
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
إنّ مسألة دلالة الفعل على الزمن ذات جذور نحوية، واستعار دلالته عليه قدامى الأصوليين من النحاة، وهو ما كان محلّ مناقشة وإنكار من متأخّري الأصوليين الذين بسطوا البحث فيه، فاتّسعت دائرته بما له من صلة بالبحث الفلسفي والكلامي، ولا سيّما في الحواضر الشيعية التي عمّقت البحث في مسائل عدّة لها صلة بالجوانب اللغوية وغيرها.
وكنّا نتمنّى أن تنال هذه المسألة في ثوبها الأصولي اهتمام الدارسين المحدثين لما تضمّنته من تحليل عقلي يتمتّع بالدقّة والعمق.
وهذا البحث الماثل بين يديك ـ مع ما فيه من محاولة تقديم رؤية خاصّة ـ هو امتداد ذلك العطاء الوارف والوافر.
تمهيد:
اتّفق النحاة على أنّ الفعل يدلّ على الزمان، ولذلك أخذوا الدلالة على الزمان في تعريفه بحسب ما نقل عنهم المحقّق الشريف، حيث قال: (وفي اصطلاح النحاة ما دلّ على معنىً في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة)(١)، وهذا التعريف يشتمل على بندين:
البند الأوّل: (ما دلّ على معنى في نفسه)، والظاهر في هذا البند أنّ الضمير في (نفسه) يرجع إلى المعنى؛ إذ لو رجع إلى (ما) الموصولة يعني ذلك أنّ المعنى في نفس الكلمة الدالّة، وكون المعنى في نفس الكلمة حاصل في كلّ كلمة حتّى الحرف، مع أنّهم عرّفوه بـ(ما دلّ على معنىً في غيره)، فلا بدّ من إرجاع الضمير إلى المعنى في تعريف الفعل، فيكون معناه شيئاً في نفسه ـ أي: مستقلَّاً في ذاته ـ وإرجاع الضمير في تعريف الحرف إلى المعنى أيضاً، فيكون معناه شيئاً في غيره ـ أي: غير مستقلّ في ذاته ـ فبالبند الأوّل يخرج الحرف عن تعريف الفعل.
البند الآخر: (مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة)، وتوضيح هذا البند يتوقّف على بيان نقطتين:
النقطة الأولى: أنّ المعنى الحدثي في الفعل له نسبتان:
الأولى: نسبته إلى ما يقوم به، وهو الفاعل.
الأخرى: نسبته إلى ما يقع فيه وهو الظرف.
النقطة الأخرى: الزمان الذي يكون مراداً للنحاة في تعريف الفعل هو مقدار حركة الفلك، كما كان معروفاً عند القدماء، وهذا الزمان ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
١ـ الحال: وهو الزمان الذي أنت فيه.
٢ـ الماضي: وهو الزمان الذي انقضى قبل زمان الحال.
٣ـ المستقبل: وهو الزمان الذي يُترقّب وجوده بعد زمان الحال.
وبما أنّ هذه الأقسام الثلاثة أقسامٌ للزمان الطبيعي بالمعنى المتقدّم فتكون أزمنة حقيقية، فبهذا البند يخرج الاسم من تعريف الفعل؛ إذ إنّهم عرّفوه بـ(ما دلّ على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة).
وبعد أن عرفت هاتين النقطتين نقول: إنّ النحاة اتّفقوا على أنّ الفعل يدلّ على أحد الأزمنة الثلاثة، وبما أنّ للفعل مادّة وهيئة، فبمادّته يدلّ على الحدث، وبهيئته يدلّ على النسبة الزمانيّة، وبما أنّ الفعل بهيئته يدلّ على النسبة الزمانيّة، فدلالته عليه تكون دلالة تضمّنية، وبما أنّ وقوع الحدث في الزمان لا بدّ له بحسب الخارج من فاعل يسند إليه لوقوعه منه، فينتقل الذهن منه إلى النسبة الفاعلية إلى ذاتٍ ما، فيدلّ عليها التزاماً، فتكون دلالة الفعل على النسبة الزمانيّة دلالة تضمّنية، ودلالته على النسبة الفاعلية التزامية بالالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ.
وبعد هذا التوضيح للبندين في تعريف الفعل يتبيّن أنّ دلالة الفعل على اقتران الحدث بأحد الأزمنة تكون بالوضع؛ لكونه مدلولاً لهيئته.
فإن قيل: إنّ دلالة الفعل بهيئته على النسبة الزمانيّة تكون التزامية؛ لأنّ الفعل بهيئته يدلّ على نسبة الحدث إلى من يقوم به، وهو الفاعل، وبما أنّ وقوع الحدث من الفاعل الزمانيّ لا يحصل إلّا في الزمان، فتدلّ بالالتزام على النسبة الزمانيّة.
فنقول: إنّ دلالة الفعل على النسبة الزمانيّة من جهة وقوع الحدث من الفاعل الزمانيّ تكون على وقوعه في زمانٍ ما من دون تعيين، وهذا النحو من الدلالة على النسبة الزمانيّة لا تكون مقصود النحاة؛ إذ قصدوا من (أحد الأزمنة الثلاثة) واحداً من تلك الأزمنة بعينه.
وبعد التوضيح حول تعريف النحاة للفعل لا بدّ من القول بأنّ الزمان المدلول للفعل عند النحاة يتميّز بخصائص أربع:
الأولى: أنّ زمان الفعل هو مدلول هيئة الفعل لا مادّته.
الثانية: أنّ الزمان المدلول للفعل يكون مدلولاً تضمّنياً، وبالتالي يكون فصلاً مقوّماً للفعل بحيث يوجد الفعل عند وجوده، وينعدم عند عدمه، كما أنّه يقسّم الكلمة إلى قسمين: عند وجوده تكون فعلاً، وعند عدمه اسماً أو حرفاً، فصارت الدلالة على الزمان فصلاً منطقياً.
الثالثة: أنّ زمان الفعل هو مصداق الزمان الذي يقترن به الحدث لا مفهومه.
الرابعة: أنّ الزمان المدلول عليه بالفعل هو الزمان الطبيعي الذي ينقسم إلى الأزمنة الثلاثة وهي أزمنة حقيقية، كما تقدّم تعريفها.
وهذه الخصائص الأربع متّفق عليها بين النحاة.
موقف الأصوليين من مذهب النحاة
قد ردّ الأصوليون على مسلك النحاة في دلالة الفعل على الزمان بردود عدّة:
الردّ الأوّل: أنّ وضع الفعل انحلالي، فالمادّة فيه موضوعة للدلالة على نفس الحدث، والهيئة فيه موضوعة للدلالة على النسبة بين الحدث وفاعلٍ ما، ومجموع المادّة والهيئة موضوع للدلالة على نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما، فلم يبقَ في الفعل ما يدلّ على الزمان حتّى يكون جزء مدلوله، وهذا الردّ جاء في الكفاية على نحو الإشارة عندما أنكر دلالة فعل الأمر والنهي على الزمان؛ لأنّ إنكار دلالتهما عليه مبنيّ على انحلالية الوضع في الأفعال مطلقاً، فلذلك يكون الردّ المتقدّم موجباً لنفي دلالة الأفعال على الزمان.
وهذا الردّ تبيّن دفعه ممّا تقدّم في بيان كلام النحاة؛ فإنّ المادّة موضوعة للدلالة على الحدث، وأمّا الهيئة فغير موضوعة للدلالة على النسبة الفاعلية حتّى يقال: لم يبقَ شيء للدلالة على الزمان، بل الهيئة موضوعة للدلالة على النسبة الزمانيّة، فتدلّ على وقوع الحدث في زمان معيّن من الأزمنة الثلاثة، والهيئة الدالّة على هذا الوقوع تدلّ على الزمان، ولمّا كان وقوعه في الزمان لا بدّ له بحسب الخارج من فاعل يستند إليه، فالذهن ينتقل إلى فاعلٍ ما، فتكون الدلالة على النسبة الفاعلية دلالة التزامية بالالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ.
الردّ الثاني: ما ورد في كفاية الأصول(٢) من أنّ فعلي الأمر والنهي لا يدلّان إلّا على طلب وجود الفعل أو طلب تركه؛ فإنّ المادّة فيهما تدلّ على نفس الحدث، والهيئة فيهما تدلّ على طلب وجوده في الأمر، وعلى طلب تركه في النهي، أو تدلّ على البعث إليه في الأمر أو الزجر عنه في النهي، ولا دلالة لهما على عنصر الزمن.
ومن قال من النحاة بأنّ الأمر والنهي يدلّان على زمان الحال ردّ عليه الآخوند وتلميذه العلّامة المشكيني O(٣) بما حاصله: أنّ زمان الحال المدلول لهما وضعاً:
إمّا أن يكون ظرفاً لإنشاء الطلب المدلول للصيغة فيستلزم أن تدلّ الجملة الاسمية على زمان الحال وضعاً أيضاً؛ لكونه ظرفاً للإخبار عن النسبة الخبرية، إذ إنشاء الطلب فعل اختياري للمتكلّم، ويقع في زمان الحال، فكذلك الإخبار عن النسبة الخبرية في الماضي أو الحال أو المستقبل أيضاً فعل اختياري للمتكلّم يقع في زمان الحال، فلو كانت الصيغة فيهما دالّة على زمان الإنشاء لكانت الجملة الخبرية أيضاً دالّة على زمان الإخبار مع أنّ الجملة الاسمية لا تدلّ وضعاً على زمان الحال.
وعليه لا يعقل أن يكون زمان الحال ـ الذي هو ظرف للإنشاء ـ مدلولاً عليه.
أو أن يكون ظرفاً للمطلوب المدلول للصيغتين فيستلزم التكليف بغير المقدور، أو التجريد والمجاز.
والوجه في ذلك: أنّه بانتهاء المتكلّم من النطق بالصيغة ينقضي زمان الحال، ومع انقضائه إمّا لا تُجرّد صيغة الأمر والنهي عن زمان الحال فيكون فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه مطلوباً في الزمان الذي قد انقضى، وهذا تكليف بغير المقدور، وطلبه قبيح لا يصدر من الآمر الحكيم، وإمّا تجرّد عن زمان الحال، وتستعمل في طلب وجود الفعل أو تركه، فحينئذٍ تستعمل الصيغة في جزء معناه، فيكون الاستعمال مجازياً مع أنّ العرف يستعملها دون لحاظ أيّ علاقة بين المستعمل فيه للصيغتين ومعناهما الحقيقي، مضافاً إلى أنّ دخل زمان الحال في الموضوع له مع التجريد عنه دائماً حين الاستعمال خلاف حكمة الوضع.
وهذا الردّ متين لا غبار عليه.
الردّ الثالث: يتضمّن هذا الردّ مجموعة من النقوض على مسلك النحاة، ونحن نقتصر على النقوض التي أوردها الآخوند S:
النقض الأوّل: أنّه لو كان الزمان جزءاً من مدلول الفعل للزم التجريد عند الإسناد والمجاز فيما إذا كان الفاعل زماناً كـ(مضى الأمس) و(يأتي الغد)، ففي المثال الأوّل أُسند (المضي، أي: السبق) إلى (الأمس)، والأمس زمان، وفي المثال الآخر أُسند (الإتيان، أي: اللحوق) إلى (الغد)، والغد زمان، فلو كان الزمان جزءاً لمدلول (مضى) و(يأتي)، للزم أن يقع سبق الأمس في زمان سابق، ولحوق الغد في زمان لاحق، فيكون الزمان واقعاً في زمان، فيستلزم التسلسل، والتسلسل محال.
فلا بدّ من تجريده من الزمان المأخوذ فيه، وعليه يكون الاستعمال مجازياً، والمجاز يحتاج إلى لحاظ العلاقة، ولا نرى في أنفسنا عند إسناد الفعل إلى الزمان أيّ لحاظ للعلاقة في استعماله.
وقد رُدّ على هذا النقض بوجهين:
الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الأصفهاني S (٤).
وحاصله: أنّ ملاك التقدّم والتأخّر الزمانيّين هو عدم اجتماعهما في الوجود، وعدم الاجتماع قد يكون ذاتياً، كتقدّم بعض أجزاء الزمان على البعض الآخر، مثل اليوم والغد والسنة الحالية والسنة المقبلة وهكذا، وقد يكون عرضياً، كتقدّم بعض الزمانيّات على البعض الآخر، كدرس اليوم ودرس الغد، فإنّهما لا يجتمعان؛ لوقوع أحدهما في الزمن السابق ـ وهو اليوم ـ ووقوع الآخر في الزمن اللاحق ـ وهو الغد ـ.
والنحاة الذين ذهبوا إلى دلالة الفعل على الزمان أرادوا منه التقدّم الزمانيّ الذي هو أمر واقعي انتزاعي يحصل للزمان بالذات وللزمانيّات بالعرض، وليس مقصودهم من الزمان هو مقدار حركة الفلك، حتّى يقع مضي الأمس وإتيان الغد فيه، وبالتالي يكون للزمان زمان، فلذلك في مثل (مضى الأمس) فعل (مضى) يدلّ على سبق الأمس بالذات على اليوم، لا على وقوع سبقه في زمان سابق، بينما (مضى الكلام) يدلّ (مضى) على سبق الكلام بالزمان الماضي، وهكذا في مثل (يأتي الغد) فعل (يأتي) يدلّ على لحوق الغد بالذات على اليوم، لا على وقوع لحوقه في الزمان اللاحق بينما في مثل (يأتي الكلام) فعل (يأتي) يدلّ على لحوق الكلام في الزمان اللاحق.
