٢، ١٤٣٤هـ.
  4. اقتصادنا، السيّد محمّد باقر الصدر  S(ت١٤٠٠هـ)، الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر، ط٢، مطبعة شريعت ـ قمّ، ١٤٣١هـ.
  5. بحوث فقهية، السيّد محمّد رضا السيستاني (دامت افاداته) ، الناشر: دار المؤرّخ العربي، ط ١، ١٤٢٧هـ- ٢٠٠٧م.
  6. بحوث في شرح العروة الوثقى، السيّد محمّد باقر الصدر S (ت١٤٠٠هـ)، الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر S، ط٢، ١٤٢٩هـ.
  7. بحوث في شرح مناسك الحجّ، السيّد محمّد رضا السيستاني (دامت افاداته)، بقلم الشيخ أمجد رياض والشيخ نزار يوسف، نسخة أوّلية محدودة التداول ١٤٣٥ هـ.
  8. بحوث في علم الأصول، السيّد محمّد باقر الصدر S (ت١٤٠٠هـ)، بقلم السيّد محمود الهاشمي، الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية، المطبعة: فرور دين، ط٢، ١٤١٧هـ.
  9. التنقيح في شرح العروق الوثقى (ضمن موسوعة الإمام الخوئي S)، السيّد أبو القاسم الخوئي S (ت ١٤١٣هـ)، بقلم الشيخ عليّ الغروي، مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، ١٤١٨ ـ ١٩٩٨، شركة التوحيد للنشر.
  10. تهذيب الأصول، السيّد روح الله الخميني S (ت١٤١٠هـ)، بقلم الشيخ جعفر السبحاني، النّاشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المقدّسة، ١٤٠٥هـ.
  11. دروس في علم الأصول (الحلقة الأولى والثانية)، تأليف السيّد محمّد باقر الصدر S (ت١٤٠٠هـ)، الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر، ط٦، مطبعة شريعت ـ قمّ المقدّسة، ١٤٣١ هـ.
  12. الذريعة إلى أصول الشريعة، السيّد أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي (الشريف المرتضى) S (ت٤٣٦هـ)، تصحيح وتعليق: الشيخ أبو القاسم كرجي، المطبعة: دانشگاه ـ طهران، ١٣٤٦ش.
  13. الرافد في علم الأصول، محاضرات السيّد عليّ الحسيني السيستاني F، بقلم السيّد منير السيّد عدنان الخبّاز، الناشر: مكتب السيّد السيستاني، المطبعة: مهر ـ قمّ، ط١، ١٤١٤هـ.
  14. الرسائل الأصوليّة، الشيخ محمّد باقر البهبهاني S (ت ١٢٠٥هـ)، تحقيق ونشر مؤسّسة العلّامة المجدّد الوحيد البهبهاني، المطبعة أمير، ط١، ١٤١٦هـ.
  15. العدّة في أصول الفقه، شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي S (ت٤٦٠هـ)، تحقيق: الشيخ محمّد رضا الأنصاري القمّي، المطبعة: ستاره ـ قمّ، ط١، ١٤١٧هـ.
  16. العلم الإجمالي حقيقته ومنجّزيته عقلاً، السيّد محمّد باقر السيستاني (دامت افاداته)، طبعة أوّلية محدودة التداول.
  17. علم النفس، جميل صليبا، الناشر: دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت، ط٢، ١٩٨٤م.
  18. فقه الشيعة، السيّد أبو القاسم الخوئي S (ت١٤١٣هـ)، بقلم السيّد محمّد مهدي الموسوي الخلخالي، ط٣، ١٤١٨هـ ـ ١٩٩٧م.
  19. فقه العقود، السيّد كاظم الحائري F، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي، ط٢، ١٤٢٣هـ.
  20. فوائد الأصول، الميرزا محمّد حسين النائيني S (ت١٣٥٥هـ)، بقلم الشيخ محمّد عليّ  الكاظمي مع تعليقات المحقّق العراقي S، طبع ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين قمّ المقدّسة، ١٤٠٤ هـ.
  21. قبسات من علم الرجال، أبحاث السيّد محمّد رضا السيستاني (دامت افاداته)، جمعها ونظمها السيّد محمّد البكاء، ط١ محدودة التداول، ١٤٣٦هـ.
  22. الكافي في أصول الفقه، السيّد محمّد سعيد الحكيم F، الناشر: المؤسّسة الدولية للدراسات والنشر، ط٣.
  23. كفاية الأصول، الشيخ محمّد كاظم الخراساني الآخوند S (ت١٣٢٩هـ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت i لإحياء التراث، المطبعة: مهر ـ قمّ، ط١، ١٤٠٩هـ.
  24. مباحث الأصول، السيّد محمّد باقر الصدر S (ت١٤٠٠هـ)، بقلم السيّد كاظم الحائري، الناشر: دار البشير، المطبعة: شريعت ـ قمّ، ط٢، ١٤٢٥ هـ.
  25. مباني الأصول، السيّد محمّد باقر السيستاني (دامت افاداته)، بقلم الشيخ أمجد رياض والشيخ نزار يوسف، ط١، نسخة أوّلية محدودة التداول.
  26. مجلّة دراسات علميّة العدد ١٦، مجلّة نصف سنويّة تصدر عن المدرسة العلمية (الآخوند الصغرى) في النجف الأشرف، ط١.
  27. مجلّة دراسات علميّة العدد ٥، مجلّة نصف سنويّة تصدر عن المدرسة العلمية (الآخوند الصغرى) في النجف الأشرف، ط١.
  28. المحكم في أصول الفقه، السيّد محمّد سعيد الحكيم F، الناشر: مؤسّسة المنار، ط٢، ١٤١٨هـ - ١٩٩٧م.
  29. مقالات الأصول، الشيخ آقا ضياء الدين العراقي S (ت١٣٦١هـ)، تحقيق: الشيخ مجتبى المحمودي ـ السيّد منذر الحكيم، المطبعة: شريعت ـ قمّ.
  30. منتقى الأصول، السيّد محمّد الروحاني S (ت١٤١٨هـ)، بقلم السيّد عبد الصاحب الحكيم S، المطبعة: الهادي، ط٢، ١٤١٦ هـ.
  31. نهاية الأفكار، الشيخ آقا ضياء الدين العراقي S (ت١٣٦١هـ)، بقلم الشيخ محمّد تقيّ البروجردي، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين قمّ المقدّسة، ط٤، ١٤٢٢هـ.
  32. نهاية الدراية، تأليف الشيخ محمّد حسين الأصفهاني S (ت١٣٦١هـ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت i لإحياء التراث، ط١، ١٤١٨هـ ـ ١٩٩٨م.
  33. نهج البلاغة، نشر دار التعارف للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، ١٤٣٢هـ.