وهذا الردّ يخالف ما قلناه في الخصوصية الرابعة من أنّ مقصود النحاة من الزمان هو الزمان الطبيعي ـ وهو مقدار حركة الفلك ـ لا السبق واللحوق الزمانيّان حتّى يعمّم إلى ما بالذات وإلى ما بالعرض.
وبالنتيجة يكون هذا الكلام وجهة نظر جديدة غير ما هو المشهور بين النحاة، وبهذا الكلام لا يدفع هذا النقض على ما ذهب إليه النحاة.
الوجه الآخر: ما أفاده بعض المعاصرين.
وحاصله: أنّ السبق واللحوق من المفاهيم الانتزاعية التي تنتزع من الموجودات المتعدّدة من دون الحاجة في انتزاعهما إلى ملاحظة شيء آخر يرسم الزمان بحركته مثل الفلك، وأذكر فرضاً واحداً لتصوير هذا الانتزاع من كلامه، وهو: (لو فرض أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أوجد زيداً ثمّ أعدمه ثمّ أوجد عَمراً بحيث لم يقترن وجودهما وما بينهما بأيّ كائن متغيّر راسم للزمان، فإنّ وجود زيد يوصف بأنّه أسبق من وجود عمروٍ)(٥).
فيُلاحظ أنّ السبق واللحوق هنا يُنتزعان من الوجودات المتعدّدة إذا قيس بعضها إلى بعض بغضّ النظر عن الزمان.
وعليه فالفعل الماضي يدلّ على نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما المتّصفة بالسبق والتقدّم، والفعل المضارع يدلّ على نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما المتّصفة باللحوق والتأخّر، سواء أسند الحدث إلى الزمان، مثل (مضى الأمس) و(يأتي الغد)، أو أسند إلى الزمانيّ، مثل (مضى الكلام) و(يأتي الكلام).
والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق أنّ الوجه السابق كان مبنياً على أنّ السبق واللحوق يكونان بحسب الزمان، إمّا بالذات إذا أسند الفعل إلى الزمان، أو بالعرض إذا أسند إلى الزمانيّ، وأمّا هذا الوجه فمبنيّ على أنّ السبق واللحوق يكون لشيء عندما يقاس إلى شيءٍ آخر بغضّ النظر عن الزمان.
ويلاحظ عليه:
أوّلاً: أنّ التقدّم والتأخّر لا ينتزعان من شيء بلا مصحّح، وهذا المصحّح يسمّى بالملاك، وهو أمر مشترك بين المتقدّم والمتأخّر، فيحصل للمتقدّم قبل حصوله للمتأخّر، ولا يحصل للمتأخّر إلّا بعد حصوله للمتقدّم، فالمتقدّم يكون سابقاً لحصول الملاك فيه قبل حصوله للمتأخّر، والمتأخّر يكون متأخّراً لحصول الملاك فيه بعد حصوله للمتقدّم.
وبيان وجود هذا الملاك في المتقدّم والمتأخّر يتوقّف على ذكر الأقسام السبعة للمتقدّم(٦).
١ـ المتقدّم بالطبع: وهو أن يكون المتقدّم محتاجاً إليه المتأخّر في الوجود، مثل العلّة الناقصة بالنسبة إلى المعلول، والملاك فيه هو الوجود، فإنّه أمر مشترك بين المتقدّم والمتأخّر، ولا يوجد في المتأخّر إلّا بعد وجوده للمتقدّم، فما به التقدّم هو الوجود، وما فيه التقدّم هو العلّة الناقصة؛ لأنّها تتقدّم على المعلول بالوجود، فالوجود يحصل لها أوّلاً، ويحصل للمعلول آخراً.
٢ ـ المتقدّم بالرتبة: وهو أن يكون المتقدّم أقرب من غيره إلى مبدأ محدود، والتقدّم في هذا القسم على نوعين:
إمّا بحسب الطبع فيما إذا كان ترتّب المتأخّر على المتقدّم طبعياً، كالأجناس البعيدة مثل الجسم المطلق والجسم النامي، والجنس القريب كالحيوان بالنسبة إلى مبدأ محدود، فإنّك إذا جعلت الجوهر مبدأً كان الجسم المطلق والجسم النامي متقدّماً على الحيوان؛ لقربهما إلى الجوهر، وإن جعلت الإنسان مبدأً، يكون الحيوان أقرب إليه من الجسم المطلق والجسم النامي.
وإمّا بحسب الوضع فيما إذا كان ترتّب المتأخّر على المتقدّم مكانياً، كالإمام وصفوف المأمومين بالنسبة إلى مبدأ محدود، فإنّك إذا جعلت المحراب مبدأً، يكون الإمام متقدّماً على صفوف المأمومين؛ لقربه إلى المحراب وبُعد المأمومين عنه، وإذا جعلت الباب مبدأً ينعكس الحال، والملاك في هذا التقدّم هو النسبة إلى المبدأ، فإنّها أمر مشترك بين المتقدّم والمتأخّر، ولا تحصل للمتأخّر إلّا بعد حصولها للمتقدّم، وبما أنّ الملاك في هذا القسم هو النسبة المكانية إلى المبدأ ـ بمعنى نسبة المتقدّم والمتأخّر من حيث مكانهما إليه ـ وبحسب هذه النسبة يكون المتقدّم قريباً من المبدأ، والمتأخّر بعيداً عنه، وعليه يكون التقدّم والتأخّر باعتبار الوصول إليهما، فالمتحرّك ـ كالنملة مثلاً ـ عندما يتحرّك من المحراب إلى خارجه يصل إلى الإمام أوّلاً، ثمّ يصل إلى صفوف المأمومين لو جعلنا المحراب مبدأ، وليس الملاك هو مجرّد نسبة المتقدّم والمتأخّر إلى المبدأ، حتّى يقال إنّ: النسبة للأقرب حاصلة في الآن نفسه الذي حصلت فيه النسبة للأبعد، فلا تفاوت بينهما من هذه الجهة.
وعلى كلّ حالٍ ما به التقدّم هو النسبة إلى المبدأ المحدود، وما فيه التقدّم هو الإمام مثلاً؛ لأنّه يتقدّم على المأمومين بهذه النسبة، وهذه النسبة تحصل له أوّلاً، وتحصل للمأمومين آخراً.
٣ ـ المتقدّم بالعلّية: وهو أن يكون المتقدّم علّة موجبة لوجود المعلول، وهي العلّة التامّة ـ بمعنى جميع ما يتوقّف عليه وجود المعلول ـ والملاك في هذا التقدّم هو وجوب الوجود، وهو أمر مشترك بين العلّة والمعلول، فيحصل للعلّة أوّلاً، ويحصل للمعلول آخراً، فما به التقدّم هو وجوب الوجود، وما فيه التقدّم هو العلّة التامّة؛ لأنّها تتقدّم على المعلول بوجوب الوجود، فوجوب الوجود يحصل لها أوّلاً، ويحصل للمعلول آخراً.
٤ ـ المتقدّم بحسب الزمان: وهو أن لا يكون كلّ من المتقدّم والمتأخّر موجوداً في فرض وجود الآخر، وهذا القسم من المتقدّم والمتأخّر لا يجتمعان في الوجود؛ لأنّه لا يوجد المتأخّر إلّا بعد انقضاء المتقدّم، والتقدّم إمّا في نفس الزمان، كتقدّم الأمس على اليوم، فيكون التقدّم وصفاً بالذات للزمان، وإمّا في الزمانيّ ـ وهو الواقع في الزمان ـ كتقدّم موسى على عيسى O، فإنّ موسى g لذاته لا يتقدّم على عيسى g، بل يتقدّم عليه بالزمان؛ لأنّه وُجد في زمان ثمّ انقضى زمانه بموته، وجاء زمان آخر، ووُجد فيه عيسى g، فصار تقدّم موسى على عيسى O بالزمان، والملاك في هذا التقدّم هو النسبة إلى الزمان باعتباره امتداداً طولياً من الأزل إلى الأبد، فقطعة منه هي الأمس تتقدّم على قطعة أخرى منه وهي اليوم؛ لأنّ النسبة إلى ذلك الكلّ الممتدّ تدريجي الحصول تحصل أوّلاً للأمس، وتحصل آخراً لليوم، فما به التقدّم هو النسبة إلى الزمان ككلّ، وما فيه التقدّم هو الزمان كجزء، فإنّ هذه النسبة تحصل للجزء الأوّل من الزمان أوّلاً، وتحصل للجزء الآخر آخراً، هذا بالنسبة إلى التقدّم والتأخّر في نفس الزمان، وأمّا بالنسبة إلى الزمانيّ كموسى وعيسى O، فإنّ موسى له نسبة إلى زمان سابق، وعيسى g له نسبة إلى زمان لاحق، فصار تقدّم أحدهما على الآخر بالعرض، فما به التقدّم هو النسبة إلى زمان معيّن، وما فيه التقدّم هو الزمانيّ.
٥ ـ المتقدّم بالتقدّم السرمدي: وهو أن لا يكون كلّ من المتقدّم والمتأخّر موجوداً في فرض وجود الآخر، وهذا القسم من المتقدّم والمتأخّر لا يجتمعان في الوجود؛ لإشغال كلّ منهما مرتبة من المراتب الطولية للوجود، فلا يكون أحدهما في مرتبة الآخر، كتقدّم وجود الله تبارك وتعالى على العالم، أي ما سواه، وكلّ مرتبة غير المرتبة الأخرى.
وأمّا ما قيل من أنّهما يجتمعان في مرتبة المتأخّر وجوداً، وإلّا كان العالم موجوداً ولم يكن الله كذلك!
فيرد عليه: أنّ القول بـ (كان العالم موجوداً ولم يكن الله كذلك) هو تالٍ للمقدّم ـ وهو: (إن لم يكن الله في مرتبة المتأخّر) ـ فإن قُصد منه وجود العالم وعدم وجوده تعالى مطلقاً، لا في المرتبة المتقدّمة ولا في المرتبة المتأخّرة فهذا التالي باطلٌ، ولكنّه ليس لازماً للمقدّم؛ لأنّ نفي الخاصّ ـ وهو نفي وجوده في مرتبة المتأخّر ـ أعمّ من نفي العامّ، وهو نفي وجوده في المرتبة المتقدّمة والمتأخّرة، والأعمّ لا يلزم الأخصّ، فإذا لم يكن لازماً للمقدّم فلا يبطل ببطلانه.
وإن قصد منه وجود العالم وعدم وجود الله في مرتبته، فهذا التالي هو المطلوب، وليس بباطلٍ حتّى يؤدّي إلى بطلان المقدّم؛ إذ وجود المتقدّم لا يجتمع مع وجود المتأخّر في مرتبته، وإلّا استلزم أن يكون المتقدّم متأخّراً، وهذا خُلفٌ، إلّا أنّ وجود المتقدّم يكون مع المتأخّر مقوّماً له من دون التجافي عن مرتبته المتقدّمة، فاجتماعه تعالى مع المتأخّر في مرتبته يعني أن يكون وجوده معه في تلك المرتبة، وهذا محال، وأمّا كونه مقوّماً للمتأخّر، يعني أنّ وجوده في مرتبته المتقدّمة قوام له من دون أن يتجافى عن مرتبته، وهذا واجب، وإلّا استلزم أن يكون المتأخّر قائماً بنفسه، وهو خُلف كونه قائماً بغيره.
والجدير بالذكر أنّ عدم اجتماع المتقدّم والمتأخّر في الوجود خصوصية مشتركة بين التقدّم بالزمان والتقدّم السرمدي، وليس ملاكاً فيهما، بل الملاك في التقدّم بالزمان ما ذُكر آنفاً، والملاك في هذا التقدّم هو الوقوع في عالم العين والخارج، فإنّه أمر مشترك بينهما إلّا أنّه حاصل للواجب تعالى أوّلاً، ويحصل لما سواه آخراً، فما به التقدّم هو الوقوع في عالم العين، وما فيه التقدّم هو الذي يملأ عالم العين، فإنّ الوقوع في عالم العين يحصل للمرتبة الأولى من عالم الوجود أوّلاً، ويحصل للمرتبة الأخرى آخراً.
والفرق..
أوّلاً: بين التقدّم بالزمان والتقدّم السرمدي هو أنّ التقدّم السرمدي في المراتب الطولية للوجود، بينما التقدّم في الزمان في مرتبة واحدة من الوجود، وهي عالم المادّة،
وثانياً: الفرق بين التقدّم بالعلّية والتقدّم السرمدي أنّ السابق واللاحق في المتقدّم بالعلّية يجتمعان في الوجود، وتقدّم أحدهما على الآخر يكون بحكم العقل، فيقال: تحرّكت اليد فتحرّك المفتاح، بينما في التقدّم السرمدي السابق واللاحق لا يجتمعان في الوجود، فالسابق في مرتبة واللاحق في مرتبة أخرى.
٦ ـ المتقدّم بالتجوهر: وهو أن يكون المتقدّم محتاجاً إليه المتأخّر في قوام ذاته، كتقدّم الجنس والفصل على النوع، مثل الحيوان الناطق على الإنسان؛ لأنّ الإنسان لا تتمّ ذاته إلّا بالحيوان والناطق، والملاك في هذا التقدّم هو التقرّر الماهوي، فإنّه أمر مشترك بين المتقدّم والمتأخّر، فيحصل أوّلاً للمتقدّم ويحصل آخراً للمتأخّر؛ لأنّ المتأخّر لا تقوّم لذاته إلّا بقوام ذات المتقدّم، فما به التقدّم هو التقرّر الماهوي، وما فيه التقدّم هو المتقوّم بذاته، فإنّ التقرّر الماهوي يحصل للمتقوّم بذاته أوّلاً، ويحصل للمتقوّم بغيره آخراً.
وفي هذه الأقسام الستّة لا يتّصف المتقدّم بالسبق على المتأخّر إلّا بلحاظ أوّلية حصول الملاك فيه، ولا يتّصف المتأخّر باللحوق إلّا بلحاظ آخرية حصول الملاك فيه.
٧ ـ المتقدّم بالشرف: وهو أن يكون للمتقدّم زيادة كمالٍ عن المتأخّر في أمر مشترك بينهما، كتقدّم رسول الله e على سائر الأنبياء i، والملاك في هذا التقدّم هو الفضائل والمقامات، فإنّها أمر مشترك بين النبيّ الخاتم e وسائر الأنبياء i إلّا أنّ نبيّنا e يتّصف بزيادة الفضائل والمقامات التي هي مفقودة في سائر الأنبياء i، وفي هذا القسم لا يحصل الأمر المشترك في المتقدّم أوّلاً وفي المتأخّر آخراً، بل يحصل في المتقدّم بزيادة ويحصل في المتأخّر بنقيصة، ولذلك عدل العلّامة الطباطبائي O في بيان ملاك التقدّم إلى بيان آخر، وهو أنّ الملاك في المتقدّم أكمل منه في المتأخّر(٧)، ونحن اعتمدنا على البيان المعروف لملاك التقدّم.
وبيت القصيد في هذه المقدّمة الطويلة هو أنّ السبق واللحوق لا ينتزعان من الكائنات عندما نقيس بعضها إلى بعض باعتبار عدم الاجتماع في الوجود، فلا بدّ من أمر آخر عندما نقيس شيئاً إلى شيء آخر، وهو أنّ في الشيء الأوّل ما به التقدّم وفي الشيء الآخر ما به التأخّر، وهو الملاك.
وعلى أساسه لا وجه لما قاله صاحب المباني S.
وأمّا ما ذكره من شاهد: (لو فرض أنّ الله تعالى أوجد زيداً، ثمّ أعدمه، ثمّ أوجد عمراً، بحيث لم يقترن وجودهما وما بينهما بأيّ كائن متغيّرٍ راسمٍ للزمان، فإنّ وجود زيد يوصف بأنّه أسبق من وجود عمرو)(٨)، فيقصد منه تجريد وجود زيد ووجود عمرو من الزمان، وأيضاً تجريد ما بينهما ـ وهو العدم ـ من الزمان، وذلك بغضّ النظر عنه؛ حتّى يقول: إنّ مفهوم السبق يُنتزع من وجود زيد، ومفهوم اللحوق من وجود عمرو؛ لعدم اجتماعهما بتخلّل العدم بينهما من دون لحاظ كائن متغيّر يرسم الزمان بتغيّره.
ولكن يلاحظ عليه أنّ السبق لا يُنتزع من وجود زيد نفسه بالقياس إلى وجود عمرو، كما أنّ اللحوق أيضاً لا يُنتزع من وجود عمرو نفسه بالقياس إلى وجود زيد، وإلّا لصحّ أن ينتزع السبق واللحوق من أيّ شيءٍ يلحظ بالنسبة إلى شيءٍ آخر، كالإنسان عندما يلحظ بالنسبة إلى الحجر مثلاً، فلا بدّ من أمرٍ زائد عليهما، وهو لا يخلو من احتمالات:
الأوّل: هو العدم الفاصل بينهما، وهذا الاحتمال غير صحيح؛ لأنّ فصل عدم زيد بين وجوده ووجود عمرو لا يصحّح انتزاع السبق من وجوده، واللحوق من وجود عمرو، بل يصحّح عدم اجتماع وجود زيد بوجود عمرو، فيقال: (وجود زيد لا يجتمع بوجود عمرو)؛ لكونه معدوماً عند وجود عمرو.
الثاني: عدم اجتماع وجود زيد بوجود عمرو، وصاحب المباني S ناظر إلى هذا الاحتمال.
وهو غير صحيح أيضاً؛ لأنّ عدم الاجتماع متساوي النسبة إلى وجوديهما، فكما لا يجتمع وجود زيدٍ مع وجود عمرو كذلك وجود عمرو لا يجتمع مع وجود زيد، وعلى أساس هذا الأمر المساوي إليهما لا ينتزع السبق من وجود زيد، واللحوق من وجود عمرو، فلماذا لا يكون الأمر بالعكس، ما دام عدم الاجتماع متساوي النسبة إليهما؟
وردّ عليه بأنّه يأتي في تقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعضٍ مثل (الأمس) و(اليوم)؛ إذ (الأمس) متقدمٌ على (اليوم) من جهة عدم اجتماعه بـ(اليوم).
وهذا الردّ غير مقبولٍ:
أوّلاً: لأنّ ملاك تقدّم (الأمس) على (اليوم) ليس عدم الاجتماع، حتّى ينقض الردّ المتقدّم على الاحتمال الثاني بتقدّم (الأمس) على (اليوم)، بل ملاكه هو نسبتهما إلى الزمان ككلٍّ تدريجي الحصول، فهذه النسبة لـ(الأمس) تحصل قبل حصولها لـ(اليوم)،
وثانياً: على فرض التسليم بهذا النقض على الردّ على الاحتمال الثاني، فإنّه ردٌّ نقضي، والردّ النقضي يزيد المشكلة ولا يحلّها، فإذا كان الملاك في التقدّم والتأخّر هو عدم الاجتماع في الوجود فيأتي الردّ عليه بأنّه متساوي النسبة إلى المتقدّم والمتأخّر، فلماذا يكون أحدهما متقدّماً والآخر متأخّراً؟
وهذا الإشكال وارد على ما تفضّل به صاحب المباني S من شاهد، ووارد أيضاً على تقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض، وبذلك يظهر أن ما رأى المحقّق الأصفهاني O ـ من أنّ الملاك هو عدم الاجتماع في الوجود ـ غير صحيح، حيث قال: (إذ ملاك التقدّم والتأخّر الزمانيّين عدم مجامعة المتقدّم والمتأخّر في الوجود)(٩)، وقال في مورد آخر: (لما عرفت من أنّ ملاك السبق الزمانيّ عدم مجامعة المتأخّر مع المتقدّم في الوجود)(١٠)، فلا بدّ من بيان مِلاكٍ آخر لتقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض، وهو ما تقدّم منّا، فإنّه موجودٌ في تقدّم أجزاء الزمان وغير موجودٍ في الشاهد المذكور.
الثالث: نسبة وجود زيد إلى زمان سابق، ونسبة وجود عمرو إلى زمان لاحق، وهذا الاحتمال هو الصحيح، والوجه في ذلك يتوقّف على بيان نقطةٍ:
وهي أنّه لا ميز بين الأعدام من حيث العدم، فإنّ عدم العين وعدم الأُذن من حيث كونهما عدماً لا ميز بينهما، وإنّما يحصل الميز بينهما من حيث الإضافة، ولذلك نجد أنّه في فقدان العين يعلم الأعمى مقاصد الآخرين بلمس كتابتهم، وفي فقدان السمع يعلم الأخرس مقاصد الآخرين بقراءة كتابتهم، وهذا يعني أنّ هناك ميزاً بين العدمين، حتّى يترتّب على كلٍّ منهما غير ما يترتّب على الآخر، وقد حصل هذا الميز بالإضافة، وبما أنّ هذا العدم ليس له ما بإزائه في الخارج، فلا بدّ أن يكون هناك موجود في الخارج يُنتزع منه هذا العدم، وبالتعبير المعروف لا بدّ أن يكون هناك شيء راسم له.
وبناءً على هذه النقطة، ما تقدّم فرضه من أنّ الله تبارك وتعالى أعدم زيداً ثمّ أوجد عمراً، يأتي فيه سؤال، وهو ما هو الراسم لعدم زيد فيه؟
فإمّا أن يكون الراسم له وجود عمروٍ فيكون هذا الفرض صحيحاً؛ لكون وجوده راسماً لعدم زيد، إلّا أنّه لا يكون فاصلاً بين وجوديهما؛ لانطباقه على وجود عمرو.
وإمّا أن يكون الراسم له هو عالم الوجود على سطح هذا الكوكب الممتدّ زمانيّاً بين وجود زيد ووجود عمرو، وهذا الفرض صحيح أيضاً، وما دام هذا العدم يُنتزع منه فينطبق عليه، فيكون فاصلاً بين وجوديهما، وبذلك يثبت أنّ العدم زمانيّ، فلا يصحّ القول بأنّ العدم بينهما لا يقترن بأيّ كائن متغيّر راسم للزمان، والعدم الزمانيّ لا يكون فاصلاً إلّا بين وجودين زمانيّين، فيكون وجودهما واقعاً في الزمان، فيُنتزع السبق من وجود زيد؛ لنسبته إلى زمان سابق، ويُنتزع اللحوق من وجود عمرو؛ لنسبته إلى زمان لاحق.
وبالنتيجة مصحّح انتزاع السبق من وجود زيد هو نسبته إلى زمان سابق، ومصحّح انتزاع اللحوق من وجود عمرو هو نسبته إلى زمان لاحق، فصار السبق واللحوق زمانيّين كما قال المشهور، لا أنّهما يُنتزعان من وجوديهما بمجرّد ملاحظة أحدهما إلى الآخر بغضّ النظر عمّا هو المتغيّر الذي يرسم الزمان بتغيّره.
فحينئذٍ لا فرق بين ما أتى به من شاهد وما مثّلنا في المتقدّم بحسب الزمان من تقدّم موسى g على عيسى g، فعدم موسى g زمانيّ فاصل بين وجوديهما، فتقدّم موسى g على عيسى g يكون بالزمان.
وقد أورد صاحب المباني S على نفسه إشكالاً حاصله: أنّ عدم اجتماع شيءٍ مع شيءٍ آخر لا يبرّر انتزاع السبق من الأوّل واللحوق من الآخر وإلّا فلماذا لا يكون الأمر عكس ذلك بحيث يُنتزع السبق من الآخر واللحوق من الأوّل؟! فلا بدّ أن يكون هناك مصحّح لهذا الانتزاع(١١).
وردّ على هذا الإشكال بما حاصله: أنّ السبق واللحوق من الحيثيات الانتزاعية التي تتّصف بها الأشياء عندما يلاحظ بعضها إلى بعضٍ، ككون الإنسان مثلاً أقصر من النخلة، وككون السقف فوق الطاولة، فإنّ الأقصرية تنتزع من الإنسان عندما يلحظ إلى النخلة، وتنتزع الفوقية من السقف عندما يلحظ إلى الطاولة، ولو لم يكن قياس أحد الشيئين إلى الآخر كافياً لانتزاع السبق من أحدهما واللحوق من الآخر لتوجّه السؤال إلى الزمان نفسه عندما يُقاس الأمس إلى اليوم لماذا يُنتزع السبق من الأمس واللحوق من اليوم؟
وهذا الردّ غير صحيح؛ إذ انتزاع المفاهيم الثانوية يحتاج إلى مصحّح مثل انتزاع الإمكان من الإنسان باعتبار نسبته إلى الوجود والعدم في قولنا: (الإنسان ممكنٌ)، وانتزاع الفوقية من السماء باعتبار نسبتها إلينا في قولنا: (السماء فوقنا).
لكن انتزاع مفهوم السبق واللحوق لا بدّ فيه من مصحّح، وهو ملاحظة الشيء إلى ما به التقدّم وما به التأخّر ـ وهو الملاك ـ وهذا يجري في كلّ الأقسام الستّة للمتقدّم والمتأخّر.
وفي مقام البحث ينتزع مفهوم السبق واللحوق من قطعات الزمان باعتبار نسبتها إلى الزمان ككلّ سيّال من الأزل إلى الأبد، وانتزاعهما من الزمانيّات باعتبار نسبتها إلى قطعات الزمان، ولا يمكن انتزاعهما من قطعات الزمان بقطع النظر عن الزمان السيّال الذي يحصل فيها على نحو التدريج، ولا يُمكن انتزاعهما من الزمانيّات بقطع النظر عن نسبتها إلى قطعاته.
وأمّا ما قاله بالنسبة إلى الأقصرية فغير صحيحٍ؛ إذ إنّها لا تنتزع من شيء بمجرّد قياسه إلى شيءٍ آخر، بل لا بدّ من مصحّحٍ له، وهو اشتراكهما في الطول، وعندما يلاحظ أنّ هذا الطول في أحدهما أقلّ من الآخر تنتزع الأقصرية من الأقلّ طولاً والأطولية من الأكثر طولاً.