 

 


(١) يلاحظ: بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٣٧.

(٢) والمنبّه على عدم التسليم هو أنّ هذا التقدّم والنضج المدّعى أضاف حقوقاً منافية للفطرة والعقل، ولما هو من ضروريات الدين أو الفقه، فكثير ممّا ادّعوه ليس ممّا تقتضيه قريحة العقلاء، وإنّما هي مجرّد توهمّات استدعتها أُسس فكرية غير صحيحة، كالإيمان بحرّية الفرد المطلقة، أو إلغائها إلى درجة كبيرة جدّاً. 

(٣) يلاحظ: دروس في علم الأصول الحلقة الأولى والثانية: ٢٧١.

(٤) يلاحظ: الذريعة إلى أُصول الشريعة: ٤٢٠ و٤٣١، العدّة في أُصول الفقه: ٢/ ٦٠٢.

(٥) ومن هنا يمكن أن يضاف إلى الوجوه الخمسة ـ التي ذكرناها في الحلقة السابقة ـ ما يلي: 

أنّ ما يدفع الإمام i لإبداء موقف تجاه السيرة لو لم تكن مرضيّة عنده هو أنّ ذلك من صغريات قاعدة اللّطف كما في العدّة (٢/ ٦٣٠ و٦٤٢)، كما يمكن الاستدلال له  بما ذكره الوحيد البهبهاني S في الرسائل الأُصولية (٢٩٩) من أنّ الأخبار المتواترة دلّت على أنّ الزمان لا يخلو من حجّة يردّ ما زاده المؤمنون، ويتمّ ما أنقصوه، ولولا ذلك لاختلطت على الناس أمورهم.

والإجابة على هذين الوجهين ذكرها الأعلام في بحث الإجماع. يلاحظ على سبيل المثال: بحوث في علم الأصول: ٤/ ٣٠٧.

(٦) يلاحظ: مجلّة دراسات علمية العدد ١٦: ١٦٨ـ ١٧٤.

(٧) تهذيب الأصول: ٢/ ٥٤٦.

(٨) يلاحظ: مباحث الأصول: ق٢ج٢/ ١٢٨.

(٩) لا يقال: كيف يردع عن سيرة راسخة بالعمومات والمطلقات؟ 

فإنّه تقدّم أنّ هناك فرقاً بين السيرة القائمة فعلاً، والسيرة التي لم تنعقد بعدُ؛  إذ إنّها في هذه الحال لم تكن راسخة وعامّة، فيمكن الردع عنها بالمطلقات.