وما قاله بالنسبة إلى الفوقية أيضاً غير صحيحٍ؛ إذ إنّها لا تنتزع من شيء بمجرّد قياسه إلى شيءٍ آخر، بل لا بدّ من مصحّحٍ وهو اشتراكهما في النسبة إلى المركز بتعبير القدماء ـ وهو الأرض ـ وعندما يُلاحظ أنّ هذه النسبة إلى أحدهما أبعد من الآخر تنتزع الفوقية من الأبعد والتحتية من الأقرب.
والحاصل المصحّح لانتزاع السبق واللحوق من أجزاء الزمان هو نسبتها إلى الزمان ككلّ سارٍ في الأزمنة، والمصحّح لانتزعهما من الزمانيّات هو نسبتها إلى أجزاء الزمان كظرفٍ لها، فليس مفهوم السبق واللحوق مثل مفهوم الشيء والوجود الذي ينتزع من شيء بقطع النظر عن أيّ أمر زائد عليه.
وبهذا البيان يظهر الردّ على السيّد الروحاني O(١٢) الذي جعل ملاك انتزاع السبق واللحوق من شيء عدم اجتماع شيء على فرض وجود شيء آخر؛ إذ مجرّد ذلك لا يكفي لانتزاعهما، بل لا بدّ من ملاحظة الشيء إلى ما به التقدّم والشيء الآخر إلى ما به التأخّر ـ وهو الملاك ـ كما تقدّم.
وثانياً: هذا الوجه صار قولاً آخر وهو دلالة الفعل على السبق واللحوق، وهذا القول يختلف عمّا قاله النحاة من أنّ الأفعال تدلّ على أحد الأزمنة الثلاثة، وبهذا الوجه لا يدفع نقض الآخوند O عليهم.
النقض الثاني: أنّه لو كان الزمان جزءاً من مدلول الفعل للزم تجريده عن الزمان في ما لو أُسند الفعل إلى الذات المقدّسة، كما في قولك: (علم الله) و(يعلم الله)، ولازم تجريده عن الزمان استعماله في غير ما وُضع له، وكلّ استعمال مجازي لا بدّ فيه من لحاظ العلاقة، ونحن نرى من أنفسنا أنّه لا فرق بين قولنا: (علم الله) و(علم زيد)، وبين (يعلم الله) و(يعلم زيد)، وهذا يعني أنّ إسناد الفعل بمعناه الحقيقيّ إلى الذات المقدّسة حقيقي، كما أنّ إسناده إلى الزمانيّ يكون بمعناه الحقيقيّ، وبذلك يثبت أنّ دعوى جزئية الزمان للفعل باطلة.
وقد ردّ على هذا النقض بوجهين:
الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الأصفهاني O(١٣)، وبيانه يتوقّف على عدّة مقدّمات:
المقدّمة الأولى: أنّ علم الله تبارك وتعالى بما سواه في مرتبتين:
المرتبة الأولى: مرتبة الذات.
المرتبة الأخرى: مرتبة الفعل.
وتوضيح ذلك: أنّ العلم هو حضور شيء لشيء، والذات المقدّسة حاضرة لدى ذاته بوجدان ذاته لذاته، وعدم غيبة ذاته عن ذاته، وبتبع حضور ذاته لذاته تحضر مصنوعاته من باب وجدانه لها؛ إذ معطي الشيء لا يفقده، فالله تبارك وتعالى معط الوجود لما سواه، فلا بدّ أن يكون واجداً له بنحو أعلى وأشرف، فصار حضور ما سواه له بتبع حضور ذاته لذاته، وهذا العلم يكون علماً في مرتبة الذات.
وهناك علم في مرتبة الفعل، فإنّ ما سواه بنفسه حاضر لديه حضور المعلول في العلّة؛ إذ المعلول هو عين الربط بالعلّة، وهذا الربط بالعلّة هو نحو حضور عندها، ويكون الفرق بين العلم والمعلوم في كلتا المرتبتين بالاعتبار، فما سوى الله في نفسه في مرتبة الذات المقدّسة معلومٌ، وباعتبار حضوره لدى الذات المقدّسة بتبع حضور الذات علم، وما سوى الله في الخارج معلوم، وباعتبار كونه عين الربط بالباري تبارك وتعالى علم، والعلم في مرتبة الذات عُبّر عنه بالرواية (عالم إذ لا معلوم)(١٤)؛ إذ ليس المعلوم بالذات إلّا نفس الذات، وأمّا ما سواه في هذه المرتبة معلوم بتبعه.
المقدمة الثانية: أنّ فعل الله هو الوجود المنبسط الذي يتّحد مع الوجودات الخاصّة التي تنتزع منها: السماء والأرض والحيوان والنبات والإنسان وما إلى ذلك، فيكون الفرق بين الوجود المنبسط الذي هو الفعل الإطلاقي لله تبارك وتعالى والوجودات الخاصّة هو الإطلاق والتقييد.
وبعبارة أخرى: الفرق بينهما باللا بشرط وبشرط شيء، فإنّ الوجود المنبسط لا بشرط عن الحدود الكذائية، والوجود الخاصّ بشرط الحدود الكذائية، فلذلك الموجودات في العالم تكون لها حيثيتان:
الأولى: بما هي محدودة بحدّ كذائي، وبهذا الوجه يكون فاعلها ـ بمعنى ما به الوجود ـ هو عللها الفاعلية.
الأخرى: بما أنّها وجود، وبهذا الوجه يكون فاعلها ـ بمعنى ما منه الوجود ـ هو الله تبارك وتعالى، فالموجودات الخاصّة من حيث كونها وجوداً فاعلها هو الله، ومن هذا الحيث ليست بزمانيّة، والموجودات الخاصّة من حيث كونها محدودة فاعلها العلل الفاعلية، ومن هذا الحيث زمانيّة.
وبناءً على هذه المقدّمة فالموجودات الخاصّة من جهة كونها وجوداً إطلاقياً ـ وهو فعل الله ـ لا تكون زمانيّة، ومن جهة كونها محدودة تكون زمانيّةً، فلا وجه لما استشكل به بعض المعاصرين على المحقّق الأصفهاني O ـ الذي قال بأنّ فعل الله لا يقع في الزمان ـ حيث قال: (ولكن قد يشكل فيه بأنّ الفعل المادّي من شؤون عالم المادّة فلا مانع من وقوعه في الزمان، كيف؟ ومطلق الكائنات مفاضة من الباري جلّ وعلا)(١٥)، إذ حصل له الخلط بين كون الكائنات مفاضة من الباري جلّ وعلا من حيث الوجود بما هو وجود؛ فإنّه تعالى مفيض الوجود لها، والكائنات بهذا الوجه لا زمان لها، وبين كونها محدودة بحدود كذائية معلولةً لعللها الطبيعية؛ إذ هي مجرى لوجوداتها المحدودة، والكائنات بهذا الوجه واقعة في الزمان.
المقدمة الثالثة: الفعل الذي يسند إلى الله على قسمين: إمّا من صفاته الذاتية كالعلم، والمعلوم بهذا العلم: إمّا أن يكون ما فوق الزمان كـ(علم الله بما سواه)، أو أن يكون زمانيّاً كـ(علم الله بقتل فلان)، وإمّا من صفاته الفعلية كالخلق، والمخلوق بهذا الخلق إمّا أن يكون ما فوق الزمان كـ(خلق الله ما سواه)، أو أن يكون زمانيّاً(١٦) كـ(خلق الله هذا الطفل).
وبعد هذه المقدّمات يرى المحقّق الأصفهاني O أنّ الفعل الماضي يدلّ على سبق نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما، والفعل المضارع يدلّ على لحوق نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما، وعليه:
إذا أسند الفعل إلى الله تعالى وهو من الصفات الذاتية مثل (علم الله)، فإذا كان المعلوم ما فوق الزمان كـ(علم الله بما سواه) فإنّ سبق العلم على المعلوم يكون سبقاً بالذات؛ لأنّ ملاك السبق الزمانيّ هو عدم إمكان اجتماع السابق واللاحق في الوجود بحسب تعبير المحقّق الأصفهاني S، وهذا الملاك كان موجوداً في قسمين من السبق: السبق الزمانيّ والسبق السرمدي، وهذا الملاك في السبق السرمدي حاصل بين العلم والمعلوم؛ لأنّ الله يعلم ما سواه في مرتبة الذات، والذات في المرتبة الأولى من المراتب الطولية للوجود، وما سواه ـ الذي هو المعلوم ـ في مرتبة أخرى منها، وهذا لا يعني أنّه غير موجود في الصقع الربوبي بنحو الإجمال والبساطة؛ إذ الذات المقدّسة واجدة له بنحو أعلى وأشرف، ولا يعني أيضاً أنّه تبارك وتعالى غير موجود فيما سواه كمقوّم له.
وبالنتيجة لا يمكن اجتماع ما سوى الله مع العلم الذاتي، فيكون اتّصاف علمه بالسبق اتّصافاً بالذات.
وإذا كان المعلوم زمانيّاً كـ(علم الله بقتل فلان): فإن كان العلم في مرتبة الذات يكون عين ذاته، وذاته مقوّمة للوجود السابق للقتل، فيكون علمه سابقاً مع السابق وهو القتل، وإذا تعلّق علمه الذاتي بالزمانيّ في المستقبل كـ(يعلم الله قتل فلان)، فيكون عين ذاته، وذاته مقوّمة للوجود اللاحق للقتل، فيكون علمه لاحقاً مع اللاحق وهو القتل.
وإن كان العلم في مرتبة الفعل فهو عين فعله كـ(علم الله بقتل فلان)، فالفعل السابق بما له من وجود معلوم، وبما أنّ وجوده عين الربط علم، فيكون هذا العلم الفعلي سابقاً بسبق القتل، وكـ(يعلم الله قتل فلان)، فالفعل اللاحق بما له وجود معلومٌ، وبما أنّ وجوده عين الربط علمٌ، فيكون هذا العلم الفعلي لاحقاً بلحوق القتل.
ففي فرض كون المعلوم زمانيّاً وكون العلم في مرتبة الذات يكون سبقه من جهة معيّته القيّومية مع السابق ولحوقه من جهة معيّته القيّومية مع اللاحق، فحينئذٍ اتّصاف علمه سبحانه بالسبق واللحوق الزمانيّ يكون بالعرض، وفي فرض كون المعلوم زمانيّاً وكون العلم في مرتبة الفعل يكون سبقه من جهة اتّحاده مع السابق ولحوقه من جهة اتّحاده مع اللاحق، فحينئذٍ اتّصاف علمه سبحانه بالسبق واللحوق الزمانيّ يكون بالعرض.
هذا كلّه إذا كان الفعل المسند إليه من صفاته الذاتية.
وأمّا إذا كان الفعل المسند إليه تعالى من صفاته الفعلية مثل (خلق الله):
فإذا كان الفعل ما فوق الزمان كـ(خلق الله ما سواه)، فيكون الفرق بين الخلق والمخلوق كالفرق بين الإيجاد والوجود، وبحسب الترتّب العقلي يكون الوجود متأخّراً عن الإيجاد، فيُقال أوجد الشيء فوجد، ولذلك الخلق باعتبار هذا الترتّب العقلي يكون سابقاً، وما سوى الله لاحقاً، فحينئذٍ اتّصاف خلقه سبحانه بالسبق يكون بالذات؛ لتقدّمه على المخلوق عقلاً.
وإذا كان الفعل زمانيّاً كـ(خلق الله هذا الطفل)، و(يخلق الله طفلاً في عائلة فلانٍ)، فيكون الوجود الإطلاقي ـ الذي هو فعل الله ـ متّحداً مع الوجود الخاصّ للطفل، وبما أنّ الوجود الخاصّ حصل في الزمان السابق أو في الزمان اللاحق يكون الوجود الإطلاقي الذي هو فعل الله متّحداً معه، فالوجود الإطلاقي الذي هو فعل الله يكون سابقاً مع السابق ولاحقاً مع اللاحق، لا أنّه بنفسه وقع في الزمان السابق واللاحق، فحينئذٍ اتّصاف فعله سبحانه بالسبق واللحوق يكون بالعرض.
هذا توضيح كلام المحقّق الأصفهاني O بحسب فهمي القاصر، وهذا التحليل مبنيّ على أنّ الفعل الماضي يدلّ على تحقّق النسبة سابقاً والفعل المضارع يدلّ على تحقّق النسبة لاحقاً، والمقصود من السبق واللحوق هو الزمانيّ، ونجد في هذا البيان أنّ المحقّق الأصفهاني O عمّم:
أوّلاً: السبق واللحوق إلى ما بالذات وإلى ما بالعرض حتّى يشملان الفعل المسند إلى الزمان والزمانيّ.
وثانياً: السبق إلى الزمانيّ والسرمديّ، وذلك بأخذ السبق الزمانيّ في الفعل بمِلاك عدم اجتماع السابق واللاحق في الوجود؛ حتّى يشمل الفعل المسند إلى الزمانيّ وما فوق الزمان.
وثالثاً: السبق واللحوق الزمانيين إلى ما يضاف إلى زمان النطق وإلى غيره، وتفصيل ذلك يأتي لاحقاً فانتظر.
وهذا الوجه ـ وهو وجهة نظر جديدة ـ لا يدفع نقض الآخوند O على النحاة القائلين بدلالة الفعل على الزمان.