(١٠) قبسات من علم الرجال: ١/ ١٧ ـ ١٨.

(١١) يلاحظ: تهذيب الأصول: ٢/ ٥٤٦.

(١٢) فوائد الأصول: ٣/ ٩١، ١٩٥.

(١٣) فوائد الأصول: ٣/ ١٣٥.

(١٤) يلاحظ: مباحث الأصول: ق٢ج٢/ ١٢٨، ٤٩٠، ٥٨٤.

(١٥) يلاحظ: بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٣٧.

(١٦) يلاحظ: مباحث الأصول: ق٢ج٢/ ١٠١ ـ ١١٧، بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٣٨ ـ ٢٤١، دروس في علم الأصول الحلقة الأولى والثانية: ٢٨٣ ـ ٢٨٦. 

(١٧) يلاحظ: علم النفس (جميل صليبا): ١١٧ وما بعدها.

(١٨)يلاحظ: مجلّة دراسات علمية العدد ١٦: ١٥٣ـ ١٥٤، و١٥٧.

(١٩) يلاحظ: المصدر السابق: ١٥٨.

(٢٠) يلاحظ: المصدر السابق: ١٧٨ـ ١٧٩.

(٢١) يلاحظ: المصدر السابق: ١٧٩.

(٢٢) يلاحظ: بحوث في شرح مناسك الحجّ: ٨/ ٨٣.

(٢٣)يلاحظ: مجلّة دراسات علمية العدد ١٦: ١٨٠. 

(٢٤) يلاحظ: المصدر السابق: ١٦٦ و١٨١.

(٢٥) يلاحظ: المصدر السابق: ١٦٦ـ ١٧٧.

(٢٦) يلاحظ: المصدر السابق: ١٦١ـ ١٦٢.

(٢٧) يلاحظ: فقه العقود: ١/ ١٦١ـ ١٦٢.

(٢٨) في مثل هذا الحال قد يقع خلاف في أنّ هذا يرجع إلى وحدة النكتة الارتكازية وتعدّد أفرادها، أم يرجع إلى تعدّد نفس النكتة الارتكازية، وقد فرضنا في المقام أنّه لا يرجع إلى تعدّد النكتة الارتكازية، فمملّكية العمل لنتيجة عمله لا تتعدّد كنكتة ارتكازية باختلاف متعلّق العمل من أنّه مادّي أو معنوي.

(٢٩) يلاحظ: مجلّة دراسات علمية العدد ١٦: ١٧٥.

(٣٠) هذا بقطع النظر عن بعض الوجوه الخمسة المتقدّمة، فإنّها يمكن أن تأتي في المقام. 

(٣١) هذا التحليل للتوضيح؛ فإنّ الإطلاق يتوّقف على عدّة أمور، لا مجرّد السكوت. نعم، منها السكوت وعدم التقييد، أو عدم ذكر الحالات الأخرى، يلاحظ: مجلّة دراسات علميّة: العدد ٥.

 (٣٢) أصول الفقه :  ٥١٨.

(٣٣) يلاحظ: بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٤٦، دروس في علم الأصول (الحلقة الأولى والثانية): ٢٧٠

 (٣٤) يلاحظ: بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٥٠ وما بعدها،  و٣٩٥ وما بعدها.

 (٣٥) يلاحظ: الاجتهاد والتقليد (السيّد محمّد سعيد الحكيم):  ٩. 

(٣٦) يلاحظ: قبسات في علم الرجال: ١/ ١٦.

((٣٧] يلاحظ: بحوث فقهية: ٣٥٢ وما بعدها.

(٣٨) يلاحظ: الاجتهاد والتقليد (السيّد محمّد سعيد الحكيم):  ٨ ـ ١٥.

(٣٩) مقصودنا من السنّة قول المعصوم وفعله وتقريره، فتكون الأخبار من الكواشف عن السنّة، لا أنّها هي السنّة. 

(٤٠) يلاحظ: بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٤٢.

 (٤١)  يلاحظ: بحوث في علم الأصول: ٤/ ٢٣٤ـ ٢٣٥ 

 (٤٢)  سورة البقرة: ٢٢٩. 

 (٤٣)  سورة النساء: ١٩. 

(٤٤) في علاقة الموضوع بحكمه، وعلاقة الموضوع بمصاديقه، وعلاقة الحكم بمصاديق الموضوع، أبحاث تحليلية يترتّب على بعضها آثار علمية، ولكن في المقام لا يترتّب عليها أثر ولا مناسبة لائقة لمتابعتها. يلاحظ ـ على سبيل المثال ـ الرافد في علم الأصول: ٨٥ ، مباني الأصول: ١/ ٦٦٥.