الوجه الآخر: ما أفاده بعض المعاصرين(١٧) من أنّ السبق واللحوق يعقلان في الموجود الواحد بلحاظ امتداده الطولي سواء كان هذا الموجود قارّاً، كالجواهر وبعض الأعراض كالعلم والبخل، فالجسم بلحاظ امتداد بعض أجزائه المفروضة سابق على البعض، وهكذا العلم بلحاظ امتداد بعض أجزائه المفروضة سابق على البعض الآخر، أم غير قارّ، كالحركة ومقولة الفعل والانفعال، فإنّ حركة الإنسان من مكان إلى آخر بلحاظ امتدادها بعض أجزائها المفروضة سابق على البعض الآخر، ومقولة الفعل هي التأثير التدريجي للفاعل في المنفعل كالنار، فهي تسخّن الماء، فلها ما دامت تسخّن حالة غير قارّة، وهي التأثير التسخيني، وهذا التأثير التدريجي بلحاظ امتداده يكون بعض أجزائه المفروضة سابقاً على البعض الآخر، ومقولة الانفعال هي التأثّر التدريجي للمنفعل من الفاعل كالماء، فهو يتسخّن بالنار، فله ما دام يتسخّن حالة غير قارّة وهي التأثّر التسخّني، وهذا التأثّر التدريجي بلحاظ امتداده يكون بعض أجزائه المفروضة سابقاً على البعض الآخر.
فتصوير السبق واللحوق مبنيّ على لحاظ الامتداد الطولي، والامتداد الطولي وصف للوجود الذي يعبّر عنه بالبقاء، وصفة البقاء صفة عامّة سارية في كلّ الموجودات سواء كانت مادّية مثل ما مثّلنا أو مجرّدة، والله تبارك وتعالى يوصف بالبقاء، فيكون أزلياً وأبدياً، وبالتالي يوصف بالامتداد، ووصفه بالامتداد لا يقتضي تعدّداً فعلياً في ذاته ولا تغيّراً؛ فلذلك الله تبارك وتعالى بسيط ثابت مع كون وجوده ممتدّاً.
وعليه يكون هذا الوصف مصحّحاً للنظر إلى جهة من هذا الوجود الممتدّ دون جهة أخرى، فإذا قيل: (علم الله)، فإنّ وجوده سبحانه وتعالى ممتدّ من الأزل إلى الأبد، وهذا الوجود الممتدّ من جهة الامتداد إلى الزمان الحاضر سابق، ومن جهة الامتداد من الحاضر إلى الأبد لاحق، فإذا لوحظ علمه سبحانه وتعالى من جهة امتداده من الأزل إلى الحاضر يكون العلم سابقاً، ويُقال: (علم الله)، وإذا لوحظ علمه سبحانه من جهة امتداده من الحاضر إلى الأبد يكون العلم لاحقاً، ويقال: (يعلم الله).
وهذا النحو من اللحاظ لا يوجب تقطيعاً فعلياً في ذاته تعالى، حتّى يُقال: إنّه محال بالنسبة إليه، بل يكفي النظر إلى بعض امتداده الوجودي من الأزل إلى الأبد.
وبهذه الطريقة حلّ صاحب المباني S مشكلة دلالة الفعل على الزمان عندما يسند إلى المجرّدات.
وهذا الوجه غير معقول، وتوضيحه يتوقّف على نقطتين:
النقطة الأولى: الامتداد هو وجود شيء على نحو يمكن فرض أجزاء مشتركة في حدٍّ، والحدّ المشترك هو ذو وضع يكون نهاية لأحدهما وبداية للآخر، كالنقطة على الخطّ، فإنّها ذات وضع تقسّم الخطّ إلى جزئين، بحيث تكون هي بداية لأحدهما ونهاية للآخر، والممتدّ ينقسم إلى قسمين:
١ ـ ممتدّ قارّ: وهو ما اجتمعت أجزاؤه المفروضة في الوجود كالخطّ، فإنّ أجزاؤه المفروضة مجتمعة في الوجود، والسطح فإنّ أجزاؤه المفروضة مجتمعة في الوجود، وهكذا الجسم.
٢ ـ ممتدّ غير قارّ: وهو ما لا يمكن اجتماع أجزائه المفروضة في الوجود كالزمان، فإنّ جزءاً منه لا يجتمع مع الجزء الآخر، فإنّ اليوم لا يمكن أن يجتمع في الوجود مع الأمس، فإنّه لا يحصل إلّا بعد انقضاء الأمس.
وللزمان مجالان:
الأوّل: الزمان الخاصّ، وهو لكلّ موجود مادّي ترسمه حركته الجوهرية، وهو مقدار امتداد وجوده المتحرّك في جوهره، مثل فرد من الإنسان، فإنّ مقدار امتداد وجوده يمثّل البعد الطولي له، كما أنّ الطول والعرض والعمق تمثّل البعد العرضي له، ولذلك تكون للأجسام أبعاد أربعة، وعلاقة هذا الزمان بالزمانيّ هي علاقة اللازم بالملزوم، فإنّ الجسم متحرّك بجوهره، والزمان مقدار هذه الحركة، والفرق بين هذه الحركة الجوهرية والزمان فرق المبهم والمعيّن، كالجسم الطبيعي والجسم التعليمي.
الآخر: مقدار الحركة الأينية للأرض حول الشمس وحول نفسها التي تتمثّل بالأيّام، ويؤخذ مقياساً لتقدير الحركات الأخر في الموجودات المادّية والحوادث، فتطبّق تلك الموجودات والحوادث على ما يؤخذ لهذا الزمان من الأجزاء كالسنين والشهور والأسابيع والأيّام والساعات والدقائق والثواني وغير ذلك، وعلاقة الحركات المتمثّلة بالموجودات المادّية والحوادث الكونية بهذا الزمان علاقة المقارنة التي يعتبرها العرف العامّ علاقة المظروف بالظرف.
النقطة الأخرى: البقاء يأتي لعدّة معانٍ:
١ ـ وجود بعد الوجود: وهذا البقاء يكون في مقابل الحدوث؛ إذ هو وجود بعد العدم، ويمكن أن يقال إنّ هذا المعنى هو المعنى الأصولي للبقاء؛ إذ كثيراً ما يفسّر البقاء في الأصول بهذا المعنى، خاصّة في بحث الاستصحاب.
٢ ـ سلب العدم اللاحق للوجود، والبقاء بهذا المعنى يكون في مقابل الفناء، وهذا المعنى هو المعنى الكلامي للبقاء؛ إذ يوصف الله تبارك وتعالى بالبقاء، عند البحث عن صفاته تعالى.
٣ ـ استمرار وجود شيء في أكثر من زمان بعد الزمان الأوّل: وهذا المعنى في مقابل الانقطاع بعد الزمان الأوّل، وهذا المعنى هو المعنى اللغوي للبقاء؛ إذ فسّر اللغويون البقاء بالدوام، كما في المعجم الوسيط: (بقي الشيء بقاءً: دام وثبت)(١٨)، وفي أقرب الموارد (بقي يبقى ل بقاءً وبقي ض بقياً (يائيٌّ) دام وثبت)(١٩)، وفسّروا الدوام بالاستمرار، كما في أقرب الموارد حيث قال: (دام الشيء سكن واستمرّ)(٢٠)، ولذلك قال في مجمع البحرين: (في الخبر كان عمل رسول الله e ديمة، أي دائماً غير منقطعٍ)(٢١).
وبذلك يثبت أنّ البقاء لغةً هو الاستمرار في مقابل الانقطاع.
وبعد أن عرفت هاتين المقدّمتين نقول:
أوّلاً: اتّصاف الله تبارك وتعالى بالبقاء لا يوجب أن يكون لله تعالى امتداد طولي بحيث يمكن فرض تقدّم وتأخّر في ذاته تبارك وتعالى بالقياس إلى الزمان الحاضر؛ إذ البقاء إذا كان بالمعنى الأصولي الذي هو في مقابل الحدوث يستلزم أن يكون الله تدريجي الحصول كالممتدّ غير القارّ، وهذا بديهي البطلان، وإذا كان البقاء بالمعنى الكلامي الذي كان في مقابل الفناء، يكون وجوده غير ملحوق بالعدم، وهذا يعني أنّه لا يفنى، وعدم الفناء لا يستدعي أن يكون الموجود ممتدّاً بحيث يمكن فرض جزء متقدّم على الزمان الحاضر، وجزء متأخّر عنه؛ إذ إنّه مفهوم عدمي انتزاعي من جهة ومن جهة أخرى إنّ الله صرف الوجود.
وبعد هاتين الجهتين لو لوحظ صرف الوجود من دون لحاظ أي شيء آخر ينتزع منه أنّه لا يفنى وإلّا استلزم اجتماع النقيضين، فاتّصاف صرف الوجود بعدم الفناء لا يستدعي شيئاً آخر كالامتداد.
وإذا كان بالمعنى اللغوي الذي كان في مقابل الانقطاع، فالاستمرار يكون بمعنى الثابت وجوده في أزمنة متعاقبة في مقابل الانقطاع لا في مقابل التغيّر، وهذا يعني أنّ الوجود لا ينقطع في الأزمنة المتعاقبة بعد الزمان الأوّل، والباقي بهذا المعنى: إمّا أن يكون موجوداً زمانيّاً، فحينئذٍ للباقي بهذا المعنى خصوصيتان:
الأولى: علاقته بالزمان علاقة المقارنة على نحو يطبّق على مقاطعه.
الأخرى: يصحّ عليه الفناء.
فمن جهة الخصوصية الأولى بقاؤه يقتضي أن يكون ممتدّاً بالامتداد الطولي بحيث تُفرض له أجزاء يكون بعضها متقدّماً على الزمان الحاضر، وبعضها الآخر متأخّراً عنه؛ إذ لو كانت علاقة الموجود بالزمان علاقة المقارنة بحيث يُطبّق على مقاطعه، فالزمان له امتداد طولي فلا بدّ أن يكون ما يطبّق عليه أيضاً ممتدّاً بالامتداد الطولي.
ومن جهة الخصوصية الأخرى يكون بقاؤه بالغير حيث ينتهي.
وإمّا أن يكون موجوداً فوق الزمان، فحينئذٍ للباقي بهذا المعنى خصوصيتان:
الأولى: علاقته بالزمان علاقة تقويم.
وتوضيح ذلك: أنّ المقوّم لشيءٍ هو ما يقوم به الشيء، والشيء: إذا كان قائماً بذاته عليه يكون المقوّم ذاتياً كالإنسان، فإنّه بذاته قائمٌ على الحيوان والناطق، فهما مقوّمان لذاته. وإذا كان قائماً بوجوده عليه يكون المقوّم وجودياً كالمعلول، فإنّه قائمٌ بوجوده على العلّة، فهي مقوّمةٌ لوجود المعلول، فالعلاقة بين المقوّم والمتقوّم تكون علاقة تقويم.
الأخرى: لا يصحّ عليه الفناء.
فمن جهة الخصوصية الأولى بقاؤه لا يقتضي امتداده الطولي؛ إذ إنّه تعالى وإن كان يُضاف إلى الأزمنة المتعدّدة عقلاً، لكن هذه الإضافة في الخارج إضافة إشراقية، وهذا يعني أنّ علاقته بالزمان علاقة تقويم لا علاقة مقارنة.
وتوضيح ذلك: أنّ الموجودات المادّية التي يكون الزمان من لوازم وجودها متقوّمةٌ بالله تبارك وتعالى في وجودها، فالزمان الذي يكون لازماً لها متقوّمٌ به تعالى تَبعاً، وعليه تكون الأشياء في جميع الأزمنة من الأزل إلى الأبد بالقياس إليه تبارك وتعالى حاضرة لديه حضور المعلول للعلّة، كالحاضر في زمان واحد، فلا يكون لها مضيّ وحضور واستقبال بالقياس إليه تعالى، فلا يكون الله ممتدّاً بالامتداد الطولي بحسب امتداد الزمان، وإلّا فلا يعقل؛ إذ الأشياء ليس لها امتداد بالقياس إليه تعالى، فكيف يتّصف بالامتداد بالإضافة إلى ما لا امتداد له بالقياس إليه تعالى؟!.
ومن جهة الخصوصية الأخرى يكون بقاؤه بالذات حيث لا يفنى، ومن هذه الجهة الباقي بهذا المعنى يرجع إلى المعنى الكلامي، فيكون وجود الله تبارك وتعالى باقياً، أي مستمرّاً إلى غير نهاية.
وثانياً: على فرض أنّ البقاء يقتضي امتداداً طولياً، فإنّه في وجود الله تبارك وتعالى محال؛ لأنّ الامتداد ـ كما قلنا في النقطة الأولى ـ هو كون الوجود بحيث يمكن فرض أجزاء مفروضة مشتركة في حدٍّ واحد، والعقل لا يُجوّز ذلك على الله؛ إذ القسمة إلى الأجزاء مستحيلة في حقّه تعالى، لا قسمة فعلية ولا قسمة فرضية مطابقة للواقع، إلّا إذا قصد صاحب المباني S بالأجزاء الفرضية الأجزاء التصوّرية (أي الوهمية)، فيرد عليه: أنّه لا تبرّر وقوع وصف علم الله في جزءٍ مفروضٍ قبل زمان النطق؛ لأنّ هذا الجزء موجودٌ بتصوّر الإنسان لا في الواقع، مع أنّ علمه موجودٌ في الواقع، فكيف يقع العلم الواقعي لله في جزئه التصوّري في ذهن الإنسان؟!
وقد أكّد أنّ الامتداد الطولي لوجود الله تبارك وتعالى لا يقتضي الأجزاء الفعلية، ولكنّه اعترف بالأجزاء الفرضية حيث قال: (وهذا النظر لا يقتضي تقطيعاً فعلياً لهذا الوجود حتّى يقال بأنّه لا يعقل في شأن الله سبحانه، بل يكفي فيه النظر إلى بعض امتداده الوجودي)(٢٢)، وبقوله: (بل يكفي فيه النظر إلى بعض امتداده الوجودي) اعتراف بأجزائه الفرضية.
وما ذكرهُ مستغرب منه، وعلى كلّ حال هذا الوجه لا ينبغي الالتفات إليه.
النقض الثالث: أنّ النحاة ذهبوا إلى أنّ المضارع مشترك معنوي بين الحال والاستقبال.
ويعيّنه للحال:
١ ـ لام التوكيد، كقوله تعالى: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ}(٢٣).
٢ ـ و(ما) النافية، كقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}(٢٤).
٣ ـ و(إن) النافية، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ}(٢٥).
٤ ـ الآن، كقولك: (زيد يضرب الآن).
ويعيّنه للاستقبال:
١ ـ السين، كقوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا}(٢٦).
٢ ـ و(سوف)، كقوله تعالى: {سَوْفَ يُرَى}(٢٧).
٣ ـ و(لن)، كقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي}(٢٨).
٤ ـ و(أنْ)، كقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}(٢٩).
٥ ـ و(إنْ)، كقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (٣٠).
٦ ـ و(لعلّ)، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(٣١).
وليس المقصود بذلك أنّ المضارع يدلّ على مفهوم (زمان غير الماضي) الشامل للحال والمستقبل؛ وذلك لأمرين:
١ـ عدم أخذ ذلك المفهوم في معنى المضارع.
٢ ـ أنّ ذلك يخالف الخصوصية الثالثة المسلّمة، وهي أنّ الزمان المأخوذ في الفعل هو مصداقه لا مفهومه، فحينئذٍ إن وُضع لكلّ واحد من الحال والاستقبال بوضع على حدة غير وضع الآخر يلزم الاشتراك اللفظي، وإن وُضع لأحدهما دون الآخر يلزم أن يكون حقيقةً في أحدهما ومجازاً في الآخر، وكلّ منهما منافٍ للاشتراك المعنوي، فلا يتمّ الاشتراك المعنوي في المضارع إلّا على أن يكون المضارع دالَّاً على خصوصية في نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما التي تنطبق على النسبة الخارجية الواقعة في الحال مرّة، وفي الاستقبال مرّة أخرى بحسب القرائن المتقدّمة في كلام النحاة، وهذه الخصوصية ـ بحسب تلميذ الآخوند O العلّامة المشكيني O (٣٢) ـ هي الترقّبية، فالفعل الماضي يدلّ على نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما بالنسبة التحقّقية، وهذه الخصوصية تقتضي وقوع الحدث في الزمان الماضي، وفعل المضارع يدلّ على نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما بالنسبة الترقّبية، وهذه الخصوصية تقتضي وقوع الحدث في زمان الحال أو الاستقبال، وإذا صحّ ذلك فلا فرق بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية؛ لأنّ جملة (زيد ضارب) تدلّ على النسبة الاتّحادية بين الموضوع والمحمول، وهذه النسبة تنطبق على النسبة الخارجية سواء كانت في الماضي كـ(زيد ضارب أمس)، أو الحال كـ(زيد ضارب اليوم)، أو الاستقبال كـ(زيد ضارب غداً) مع عدم دلالتها وضعاً على واحد منها، فتكون الجملة الفعلية المشتملة على الفعل المضارع مثلها، غاية الأمر دائرة انطباق معنى الجملة الاسمية أوسع من دائرة انطباق معنى الفعل المضارع؛ إذ يدلّ على زمان الحال أو الاستقبال بالقرينة لا بالوضع.
وقد رُدّ هذا المورد من قبل تلميذه المحقّق العراقي O بقوله: (وحينئذٍ ففي فعل المضارع قبال الماضي أخذ عدم السبق، فدلالة المضارع على أحد الزمانين من الحال أو الاستقبال إنّما هو من لوازم طبع نسبته التصديقية المأخوذة فيه لا جهة زائدة، وإنّما الجهة الزائدة دلالتها على عدم سبق وجود المبدأ قبال الماضي المأخوذ فيه جهة سبقه)(٣٣).
وتوضيح كلامه أنّ المادّة في الأفعال موضوعة للدلالة على نفس الحدث، والهيئة فيها موضوعة للربط القائم بالحدث، وهذا الربط يُحلّل إلى ربطين:
١ ـ ربط له بالنسبة إلى ما يقوم به، وهو الفاعل.
٢ ـ ربط له بالنسبة إلى الظرف الذي يقع فيه.
فمن جهة ربطه بما يقع فيه تدلّ الهيئة في الفعل الماضي عليه من حيث سبقه، فيكون السبق زمانيّاً فيما لو انتسب إلى الزمانيّات كـ(ضرب زيد)، وذاتياً فيما لو انتسب إلى نفس الزمان كـ(مضى الأمس)، ورتبياً فيما لو انتسب إلى المجرّدات كـ(علم الله بما سواه)، فإنّ علمه تعالى لا يسبق ما سواه بحسب الزمان، بل يسبقه بالرتبة؛ لتقدّمه عليه تقدّم العلّة على المعلول.
والهيئة في فعل المضارع تدلّ على عدم سبقه ـ أي لحوقه ـ، فيكون اللحوق زمانيّاً لو انتسب إلى الزمانيّات، كـ(يضرب زيد)، وذاتياً فيما لو انتسب إلى نفس الزمان كـ(يأتي الغد)، ورتبياً إذا انتسب إلى المجرّد كـ(وجدت العلّة فيوجد المعلول) مع وضوح عدم تأخّر المعلول عن علّته بحسب الزمان، بل يتأخّر عنها رتبة، والنسبة بخصوصية اللحوق تشمل النسبة في الحال والاستقبال، فتدلّ الهيئة بالالتزام على زمان الحال وزمان الاستقبال.
وهذا الردّ لا يكون ردّاً على نقض الآخوند O؛ إذ الآخوند O من خلال القول بالاشتراك المعنوي يريد أن ينفي الدلالة الوضعية للفعل المضارع على الحال والاستقبال، والمحقّق العراقي O أيضاً ينفي الدلالة الوضعية للفعل المضارع عليهما، وبما أنّ أستاذه O لم يعيّن الخصوصية في النسبة المدلولة لفعل الماضي والمضارع التي تقتضي الوقوع في الزمان الماضي، أو الوقوع في زمان الحال أو الاستقبال يمكن تفسيرها بالتحقّقية في الماضي، والترقّبية في المضارع، كما قال تلميذه العلّامة المشكيني O، ويمكن تفسيرها بالسبق في الماضي واللحوق في المضارع، كما قال تلميذه الآخر المحقّق العراقي O، وعلى كلّ حال هذا المورد ينفي الدلالة الوضعية التضمّنية للفعل المضارع على الزمان.
وفي الأخير لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ما أفاده الآخوند O في ذيل كلامه من مقارنة الجملة الفعلية بالجملة الاسمية لا وجه له؛ إذ قلنا في توضيح هذه المقارنة: إنّ مفاد الجملة الاسمية هو النسبة الاتّحادية، وهي في الخارج تنطبق على النسبة الخارجية في الماضي والحاضر والمستقبل، فلا محدودية لهذه النسبة بزمان معيّن، بينما مفاد الجملة الفعلية هو النسبة التحقّقية في الماضي والنسبة الترقّبية في المضارع.
فصارت النسبة في الأفعال محدودة بزمان معيّن، وهو الماضي في فعله، وبزمان الحال أو الاستقبال في الفعل المضارع، ومع هذا الفرق لا تصحّ مقارنة الجملة الفعلية بالجملة الاسمية، فلذلك الجملة الاسمية لا تدلّ على أحد الأزمنة لا تضمّناً ولا التزاماً، بينما الجملة الفعلية تدلّ على أحدها التزاماً باعتبار الخصوصية المأخوذة في النسبة المدلولة لها لو أسند إلى الزمانيّ بشرط الإطلاق بحسب مبنى الآخوند O، ويأتي توضيحه بعد قليل عند الحديث عن الفرق بين الماضي والمضارع من وجهة نظره الشريف.
النقض الرابع: إنّ الفعل إذا كان مقيّداً بالإضافة إلى شيء آخر فإنّ الزمان الماضي في صيغة (فعل) لا يكون ماضياً حقيقةً، بل مستقبلاً حقيقة، وكذلك صيغة (يفعل) لا يكون حالاً أو استقبالاً حقيقةً، بل ماضياً حقيقةً، ويتّضح ذلك من خلال هذين القولين:
الأوّل: قولك: (يجيئني زيد بعد شهر، وقد نجح في الامتحان قبله بأيّام)، فإنّ فعل النجاح مقيّد بكونه قبل المجيء، وهو يحصل في المستقبل، فالزمان الماضي في (نجح) في الحقيقة زمان مستقبل، ولا يكون ماضياً إلّا بالإضافة إلى مجيء زيد الحاصل بعد شهر.
الثاني: قولك: (جاءني زيد قبل شهر وهو يضرب غلامه في ذلك الوقت أو فيما بعده)، فإنّ فعل الضرب مقيّد بكونه عند المجيء، وهو حاصل في الماضي، فالزمان الحال والاستقبال في (يضرب) في الحقيقة زمان ماضٍ، ولا يكون حالاً واستقبالاً إلّا بالإضافة إلى مجيء زيد، فلو كان الزمان جزءاً من مدلول الفعل للزم تجريده من الزمان، فيكون الفعل الماضي والمضارع في هذين القولين قد استعملا مجازاً؛ لأنّ المضي والاستقبال فيهما ليس بالنسبة إلى زمان النطق، بل إلى زمان المجيء، والاستعمال المجازي يحتاج إلى لحاظ العلاقة، ولا نرى في أنفسنا لحاظ علاقة في هذا الاستعمال، وبذلك يثبت أنّ الزمان ليس جزءاً من مدلول الفعل.
ويرد عليه: أنّه يمكن أن يكون مقصود النحاة من اقتران الفعل بالزمان هو المضي والاستقبال الإضافيان مطلقاً، سواء كانت الإضافة إلى زمان النطق، فيكون الزمان الماضي والحال والاستقبال حقيقياً، أو كانت الإضافة إلى غيره، فتكون تلك الأزمنة إضافية، فإذا أسند على نحو الإطلاق ـ أي من دون تقييد ـ كـ(ضرب زيد)، و(يضرب عمرو) يقتضي كونه مضافاً إلى زمان النطق، فيدلّ (ضرب زيد) على الماضي الحقيقي، و(يضرب عمرو) على الحال أو الاستقبال الحقيقيين، وإذا أسند على نحو التقييد كـ(يجيئني زيد بعد شهر وقد نجح قبله بأيّام)، فإنّ تقييد (نجح) بقبل المجيء قرينة على إرادة الماضي الإضافي، وكـ(جائني زيد قبل شهر وهو يضرب غلامه في ذلك الوقت أو فيما بعده)، فإنّ تقييد الضرب بذلك الوقت أو بعده قرينة على إرادة الحال أو الاستقبال الإضافيين، ولأجل احتمال أن يكون المراد من الأزمنة الثلاثة هو الأزمنة المضافة مطلقاً، سواء كانت مضافة إلى زمان النطق أو إلى غيره، قال الآخوند O: (وربّما يؤيّد ذلك: أنّ الزمان الماضي في فعله، وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع، لا يكون ماضياً أو مستقبلاً حقيقة لا محالة..)(٣٤).
وفي المحصلة: بما ذكره صاحب الكفاية O من الردود على مسلك النحاة في دلالة الفعل على الزمان، يظهر أنّه لا إشكال في عدم دلالة الفعل على الزمان.
فحينئذٍ يطرح سؤال: بأنّه إذا لم يكن الفعل دالَّاً على الزمان فما هي جهة الفرق الوجداني بين الفعل الماضي والمضارع؛ إذ من الواضح أنّه لا يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر؟
وقد بيّن الآخوند O جهة الفرق هذه بقوله: (نعم، لا يبعد أن يكون لكلّ من الماضي والمضارع بحسب المعنى خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي في الماضي، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع، فيما كان الفاعل من الزمانيّات)(٣٥)، وبحسب كلام الآخوند O إنّ لكلّ من الفعل الماضي والمضارع خصوصية بحسب معناه تختلف عنها في الآخر، تلازم هذه الخصوصية في الفعل الماضي الوقوع في الزمان الماضي، وفي الفعل المضارع الوقوع في الحال أو الاستقبال فيما لو أسندا إلى الفواعل الزمانيّة، ولم تكن قرينة على الخلاف، وتلك الخصوصية هي جهة الفرق بين الفعلين.
وقد وقع الخلاف بين تلامذة الآخوند O حول حقيقة هذه الخصوصية، فذُكرت عدّة تفسيرات:
التفسير الأوّل: أنّ هيئة الفعل الماضي تدلّ على النسبة التحقّقية، وخصوصية التحقّق تقتضي وقوع الحدث في الزمان الماضي إذا أسند إلى الزمانيّ ولم تكن هناك قرينة على خلافه كـ(ضرب زيد)، فإنّ هيئة (ضرَب) تدلّ على تحقّق النسبة بين الحدث وفاعلٍ ما، وبما أنّ زيداً زمانيّ ـ أي واقع في الزمان ـ ففعله زمانيّ أيضاً، فيحتاج إلى الزمان، فضربه المتحقّق لا بدّ أن يقع في الزمان الماضي، وأمّا إذا كان هناك قرينة على خلافه، فلا تحصل النسبة التحقّقية في الزمان الماضي، كما تقدّم في مثل (يجيئني زيد بعد شهر، وقد نجح في الامتحان قبله بأيّام)، فإنّ هيئة (نجَحَ) تدلّ على النسبة التحقّقية، وهي لا تقتضي وقوع النجاح في الزمان الماضي، بل يقع في المستقبل بقرينة (يجيئني زيد بعد شهر). وهيئة الفعل المضارع تدلّ على النسبة الترقّبية، وخصوصية الترقّب تقتضي وقوع الحدث في الزمان الحال أو الاستقبال إذا أسند إلى الزمانيّ ولم تكن هناك قرينة على خلافه كـ(يضربُ عمروٌ)، فإنّ هيئة (يضرب) تدلّ على ترقّب النسبة بين الحدث وفاعلٍ ما، وبما أنّ عَمراً زمانيّ، ففعله زمانيّ أيضاً، فضربه المترقّب لا بدّ أن يقع في الزمان الحال أو الاستقبال.
وأمّا إذا كانت هناك قرينة على خلافه فلا تحصل النسبة الترقّبية في الزمان الحال أو الاستقبال، كما تقدّم في مثل (جاءني زيد قبل شهر وهو يضرب غلامه في ذلك الوقت أو فيما بعده)، فإنّ هيئة (يضرب) تدلّ على النسبة الترقّبية، وهي لا تقتضي الوقوع في الحال أو الاستقبال، بل وقع في الماضي بقرينة (في ذلك الوقت أو فيما بعده)، وعليه الفعل يدلّ على الزمان التزاماً بشرطين:
الأوّل: إذا أسند إلى الزمانيّ.
والآخر: الإطلاق، أي عدم التقييد بزمان آخر.
وبعبارة أخرى: إذا لم تكن هناك قرينة على خلاف ما تقتضيه تلك الخصوصية، فإذا لم يتحقّق الشرط الأوّل بحيث أسند إلى الزمان مثل (مضى الأمس)، أو أسند إلى ما هو فوق الزمان مثل (علم الله)، فالنسبة التحقّقية لا تقتضي الوقوع في الزمان الماضي، وهكذا الفعل المضارع مثل (يأتي الغد)، و(يعلم الله)، فالنسبة الترقّبية لا تقتضي الوقوع في الحال أو الاستقبال.
وبالنتيجة الآخوند O بحسب بعض تلامذته مثل العلّامة المشكيني O(٣٦) والفقيه السيّد الأصفهاني O(٣٧) يرى أنّ خصوصية نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما في الفعل الماضي هي التحقّق، وخصوصية نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما في الفعل المضارع هي الترقّب، فاختلف سنخ معنى الماضي عن سنخ معنى المضارع، واختار هذا التفسير السيّد الخوئي O(٣٨) أيضاً.
وقد ردّ هذا التفسير بعض المعاصرين(٣٩) بوجهين:
الوجه الأوّل: أنّ خصوصية التحقّق في الفعل الماضي توجب شمول مدلوله للحال، وخروجه عن المضارع؛ لأنّ النسبة في المضارع للحال نسبة تحقّقية، مثل (يضرب زيد الآن)، فيكون (يضرب) فعلاً ماضياً، وهذا خلاف الوجدان بوضوح، وخصوصية الترقّب في الفعل المضارع لا تعقل في المضارع للحال مثل (يضرب زيد الآن)، لأنّ الترقّب بمعنى الانتظار، والانتظار لا يُعقل فيما يحصل في الزمان الحاضر، بل الانتظار يتعلّق بما يحصل في المستقبل، وهذا البند من الإشكال لم يطرحه كما طرحناه، بل طرحه بهذا التعبير: (وإنّما ينشأ الإشكال في المثال من أنّ المفهوم من (أترقّب) ـ مثل (أرجوا وآمل وأحذر وأخاف وأعلم..) وما يشابهها ـ هو الزمان الحاضر، ولا معنى للترقّب فيما أفيد حصوله في الزمان الحاضر).
وتوضيحه: أنّ الفعل المضارع لو كان (أترقّب) في مثل (أترقّب سفر زيدٍ) فالترقّب في هذا الفعل كالرجاء في (أرجو)، والأمل في (آمل)، والحذر في (أحذر)، والعلم في (أعلم)، والخوف في (أخاف)، كلّ هذه المعاني حاصلة في الزمان الحاضر، فلو كان المضارع المأخوذ من هذه الموادّ دالَّاً على الترقّب يعني ذلك أنّ ما هو حاصلٌ في الزمان الحاضر يترقّب حصوله، وذلك غير معقولٍ، وهذا البيان يتعلّق بالمضارع في مادّة معيّنة، وهي (الترقّب).
وأمّا بياننا فيتعلّق بالمضارع في أيّة مادّة كانت.
الوجه الآخر: أنّ خصوصية الترقّب لا تناسب مدلول المضارع في جملة من الموارد، كموارد صرف المضارع إلى المستقبل بـ(السين)، و(سوف)؛ إذ المصروف إليه هو الحدث دون الترقّب، ومورد ما لو قيل (إنّي أترقّب أن يسافر زيد)، فإنّه لا معنى لاشتمال الفعل في مثل المثال على خصوصية الترقّب؛ إذ يكون المعنى معه (إنّي أترقّب ترقّب سفر زيد)، وهو غير مقصود بلا كلام، وهذا المورد الأخير ذكره تبعاً للسيّد الروحاني O(٤٠).
وعليه فلا بدّ من تجريد الفعل المضارع من خصوصية الترقّب، واستعماله في تحقّق النسبة فقط، وبذلك يكون هذا الاستعمال مجازاً، وفي الاستعمال المجازي لا بدّ من ملاحظة العلاقة بينه وبين النسبة الترقّبية، والحال أنّ العرف لا يلاحظ أيّ علاقة في استعمال المضارع في هذين الموردين، وهذان الوجهان للردّ على التفسير المتقدّم وجيهان.
التفسير الثاني: أنّ المادّة في الفعل الماضي تدلّ على الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود، والمادّة في الفعل المضارع تدلّ على الحدث الذي لم يخرج من العدم إلى الوجود سابقاً، بل يخرج بعده، والخصوصية الأولى ـ وهي الخروج من العدم إلى الوجود ـ تقتضي وقوع الحدث في الزمان الماضي بشرطين:
الأوّل: الإسناد إلى فاعل زمانيّ.
الآخر: الإطلاق وعدم التقييد بزمان آخر غير الزمان الماضي كما تقدّم.
والخصوصية الأخرى ـ وهي عدم الخروج من العدم إلى الوجود سابقاً ـ تقتضي وقوع الحدث في الحال أو الاستقبال بالشرطين المتقدّمين، وهذا التفسير اقترحه تلميذ الآخوند O السيّد الحكيم في حقائق الأصول(٤١).
وقد ردّ هذا التفسير بعض المعاصرين(٤٢) بوجهين:
الوجه الأوّل: أنّ خصوصية الخروج تنسجم مع الحال كالماضي، ففي (يضرب زيد الآن) خرج الضرب من العدم إلى الوجود، فلو بني عليه لزم شمول مدلول الماضي للحال، وخروجه عن المضارع، وهذا خلاف الوجدان بداهة.
الوجه الآخر: أنّ الخروج لو عبّر بالفعل الماضي (خرج الحدث من العدم إلى الوجود) يستلزم الدور؛ لأنّ معرفة مدلول الفعل الماضي تتوقّف على معرفة معنى (خرجَ)، ومعرفة معناه تتوقّف على معرفة الفعل الماضي، وإن عبّر بالاسم (خروج الحدث من العدم إلى الوجود) يكون هذا الخروج أعمّ من أن يحصل في الماضي أو غيره، فلا يحدّد معنى الفعل الماضي، وبالتالي لا يكون نافعاً.
ولكن هذا الردّ غير مقبول؛ إذ يمكن أن يقال إنّ المقصود من الخروج في الفعل الماضي هو تمامية الخروج، ومن عدم الخروج في الفعل المضارع عدم تماميته، وعلى هذا المعنى يدفع الوجه الأوّل بأنّ خروج الحدث من العدم إلى الوجود غير حاصل في الفعل المضارع للحال؛ إذ الخروج لم يتمّ فيه، فلا يدخل المضارع للحال في الفعل الماضي، ويدفع الوجه الآخر أيضاً؛ إذ يعبّر عن الخروج بالاسم، وهو تمامية الخروج، وهي لا تعمّ المضارع للحال.
وأمّا ما قيل من أنّه لا بدّ من ذكر شواهد تساعد على استظهار ما رُدّ به، وإلّا كانت دعوى مجرّدة، فغير مقبولٍ:
أوّلاً: لوجود شاهد على ذلك حيث قال: (وخصوصية المضارع أنّ الحدث المدلول عليه به لم يخرج في الماضي من القوّة إلى الفعل، بل يخرج بعده)، ففي هذا النصّ الذي يتحدّث عن خصوصية المضارع إشارتان:
الأولى: في قوله: (لم يخرج في الماضي من القوّة إلى الفعل)، فإنّه يشير إلى أنّ في الفعل الماضي الذي هو في مقابل المضارع خرج الحدث من القوّة إلى الفعل في الماضي، وهذا يعني أنّ الخروج مفروغ عنه، وهذا يساوق التمامية.
الأخرى: في قوله: (بل يخرج بعده)، فإنّه يشير إلى أنّ في الفعل المضارع يخرج الحدث من القوّة إلى الفعل بعد الماضي، وهذا يعني أنّ الخروج ليس مفروغاً عنه، وهذا يساوق عدم التمامية.
وثانياً: على فرض التسليم بعدم الشاهد في كلام القائل، فإنّ مجرّد احتمال أن يكون المقصود من الخروج هو تماميته، ومن عدمه هو عدم تماميته كافٍ لدحض الردّ المتقدّم، فلا حاجة إلى شاهد على ذلك؛ إذ الردّ على كلام الخصم بمثابة الاستدلال على بطلانه، فإذا جاء في كلامه احتمال قصد ما ينقض الردّ يبطل الردّ، من باب إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
ولكن المشكلة في هذا التفسير للسيّد الحكيم O أنّه لا يصدق على الفعل المسند إلى ما فوق الزمان، مثل (علم الله) و(يعلم الله)؛ لأنّ العلم في الله تبارك وتعالى ليس معدوماً حتّى يتصوّر فيه الخروج من العدم إلى الوجود أو عدم خروجه من العدم إلى الوجود، والحال أنّ إسناد الفعل إلى الزمانيّ مثل (علم زيد)، و(يعلم زيد) كإسناده إلى ما فوق الزمان، وعليه فلا بدّ من بيان خصوصية أخرى غير ما ذكر في التفسير الأوّل والثاني.
التفسير الثالث: ما أفاده المحقّق الأصفهاني O(٤٣)، وحاصله أنّ النسبة الثبوتية بين الحدث وفاعلٍ ما هي مدلولة الفعل إلّا أنّها ليست مطلقة، بل مقيّدة بالسبق في الفعل الماضي بحيث يكون القيد خارجاً والتقييد داخلاً.
وبعبارة أخرى: الحصّة من النسبة الثبوتية ـ وهي المقارنة بالسبق ـ مدلولة للفعل الماضي، وتلك النسبة تكون مقيّدةً باللحوق في الفعل المضارع بحيث يكون القيد خارجاً والتقييد داخلاً، وذهب إلى هذا النحو من أخذ السبق واللحوق في الفعل:
أوّلاً: حتّى لا يستشكل أنّهما من المعاني الاسمية، فكيف أخذا في مدلول الهيئة في الفعل؟!
وثانياً: مقصوده من السبق واللحوق هو السبق واللحوق بمِلاك أنّ المتقدّم والمتأخّر لا يجتمعان في الوجود، وهما بهذا الملاك يشملان السبق واللحوق الزمانيّين والسرمديّين، وتقدّم توضيحهما آنفاً، ففي كليهما لا يجتمع المتقدّم والمتأخّر في الوجود، وارتكب هذا التعميم لتصحيح السبق فيما لو أسند الفعل إلى الباري سبحانه كـ(علم الله بما سواه)، وقد تقدّم توضيح ذلك في الردّ على النقض الثاني.
وثالثاً: مقصوده من السبق واللحوق الزمانيّين هو الأعمّ من أن يكونا بالذات أو بالعرض، وارتكب هذا التعميم:
أوّلاً: لتصحيح السبق واللحوق فيما لو أسند الفعل إلى الزمان كـ(مضى الأمس)، و(يأتي الغد)، كما تقدّم في الردّ على النقض الأوّل.
وثانياً: لتصحيح السبق واللحوق فيما لو أسند الفعل إلى الباري سبحانه كـ(علم الله بقتل فلان)، و(يعلم الله بقتل فلان) فلو كان المقصود من العلم هو العلم في مرتبة الذات لكان علمه سابقاً ولاحقاً بالعرض لمعيّته القيّومية للسابق واللاحق، وإذا كان المقصود من العلم هو العلم في مرتبة الفعل فيكون علمه سابقاً ولاحقاً بالعرض لاتّحاده مع السابق واللاحق كما تقدّم في الردّ على النقض الثاني.
ورابعاً: مقصوده من اللحوق هو الحصول بالنسبة إلى السابق فيكون اللاحق ما يوجد بعده، وهذا المعنى يعمّ الحال والمستقبل في الزمان والزمانيات لكونهما بعد الماضي وارتكب هذا التعميم للردّ على النقض الثالث.
وخامساً: مقصوده من السبق واللحوق الزمانيّين هو الأعمّ من أن يكونا مضافين إلى زمان النطق حتّى يكون السبق واللحوق حقيقيّين أو إلى غيره، حتى يكونا إضافيّين، وارتكب هذا التعميم للردّ على النقض الرابع، وبارتكاب هذه التعميمات الأربعة ردّ المحقّق الأصفهاني O على نواقض أستاذه الآخوند O.
والفرق بين ما ذُكر من التفسيرين من قِبل العلّامة المشكيني O والسيّد الحكيم O للخصوصية التي اقترحها الآخوند O وبين هذا التفسير، أنّه بحسب التفسيرين الفعل الماضي يدلّ على خصوصية التحقّق أو الخروج من العدم إلى الوجود مطابقةً، ويدلّ على الزمان الماضي التزاماً، والفعل المضارع يدلّ على الترقّب أو عدم الخروج مطابقةً، ويدلّ على زمان الحال أو الاستقبال التزاماً، بينما على التفسير الثالث الذي اختاره المحقّق الأصفهاني O يدلّ الفعل الماضي على نسبة خاصّة، وهي النسبة السابقة، فيدلّ على السبق تضمّناً؛ لأنّه قيد لمدلوله، ويدلّ المضارع على نسبة خاصّة، وهي النسبة اللاحقة، فيدلّ على اللحوق تضمّناً؛ لأنّه قيد.
هذا ما صرّح به تلميذه السيّد الروحاني O بقوله: (فيكون السبق أو الزمان مدلولاً ضمنياً للفعل، بخلافه على الأوّل فإنّه مدلول التزاميّ)(٤٤).
ولكنّنا لا نوافق السيّد الروحاني O في هذا الكلام، بل نستفيد من كلام المحقّق الأصفهاني O أنّ الفعل يدلّ على السبق في الماضي واللحوق في المضارع التزاماً؛ لأنّه يقول بأنّ تقييد النسبة بالسبق واللحوق داخل في مدلول الهيئة، والقيد خارج، ونصُّ كلامه: (إنّ هيئة الماضي موضوعة للنسبة المتقيّدة بسبق الزمانيّ على ما أضيفت إليه ـ بالمعنى المتقدّم من السبق ـ بنحو يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً)(٤٥) ومع خروج القيد كيف يكون مدلولاً تضمّنياً.
وحينئذٍ يكون الفرق بين كلام الآخوند O بحسب التفسيرين الأوّل والثاني، وبين كلام المحقّق الأصفهاني O هو أنّ الزمان يكون مدلولاً التزامياً بشرطين على حسب التفسيرين لأخذ خصوصية في معنى الفعل، بينما السبق واللحوق الزمانيّان يكونان مدلولين التزاميين على قول المحقّق الأصفهاني O مطلقاً لأخذهما قيداً في معناه.
واستشكل السيّد الروحاني O في هامش المنتقى على التفسير الثالث بإشكالين:
الإشكال الأوّل: (أنّ أخذ التقيّد بالسبق أو بالزمان في مدلول الفعل يستدعي لحاظ الطرفين تفصيلاً .. ومن الواضح أنّه عند استعمال الفعل لا يلحظ السبق أو الزمان تفصيلاً، والمفروض أخذ أحدهما طرفاً للتقيّد والنسبة)(٤٦).
وفي هذا الإشكال يقول السيّد O لو كان السبق قيداً لمدلول الفعل ـ وهو نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما ـ للوحظ هذا المعنى عند سماعه، والحال أنّه لم يلحظ السبق من سماع الفعل.
وهذا الإشكال غير مقبول؛ لأنّ المحقّق الأصفهاني O لم يقل: إنّ مفهوم السبق أو اللحوق أخذا قيداً لمدلول الفعل حتّى يلحظ مفهومهما عند سماعه، بل قال: إنّ النسبة مع خصوصية السبق أو اللحوق أخذت في مدلول الفعل، ويعني ذلك أنّ النسبة المندمجة مع السبق أو اللحوق مدلولة، والتي تُحلّل إلى نسبة وسبق في الفعل الماضي، ونسبة ولحوق في الفعل المضارع، فلم يلحظ مفهومهما، بل يتبادر إلى الذهن النسبة بخصوصية السبق أو اللحوق.
الإشكال الآخر: (أنّ اختلاف نسبة المضارع والماضي إذا كانت بالتقيّد كان مقتضى ذلك جواز استعمال أحدهما موضع الآخر مجازاً كما لا يخفى على من لاحظ الأمثلة العرفية، مع بداهة غلطية قولنا (يجيء زيد أمس)، و(جاء زيد غداً)، فيكشف ذلك عن اختلاف مفهوميهما سنخاً وحقيقةً، وهو ما التزمنا به)(٤٧)، وفي هذا الإشكال يقول السيّد O إنّ اختلاف معنى الماضي والمضارع إذا كان بالقيد والمعنى متّحداً فكلاهما يدلّان على النسبة الثبوتية، غاية الأمر تلك النسبة في الماضي مقيّدة بالسبق، وفي المضارع مقيّدة باللحوق لجاز استعمال أحدهما مكان الآخر، والحال أنّه لا يجوز حتّى مجازاً، فلا يقال: (جاء زيد غداً) لا حقيقةً ولا مجازاً، وهكذا لا يقال: (يجيء زيد أمس) لا حقيقةً ولا مجازاً، وهذا يعني أنّ المعنى للفعلين مختلفان سنخاً.
وهذا الإشكال غير مقبول؛ لأنّ الاستعمال المجازي لا يصحّ إلّا بلحاظ العلاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي، وعليه نتساءل أنّ (جاء) في مثل (جاء زيد غداً) هل استعمل في النسبة الثبوتية المقيّدة باللحوق بقرينة (غداً)؟ فحينئذٍ لا علاقة بين هذا المستعمل فيه لـ(جاء) ومعناه الحقيقي، وهو النسبة الثبوتية المقيّدة بالسبق؛ للتضادّ بينهما، فلا يكون الاستعمال مجازاً، أو استعمل في النسبة الثبويتة فقط، ولكن قيد اللحوق استفيد من (غداً)؟ فحينئذٍ:
إمّا أن يكون هذا الاستعمال بعلاقة الخاصّ ـ وهو النسبة الثبوتية المقيّدة بالسبق ـ والعامّ ـ وهو النسبة الثبوتية ــ فهذا الاستعمال لا يصحّ إلّا مع المناسبة المصحّحة، وإلّا لجاز استعمال كلّ لفظٍ موضوعٍ لشيءٍ في ما هو أعمّ منه.
وإمّا أن يكون هذا الاستعمال بعلاقة الكلّ ـ وهو النسبة المقيّدة بالسبق ـ بالجزء ـ وهو النسبة الثبوتية ـ فهذا الاستعمال لا يصحّ على مسلك السكاكي في المجاز إلّا بتنزيل الجزء منزلة الكلّ، وهذا التنزيل لا يتحقّق في ما نحن فيه؛ إذ لا معنى لتنزيل ذات المعنى بمنزلة المعنى بقيد السبق، ولا يصحّ على المسلك المشهور في المجاز إلّا إذا كان الكلّ كلَّاً عينياً، والجزء من الأجزاء المهمّة بحيث يعبّر به عن الكلّ، كالرقبة من الإنسان في نحو تحرير رقبةٍ (أي: عبدٍ) وكالرأس من الإنسان في نحو جاء رأسٌ منهم (أي: فردٌ منهم) وكالروح من الإنسان في نحو استهدف روح فلانٍ (أي: شخص فلانٍ) ففي مثل قولك: (رأيت زيداً) وقصدت رؤية وجهه قد استعملت زيداً في وجهه، وهو جزءٌ منه، ويكون هذا الاستعمال مجازاً؛ لتوفّر الشرطين، وأمّا في مقام البحث معنى (جاء) ليس كلَّاً عينياً فإنّه النسبة الثبوتية والتقيّد بالسبق، وهذا المعنى كلٌّ ذهنيٌ تحليليٌ، فلا يجوز استعمال (جاء) في النسبة الثبوتية مجازاً، فعلى كلا المسلكين لا يجوز استعمال (جاء) مجازاً في النسبة الثبوتية فقط، واللحوق مُستفادٌ من (غداً)؛ لعدم العلاقة المصحّحة للاستعمال المجازي، وبالنتيجة لا يصحّ استعمال (جاء زيدٌ غداً) على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز، والكلام نفسه يجري في المثال الآخر، وهو (يجيء زيد أمس).
وبكلّ ما تقدّم نرى أنّ أرجح الأقوال في مسألة دلالة الأفعال على الزمان هو قول المحقّق الأصفهاني O.
مصادر البحث
القرآن الكريم.
(١) التعريفات (الشريف الجرجاني): ٧٢.
(٢) يلاحظ: كفاية الأصول (تعليقة المشكيني): ١/ ٢٢٨.
(٣) يلاحظ: كفاية الأصول (تعليقة المشكيني): ١/ ٢٢٨ ـ ٢٢٩.
(٤) يلاحظ: نهاية الدراية: ١/ ١٧٧.
(٥) مباني الأصول: ٤/ ١٢١.
(٦) يلاحظ: شرح المنظومة (الحكيم السبزواري ط حجرية): ٨٣.
(٧) يلاحظ: نهاية الحكمة: ٣/٨٧٩.
(٨) مباني الأصول: ٤/ ١٢١.
(٩) نهاية الدراية: ١/١٧٧.
((١٠] نهاية الدراية: ١/١٧٨.
(١١) يلاحظ: مباني الأصول: ٤/ ١٢١ ـ ١٢٢.
(١٢) يلاحظ: منتقى الأصول: ١/ ٣٣٨.
(١٣) يلاحظ: نهاية الدراية: ١/ ١٧٧ ـ ١٧٨.
(١٤) التوحيد: ٥٧.
(١٥) مباني الأصول: ٤/ ١٢٣.
(١٦) من خلال البحث يظهر أنّه زمانيّ بالعرض.
(١٧) يلاحظ: مباني الأصول: ٤/ ١٢٤ ـ ١٢٥.
(١٨) المعجم الوسيط: ١/ ٦٦.
(١٩) أقرب الموارد: ١/ ١٩١.
(٢٠) أقرب الموارد: ٢/ ٢٥٤.
(٢١) مجمع البحرين: ٦/ ٦٥.
(٢٢) مباني الأصول: ٤/ ١٢٥.
(٢٣) سورة يوسف: ١٣.
(٢٤) سورة لقمان: ٣٤.
(٢٥) سورة الأنبياء: ١٠٩.
(٢٦) سورة المسد: ٣.
(٢٧) سورة النجم: ٤٠.
(٢٨) سورة الأعراف: ١٤٢.
(٢٩) سورة البقرة: ١٨٤.
(٣٠) سورة النساء: ١٢٩.
(٣١) سورة البقرة: ١٨٣.
(٣٢) كفاية الأصول (مع تعليقة العلّامة المشكيني): ١/ ٢٣١.
(٣٣) مقالات الأصول: ١/ ١٧٥.
(٣٤) كفاية الأصول: (مع تعليقة العلّامة المشكيني): ١/ ٢٣٢.
(٣٥) المصدر السابق: ١/ ٢٣٠.
(٣٦) يلاحظ: كفاية الأصول (تعليقة العلّامة المشكيني): ١/ ٢٣١.
(٣٧) يلاحظ: وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول: ١/ ١٤١.
(٣٨) يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي: ٤٣/ ٢٦٨ ـ ٢٦٩.
(٣٩) يلاحظ: مباني الأصول: ١/ ١١٢.
(٤٠) يلاحظ: منتقى الأصول: ١/ ٣٣٧.
(٤١) يلاحظ: حقائق الأصول: ١/ ١٠٢.
(٤٢) يلاحظ: مباني الأصول: ٤/ ١١٠.
(٤٣) يلاحظ: نهاية الدراية: ١/ ١٨١.
(٤٤) منتقى الأصول: ١/ ٣٣٨.
(٤٥) نهاية الدراية: ١/ ١٨١.
(٤٦) منتقى الأصول: ١/ ٣٣٩.
(٤٧) المصدر السابق.